تمثّل حالات تشوّه الأجنّة والعيوب الخلقية في قطاع غزة، نتاجًا مباشرًا لسياسات السيطرة القسرية والممنهجة لإدارة الموت وإخضاع المجتمع الفلسطيني على المستوى الأكثر حميمية في سياق حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة، حيث يصبح الجسد وسيلةً لإعادة إنتاج الهيمنة السياسية والاجتماعية، فلا تُفسَّر ظاهرة ولادات الأجنّة المشوّهة بوصفها مجرّد مشكلات صحية وحالات بيولوجية فردية أو تبعات طارئة وعشوائية للحرب؛ وإنما كمنتج سياسي وانعكاس مباشر لطبيعة الصراع المستمر، الذي يمتد من الأرض إلى الأجساد ليطال أساس الحياة نفسها، ومن الزمن الحاضر إلى المستقبل الديمغرافي للفلسطينيين، وبوصفها “سجلات بيولوجية” للعنف المستمر، ومؤشرات على مدى الهيمنة الاستعمارية في الحياة اليومية للفلسطينيين، من مستوى الخلية البيولوجية إلى مستوى المجتمع بأكمله.
وفي هذا الإطار، تتحوّل الأجنّة الفلسطينية إلى مواقع حيوية لصراع سياسي-استعماري وبيولوجي، حيث لا يقتصر تأثير الاحتلال على تدمير البنى التحتية والمجتمعات وممارسة العنف المادي، بل يشمل أيضًا التحكّم في حياة الأجيال القادمة.
يطرح هذا المقال كيفية استخدام الاحتلال الإسرائيلي لآليات “النيكروبوليتيك” أو سياسات الموت لإخضاع السكان الفلسطينيين، ليس فقط جسديًا، وإنما بيولوجيًا وزمنيًا، بحيث تتعرّض الأجيال القادمة لتقييد إمكاناتها الحيوية والبيولوجية قبل أن تولد، بحيث تتأثّر إمكانات الحياة المستقبلية على نحو مباشر ومستدام، خاصة مع وجود أكثر من 160 ألف جسد جريح. وذلك بالتركيز على الجسد الفلسطيني كمساحة استعمارية حيوية تتقاطع فيها السلطة والسياسة والحرب، حيث تصبح التشوّهات الخلقية أدلة عضوية وملموسة على العنف البيولوجي الممارس من قبل الاحتلال، ووسائل لإعادة إنتاج السيطرة على المجتمع الفلسطيني.
هذا السياق يستلزم قراءة التشوّهات الخلقية كسجلات متراكمة للعنف الممنهج، تكشف عن سياسات طويلة الأمد تهدف إلى إعادة إنتاج الهيمنة والسيطرة عبر الأجيال، ممّا يعيد صياغة العلاقة بين الاحتلال والزمن، وبين القوة والسيادة على الحياة نفسها.
آليات نشوء التشوّهات الخلقية في سياق حرب غزة
تشكل التشوّهات الخلقية (الداخلية والخارجية) مثالًا على تكامل العنف الإسرائيلي في قطاع غزّة، حيث يمتد من السياسة والاجتماع إلى الجسد والنفس، ونتيجةً مباشرة لتداخل العوامل العسكرية والسياسية والبيئية التي يفرضها الاحتلال، فالنساء الحوامل يتعرّضن لمستويات متكررة من الإشعاعات (أبرزها اليورانيوم) والغازات السامة والمواد الكيميائية الناتجة عن سياسة الأرض المحروقة والقصف المستمر بالأسلحة المحرّمة دوليًا، كالفوسفور الأبيض وقنابل “الدايم”، والتي تؤثّر على النمو الجنيني في مراحله الأكثر حساسية، لتتحوّل بذلك الحرب إلى عامل عضوي محدّد للمصير البيولوجي للولادات المستقبلية، وتتحوّل سياسة السيطرة العسكرية إلى تدخّل بيولوجي مباشر في دورة الحياة الطبيعية، وأداة للتحكّم في إمكانات الحياة نفسها، وهو ما لا يمكن فصله عن السياق العسكري والسياسي الاستعماري، إذ إن جميع الأشكال المتعدّدة للعنف التي تمارسها الدولة الإسرائيلية تُنتج المرض والموت.
كما يشكّل الحصار المستمر وسياسة التجويع الإسرائيلية ونقص الرعاية الصحية الأساسية، سياقًا متكاملًا يضاعف احتمالات التشوّهات، فعدم توفّر التغذية الكافية والمكمّلات الضرورية للنساء الحوامل، بالإضافة إلى نقص الخدمات الطبية المتخصّصة، يضع الجنين تحت ضغط عضوي متزايد، يعكس آثار العنف الهيكلي على السكان، والذي يهدف إلى “تفكيك أنظمة الصحة الإنجابية والبدنية والنفسية”.
ولا يمكن إغفال الدور المؤثّر الذي يلعبه العنف أو الضغط النفسي والخوف والتوتر المستمر من تأثيرات بيولوجية حقيقية على نمو الأجنّة، التي تجاوزت نسبة تشوّهها الـ25% وفقًا لما أفاد به مدير الإغاثة الطبية في مدينة غزّة والشمال في مايو/ أيار 2025. وهو ما يحوّل الظروف النفسية والاجتماعية إلى عوامل سياسية-عضوية، تكرّس تأثير الاحتلال على مستوى البيولوجيا قبل الولادة. وبذلك تتفاعل هذه العوامل جميعها بشكل تراكمي لتشكّل منظومة متكاملة ومعقّدة من العنف العضوي والسياسي والاجتماعي، تجعل التشوّهات الخلقية وثائق وشواهد حيّة للعنف الاستعماري المستمر، ونتيجة تراكمية للسياسات النيكروبوليتيكية التي تدير الموت وتتحكّم في كيفيته عبر الأجيال.
الاحتلال كاستعمار بيولوجي: السيطرة على الجسد قبل الولادة
يمتد تأثير حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على القطاع إلى المستوى الأكثر حميمية للحياة البشرية، ليشمل الجسد الفلسطيني نفسه منذ مراحل تكوينه الأولى، فتتحوّل الأجنّة إلى مساحة استعمارية حيّة تتعرّض لإعادة تشكيل قسرية، حيث لا يقتصر القصف والحصار على الأثر المادي المباشر، بل يشمل تأثيرات بيئية ونفسية واجتماعية متراكمة تمتد لتعيق النمو الطبيعي للأجنّة، وتخلق مخاطر التشوّهات الخلقية وتزيد من احتماليتها. وهذا الامتداد الاستعماري البيولوجي يؤكد على أن الاحتلال ليس مشروعًا سياسيًا أو جغرافيًا فقط، وإنما مشروعٌ يمتد إلى إدارة الحياة نفسها، وفرض الحدود على إمكانات البقاء وكيفيته، عبر التحكّم في البنية الحيوية للأجيال القادمة.
وتتماشى هذه السيطرة البيولوجية على الجسد والأجنّة مع مفهوم “النيكروبوليتيك”/(سياسات الموت) الذي طوّره أشيل مبيمبي، بوصفه ممارسة سيادية تقوم على ضبط حدود الحياة وإمكانية الموت وتحديد شروطهما بشكل منهجي، حيث تُمارس السلطة حقّها في تقرير من مؤهّل للحياة ومن يُترك ليواجه الموت. كما يرى مبيمبي بأنّ “أكثر تجلّيات سلطة الموت اكتمالًا تتمثّل اليوم في بنية الاحتلال الاستعماري المعاصر لفلسطين”، ومنه يمكن القول بأنّ سيطرة “النيكروبوليتيك” امتدّت في سياق حرب الإبادة في غزّة لتمارس على الحياة قبل أن تولد أساسًا (أي على الأرحام والخلايا الجينية)، لتصبح الوجودات المستقبلية مرهونة بممارسات سياسية حالية، حيث يلتقي العنف المادي مع الهيمنة الرمزية، ويصبح الحمل ذاته، والولادة، وحتى إمكانيات الحياة المستقبلية، تحت سلطة مشروع استعماري طويل الأمد، ومشروطة بإرادة القوة الاستعمارية. وعليه، فإنّ كل تشوّه خلقي أو مضاعفات صحية للأجنّة ليست مجرد حوادث طبية عرضية، بل انعكاس مباشر لسلسلة متكاملة من السياسات والممارسات والعوامل البيئية والاجتماعية الاستعمارية، التي توظَّف لتستهدف تقييد قدرة الحياة الفلسطينية الطبيعية.
فمن منظور سوسيولوجي، يتيح هذا الفهم قراءة الجسد الفلسطيني كأداة لإعادة إنتاج الهيمنة الاجتماعية والسياسية بأشكال ووسائل استعمارية متعددة، بوصفه عنصرًا أساسيًا في معادلة السيطرة والهيمنة التي تمتد عبر الزمن والمكان. فالعنف هنا يمتد إلى البنية البيولوجية والزمنية للمجتمع الفلسطيني، حيث يصبح الحمل والولادة جزءًا من الصراع السياسي المستمر. وبعبارة أخرى، تتحوّل الولادة نفسها إلى حدث سياسي قبل أن تكون إنسانية بحتة، ويصبح الجسد وثيقة حيّة تكشف عن طبيعة الاستعمار البيولوجي المعاصر في قطاع غزّة.
كما تتجاوز ممارسات حرب الإبادة المستوى الحاضر، لتصبح عاملًا مؤثّرًا في المستقبل الاجتماعي والديمغرافي، إذ يُستهدف الإمكان البيولوجي للأجيال القادمة بشكل ممنهج، فتتحوّل التشوّهات إلى علامات على قيود مفروضة مسبقًا على قدرة المجتمع الفلسطيني على الاستمرار الطبيعي والتطوّر الاجتماعي. إذ إنّ هذا العنف، الذي يظهر في تشوّهات الأجنّة، يجعل الحياة الفلسطينية مرتبطة منذ بداياتها بالعجز والمعاناة، وهذا شكلٌ من أشكال السيطرة الاستعمارية يمتد عبر الزمن، حيث يتحوّل المستقبل البيولوجي والاجتماعي للمجتمع إلى مساحة للصراع السياسي والتحكّم المنهجي، ما يجعل حرب الإبادة استراتيجية مستمرة ومتعدّدة المستويات، تمتد من الحاضر إلى المستقبل، ومن الخلية إلى المجتمع ككل.
الأجنّة كحدود عضوية للصراع الاستعماري
تُبيّن ظاهرة الولادات المشوّهة في قطاع غزّة أن سياسات الإبادة الاستعمارية فيه لم تقتصر على الأرض والموارد والأجساد الحيّة بشكلها الظاهر، بل امتدّت لخلق حدود غير مرئية داخل الجسد نفسه، تجعل من كل جنين موقعًا لتطبيق السلطة، ومرآة للعنف المستمر الذي يُمارس على المجتمع ككل. حيث يمكن اعتبار الأجنّة الفلسطينية في سياق حرب الإبادة الراهنة حدودًا عضوية حيّة للصراع، بمعنى أن الجسد قبل الولادة يصبح مساحةً للتأثير السياسي والسيطرة الاستعمارية، تمامًا كما تُفهم الحدود الجغرافية التقليدية كأرض خاضعة للسيطرة والسيادة، بفارق أن الحدود العضوية ليست مرئية، بل هي حدود داخلية تتشكّل على مستوى الخلايا والأنسجة والأعضاء، حيث تتحكّم السياسات العسكرية والاقتصادية والبيئية في إمكانيات الحياة الطبيعية لكل جنين، وهي حدود تفصل بين إمكانات البقاء الطبيعي والموت البيولوجي؛ الصحة والإعاقة؛ والنمو الطبيعي والنقص المزمن.
وبهذا المعنى، تتحوّل الأجنّة إلى نقاط تماس عضوية بين السياسة والحياة، حيث تتقاطع السلطة والنيكروبوليتيك مع البيولوجيا والجغرافيا الاجتماعية، وتجسّد الحدود غير المرئية التي يسعى الاحتلال إلى تثبيتها داخل المجتمع الفلسطيني، فكل تشوّه خلقي أو مضاعفات صحية للأجنّة يمثّل ترسيمًا عمليًا لهذه الحدود العضوية، ويحوّل الجسد إلى وثيقة حيّة للصراع المستمر، تكشف عن مدى تغلغل السياسات الاستعمارية في الحياة اليومية للأفراد والمجتمع، وفي أعمق مستوياتها الإنسانية والحميمية.
كما يمكن تصوّر الحدود العضوية كـ”خط زمني حيّ” يمتد عبر الأجيال، إذ كلّ تدخّل، سواء كان حصارًا أو قصفًا، تلوّثًا بيئيًا، أو ضغطًا نفسيًا على النساء الحوامل، يمثّل أدوات لإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني على مستوى عضوي وديمغرافي، ويترك آثارًا مباشرة على الأجنّة ويعيد رسم إمكاناتهم المستقبلية؛ بيولوجيًا واجتماعيًا قبل ولادتها. إذ تظهر حدود السيطرة في داخل الجسم، وتترسّخ فيها قدرة الاحتلال على فرض قيود مسبقة على الحياة المستقبلية، والقدرة الطبيعية للمجتمع الفلسطيني على الاستمرار والنمو الاجتماعي والنفسي. إذ تتحكّم السياسات الحالية في الإمكانات الحيوية للأجيال القادمة، ما يجعل العنف البيولوجي امتدادًا طبيعيًا للهيمنة الاستعمارية. وعليه، يمكن اعتبار الأجنّة أدوات لإظهار السيطرة الرمزية والسياسية، إذ يكتسب كل جنين مشوّه بُعدًا مزدوجًا؛ جسديًا واحتلاليًا. فالجسد المشوّه يصبح شهادةً على العنف المستمر، وعلى قدرة الاحتلال على فرض حدود الحياة نفسها.
ومن منظور سوسيولوجي، يمكن القول إنّ الحدود العضوية تتيح أيضًا فهم العلاقة بين الفرد والمجتمع عبر طبقات متعددة من السيطرة. فهي تربط بين الجسد ككائن بيولوجي، والسياسة كأداة للهيمنة، والزمن الاجتماعي كمسار مستقبلي للأجيال، ما يجعل الأجنّة ليست فقط موضوعًا بيولوجيًا، بل موقعًا استراتيجيًا للصراع، ونقطة انطلاق لتحليل أثر الاحتلال على المستقبل السكاني والاجتماعي بأسره. وعليه، فإنّ الاحتلال يُمارس عنفًا متراكمًا عبر الزمن، بحيث تصبح حياة كل جيل جديد من الأجنّة مشروطة بالظروف المفروضة، وكل تشوّه خلقي أو مضاعفات صحية تمثّل إشارةً إلى المستقبل المحدود الذي يفرضه الاحتلال. وبذلك، فإنّ مفهوم الحدود العضوية يوسّع إدراكنا للسيطرة الاستعمارية في حرب الإبادة، ليشمل الحياة قبل الولادة والزمن المستقبلي.
العنف الزمني كاستراتيجية استعمارية
يُعدّ العنف الزمني أحد أعمق أبعاد السيطرة الاستعمارية الإسرائيلية في قطاع غزّة، إذ يتجاوز تأثير الاحتلال اللحظة الراهنة من عنف الحصار والهجمات المباشرة، ليصل إلى المستقبل السكاني قبل أن يولد أيّ فرد. فلا يكتفي الاحتلال بالسيطرة على الأرض أو الموارد أو الحياة اليومية، وإنما يتدخّل في دورة الحياة الطبيعية نفسها، ليصبح الجسد الفلسطيني “الذي تُنقش على جلده وزمنه وحيّزه الممارسات الاستعمارية الإسرائيلية”، حتى قبل الولادة، ساحةً لتطبيق سياسات الموت، وهو ما يُظهر العلاقة بين السياسات الاستعمارية والجسد الفلسطيني عبر أجيال متعددة. فكل تشوّه خلقي أو مضاعفات صحية للأجنّة هو أثرٌ مباشر لعنف متراكم يمتد عبر الزمن، ويعيد تشكيل الإمكانات الحيوية للمجتمع الفلسطيني على المستوى العضوي والاجتماعي والزمني.
حيث يترك الاحتلال من خلال القصف؛ التلوّث البيئي، وتراكم الأزمات البيئية خلال الحرب وبعدها؛ الحصار الغذائي والدوائي؛ والضغط النفسي على النساء الحوامل، ومضاعفات ذلك مستقبلًا، آثارًا عضوية ونفسية حقيقية على الجيل القادم، من ناحية جسدية واجتماعية واقتصادية. وهو ما يُظهر مدى التداخل بين العنف البيولوجي والزمني والسياسي، ويؤكّد العملية التراكمية لعنف الحرب الإسرائيلية على غزّة وامتداداته عبر الأجيال، بما يجعل كل فرد مستقبلي متأثّرًا بالسياسات الحالية قبل أن يُولد.
كما يخلق العنف الزمني أثرًا رمزيًا واجتماعيًا يمتد إلى المجتمع ككل، إذ تتحوّل كل ولادة مشوّهة، إلى جانب عشرات الآلاف من حالات التشوّه لدى جرحى العدوان الإسرائيلي، إلى حدث يحمل دلالات على الهيمنة الاستعمارية المستمرة، والعجز أمام المستقبل، وأنّ كل جيل جديد سيواجه آثار السياسات السابقة، بوصفها دلالةً على قدرة الاحتلال على التحكّم في الزمن المستقبلي نفسه، كما يتحكّم في الحياة الحاضرة. “إذ إنّ التشوّه معاناةٌ جسدية، يتبلور وفق تداعياتها معاناة هجينة نفسية، اجتماعية، صحية، اقتصادية، تنموية وإنسانية؛ تدفع بالقطاع إلى حالة من الوهن والعجز، بما يُمكّن الاحتلال من فرض سيطرته الاستعمارية على الأرض وسكانها الأصليين، تبعًا لتأثيرات الصحة الجسدية على الصحة العقلية والنفسية والمجتمعية”.
وعليه، يمكن القول بأنّ العلاقة بين “النيكروبوليتيك” أو سياسات الموت، والعنف الزمني، تتجسّد بأنّ هذا الأخير يعني أن الاحتلال لا يفرض الموت على الأحياء فقط، بل يمتد تأثيره ليحدّد مسارات الحياة المستقبلية أو شكلها وطبيعتها. فالأجنّة المشوّهة والجرحى المشوّهون هم مواقع استراتيجية للصراع السياسي لدى الاحتلال، حيث تظهر السيطرة على المجتمع الفلسطيني على امتداد الزمن، وتجعل كل ولادة مشوّهة دليلًا عضويًا على سياسات الموت التي يطبّقها الاحتلال، وتتجسّد في فضاءاتٍ سمّاها أشيل مبيمبي “عوالم الموت”، حيث تُدفَع جماعات بشرية بأكملها إلى شروط وجود، وأنماط عيش هشّة، لا تتيح سوى بقاءٍ مهدّد دائمًا على تخوم الموت وحافة الفناء.
وختامًا؛ تعكس التشوّهات الخلقية في غزة أبعادًا متعددة للعنف الاستعماري، حيث يصبح الجسد الفلسطيني، حتى قبل الولادة، موقعًا للتجربة السياسية والاجتماعية والبيولوجية المركّبة، حيث تتشابك الأبعاد الصحية، النفسية والاجتماعية، لتشكّل صورةً أوسع عن تأثيره على المجتمع الفلسطيني. كما تؤكّد أن الصراع يمتد ليشمل إمكانيات الحياة نفسها، والهياكل الاجتماعية المستقبلية، ممّا يجعل من الجسد الفلسطيني وثيقةً حيّة لتاريخ الصراع وتأثيراته العميقة على امتداد الزمن.
في هذا السياق، تكشف هذه الظاهرة عن آليات غير مرئية للهيمنة الاستعمارية في تفاصيل الحياة الإنسانية اليومية، والتي تفرض قيودًا على المستقبل الاجتماعي والنسلي، وتعكس طبيعة العلاقة العميقة بين العنف والسيطرة؛ الجسد والمجتمع؛ والحاضر والمستقبل، كما تمنحنا فهمًا أوسع للنيكروبوليتيك كأداة لإدارة الموت وإخضاع الحياة له، وللاستعمار البيولوجي كاستراتيجية تُكرّس الهيمنة عبر الزمن، وتحوّل الجسد قبل ولادته إلى موقعٍ للصراع السياسي والاجتماعي العميق.
مراجع:
Achille Mbembe, Necropolitics. Public Culture,15(1), 11–40, 2003
Achille Mbembe, Necropolitics, trans. Steven Corcoran (Durham and London: Duke University Press, 2019), p.66
سهاد الناشف، “الاعتقال الإداريّ للجثامين الفلسطينيّة: تعليق الموت وتجميده”، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، مج.27،ع. 107: 19-36، صيف 2016، ص 19.