مصير غامض يخيّم على ثلاث بلدات غربي القدس، حيث يتحوّل أصحاب الأرض إلى غرباء في ديارهم. بالأمس كانوا الأحرار في أرضهم، واليوم يحتاجون إلى تصريح لعبور عتبة بيوتهم. إنه قيد جديد في سلسلة طويلة من القيود، ومخطط تهويدي يزحف لابتلاع ما تبقى من الذاكرة والأرض معًا.
بموجب القرار رقم (1651) الصادر عن جيش الاحتلال، فرضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على سكان ثلاث بلدات فلسطينية شمال غرب القدس المحتلة، الحصول على تصاريح لدخول مناطقهم والمبيت فيها.
قرارات عسكرية جديدة
تحدث الصحفي بلال كسواني، من بيت إكسا، لـ”نون بوست” عن إصدار سلطات الاحتلال الإسرائيلي ثلاثة أوامر عسكرية في بداية أيلول/ سبتمبر الماضي، تستهدف قرى غرب القدس، وعلى رأسها بيت إكسا. وأوضح الكسواني أن القرار الأول يقضي بمصادرة جميع أحواض القرية، البالغ عددها عشرة أحواض. أما القرار الثاني فيتمثل في تغيير صفة القرية من منطقتي (ب، ج)، بحسب تصنيف اتفاقية أوسلو، إلى “منطقة التماس” وفق التسمية الإسرائيلية. وأضاف أن هذا التغيير في الصفة القانونية للقرية يعني عمليًا نقل المسؤولية الكاملة عن القرية إلى الجيش الإسرائيلي، ما يقصي السلطة الفلسطينية بالكامل من تلك المناطق، ويمنع التعامل معها كجزء من الضفة الغربية، في خطوة تُعد بمثابة ضم فعلي تحت مسميات مختلفة.
وفي تعريفه لمنطقة التماس، أوضح الكسواني أنها منطقة تخضع لسيطرة كاملة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقد صُنّفت كذلك بذريعة قربها من المستوطنات، حيث تشكل فاصلًا جغرافيًا بين القدس المحتلة والضفة الغربية. يتحكم الجيش في حركة الدخول إليها، ويمنح تصاريح محددة المدة، عادة لا تتجاوز عامًا واحدًا لسكانها الأصليين فقط. كما يمنع دخول أي زائر خلافًا لما كان سابقًا بالتنسيق مع البلدية، ويحظر تنفيذ أي نشاط في المنطقة دون إذن مباشر من الجيش الإسرائيلي أو الجهة المختصة التابعة له. وتخضع هذه المنطقة لمراقبة دائمة، ويتوجب على السكان الالتزام بتعليمات الجيش التي قد تتغير في أي وقت، في ظل غياب أي قانون مدني ناظم، حيث تسري فقط التعليمات العسكرية الصادرة عن الاحتلال.
أما القرار الثالث، فيتعلق بفرض إجراءات مشددة على السكان، إذ يُطلب منهم التوجه إلى حاجز قلنديا للحصول على بطاقات ممغنطة خاصة تمكنهم من الدخول بشكل ذكي إلى القرية، بالإضافة إلى ضرورة استخراج تصاريح خاصة للوصول إلى منازلهم.
وبيّن كسواني أن هذه القرارات الثلاثة طُبّقت على ثلاث قرى في المنطقة: قرية النبي صموئيل، وحي الخلايلة الذي هو حي يقع في قرية الجيب، وبيت إكسا، وقد طُبّق هذا القرار بالكامل على القريتين، والآن يتم تطبيقه بشكل تدريجي على قرية بيت إكسا. وأضاف بقوله: “إن ما يجري في بيت إكسا هو شكل من أشكال التهجير البطيء للسكان، وذلك بعد أن تم تنفيذ ضم فعلي لأراضي البلدة عبر سلسلة من القرارات العسكرية، وعلى رأسها مصادرة جميع أحواض القرية”.
تُقدّر مساحة بيت إكسا بنحو تسعة آلاف دونم، إلا أن الاحتلال استولى على الجزء الأكبر منها على مدى السنوات الماضية، ولم يتبقَّ للأهالي سوى خمسمئة إلى ستمئة دونم فقط مخصصة للزراعة والبناء، وهي اليوم مهددة بالمصادرة أيضًا، ما ينذر بتضييق الخناق على ما تبقى من حياة في البلدة.
وفي ختام حديثه، يوجّه الكسواني رسالة تحذيرية قائلًا: “علينا أن نبقي أعيننا مفتوحة على ما يجري في هذه المناطق، وأن ننتبه جيدًا لأوضاع السكان في قرى مثل بيت إكسا، والنبي صموئيل، وحي الخلايلة. ما يحدث ليس مجرد تضييق، بل تهجير ناعم يتم خطوة بخطوة. فعندما تُسلب الخدمات وتُقيّد الحركة وتُغلق الأبواب أمام الحياة الطبيعية، تصبح الإقامة في هذه القرى شبه مستحيلة، ويُدفع الناس دفعًا إلى المغادرة”.
ويتابع “هذه السياسات يجب أن تُواجَه، وعلى العالم أن يدرك خطورتها ويتحرك لوقفها فورًا. فالتجربة التي نراها اليوم في هذه القرى قد تُعمم غدًا على طول مناطق التماس في الضفة الغربية بأكملها. ما يُمارس هنا هو اختبار لما يمكن أن يُنفذ على نطاق أوسع، ولذلك فإن التصدي لهذه الإجراءات واجب وطني وإنساني عاجل”.
من جانبه، قال رئيس بلدية بيت إكسا، مراد زايد، في حديثه لـ”نون بوست”، إن القرار الإسرائيلي جاء مفاجئًا دون أي تشاور مع السكان أو منحهم فرصة للاعتراض، وهو ما تسبب في حالة من الخوف والقلق بين الأهالي.
وأوضح زايد أن القرار الجديد يُلزم السكان باستخراج تصاريح للدخول إلى منازلهم، ويمنع أي شخص لا يحمل تصريحًا من دخول البلدة. وأضاف أن هذه السياسة تهدف إلى عزل السكان عن محيطهم الفلسطيني وتحويل حياتهم إلى سلسلة من القيود والتنكيل، حتى أصبح أصحاب الأرض يُعاملون كمقيمين جدد، وكأنهم ضيوف في أراضيهم.
وأشار إلى أن بيت إكسا محاصرة منذ عقود بسبب جدار الفصل العنصري والحواجز العسكرية، حيث أقام الاحتلال حاجزًا على مدخل القرية عام 2010، وتم تشغيله فعليًا عام 2013، ومنذ ذلك الحين يُستخدم في التنكيل اليومي بالسكان، وتحويل تنقلاتهم إلى كابوس.

وأوضح أن دخول المواطنين مشروط بإبراز الهوية، فيما يسجل الاحتلال أرقام هويات السكان مسبقًا. أما الزوار والعمال، فكان دخولهم يتم سابقًا بالتنسيق مع البلدية، مع حجز هوياتهم على الحاجز، وإلزامهم بالخروج قبل الساعة العاشرة مساءً، أما الآن فقد أُوقف ذلك كليًا، ولم يعد الدخول ممكنًا إلا عبر تصريح رسمي. وأكد زايد أن الجنود الإسرائيليين يتدخلون حتى في تفاصيل إدخال المواد الغذائية، وغاز الطهي، ومواد البناء، ويشترطون تنسيقًا مسبقًا، ويتحققون من الكميات المسموح بإدخالها.
وفي السياق ذاته، تحدث زايد عن معاناة السكان في مسألة تعديل العناوين في البطاقات الشخصية، حيث يرفض الاحتلال تسجيل أي شخص جديد يقيم في بيت إكسا. على سبيل المثال، الزوجات الجدد تُسجَّل أسماؤهن على الحاجز فقط، دون تعديل العنوان في الهوية، ويُعاملن كمقيمات من الدرجة الثانية. وحتى المواليد الجدد، إذا كان أحد الوالدين من خارج البلدة، لا يُسجّلون في بيت إكسا، بل في عنوان أحد الأبوين خارجها، كما يُطلب من الزوجات غير المسجلات في بيت إكسا إحضار أزواجهن عند كل دخول أو خروج من البلدة، ما يضيف عبئًا إضافيًا على الحياة اليومية.
وأكد أن الهدف من هذه السياسة هو تقليص عدد السكان تدريجيًا، ودفعهم إلى مغادرة البلدة، مضيفًا أن هذه السياسة لا تقتصر على بيت إكسا فقط، بل تُطبّق أيضًا في قرية النبي صموئيل وحي الخلايلة، ضمن خطة متكاملة لعزل هذه المناطق عن امتدادها الفلسطيني وفرض واقع جديد بالقوة.
واختتم بقوله: “بعد تاريخ 4/11 لن يُسمح لأي شخص لم يحصل على التصريح بدخول البلدة، فالقادم مجهول بعد هذه المرحلة، ونحن نعيش على وقع قرارات فجائية تهدد كل مقومات الحياة”.
في مقابلة مع الدكتور سعادة الخطيب، متقاعد من قرية بيت إكسا، لـ”نون بوست”، فيما يتعلق بسياسة التصاريح الجديدة التي فُرضت مؤخرًا، أشار الدكتور إلى أن الأمور ما تزال غامضة ومبهمة حتى هذه اللحظة. وقال: “لا توجد لدينا معلومات دقيقة، عملية توزيع التصاريح تمت بشكل عشوائي، بعض السكان حصلوا على التصاريح، بينما لا يزال آخرون بانتظارها. هذا التوزيع غير المنظم خلق حالة من البلبلة والقلق بين المواطنين، لكننا ننتظر حتى بداية شهر 11 لمعرفة ما إذا كانت الأمور ستتضح أو ستزداد تعقيدًا”.
وشدد على رفضه التام للمسّ بحق السكان في أرضهم، مؤكدًا: “نحن أهل البلد، وُلدنا هنا، وآباؤنا وأجدادنا وُلدوا هنا، ولا يُعقل أن يُعامل أصحاب الأرض كمواطنين جدد، وأن يُفرض عليهم الدخول إلى بيوتهم بتصريح مؤقت لا تتجاوز صلاحيته عامًا واحدًا. ماذا بعد انتهاء مدة التصريح؟ لا أحد يعرف. هناك الكثير من الأقاويل، ولا يوجد أي توضيح رسمي حتى الآن”.
وحذر الخطيب في حديثه من أن ما يحدث في بيت إكسا قد لا يكون حالة استثنائية، بل بداية لخطة أوسع، قائلًا: “ما يجري في بيت إكسا ليس النهاية، بل هو بداية لمسار خطير، الهدف منه عزل البلدات الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى، وتحويلها إلى جزر محاصرة في محيط استيطاني معزول، وفرض واقع جديد بالقوة”.
وأوضح أن هذا العزل المفروض أضعف القدرة على الحفاظ على العلاقات الاجتماعية والأسرية، وقيّد وصول الأهالي إلى أماكن عملهم وخدماتهم، إضافة إلى أن هذه القيود تعرقل دخول العمال والموردين ومقدمي الخدمات، مما أثر سلبًا على توفير الخدمات الأساسية بشكل منتظم. وأضاف: “هذه القيود الصارمة تحرم سكان بيت إكسا من ممارسة حياتهم اليومية بشكل طبيعي، وهي تمسّ بشكل خطير قريةً بأكملها وسكانها”.
وأشار الخطيب إلى المفارقة المؤلمة التي تعيشها القرية، قائلًا: “بيت إكسا هي أقرب قرية فلسطينية للقدس من جهة الشمال الغربي، ولكن بعد الاحتلال، والحصار، والإغلاق، أصبحت فعليًا من أبعدها عن المدينة التي تشكل امتدادها الطبيعي”.
العزل يتعمق في حي الخلايلة
في هذا السياق، صرّح سامر عبد ربه، رئيس بلدية الجيب، بأن الإجراءات الإسرائيلية الجديدة بدأ تنفيذها فعليًا في حي الخلايلة، وهو حي يتبع إداريًا لبلدة الجيب، لكنه بات منذ عام 2003 معزولًا خلف جدار الفصل، ويقطنه نحو 600 مواطن. وأوضح عبد ربه أن الاحتلال أقام حاجزًا دائمًا عند مدخل الحي، يُعرف بـ”حاجز الجيب” أو “معبر الجيب”، ومنذ ذلك الحين أصبحت حياة السكان اليومية خاضعة لإجراءات عسكرية مشددة.
وقال عبد ربه: “فرض التصاريح على السكان وتصنيف الحي كمناطق تماس جاء بشكل مفاجئ، اليوم لا يستطيع أي مواطن دخول منزله دون تصريح خاص، وحتى إدخال المواد التموينية والغذائية أصبح مقيدًا ومراقبًا من قبل الجيش الإسرائيلي. هذه السياسات تهدف إلى فرض واقع جديد يعزل السكان عن امتدادهم الفلسطيني، ويمنعهم من الوصول إلى أراضيهم أو الحفاظ عليها”.
كما حذر عبد ربه من المخاطر المحدقة بأراضي بلدة الجيب الواقعة خلف الجدار والمجاورة لحي الخلايلة، والبالغة نحو أربعة آلاف دونم، مشيرًا إلى أن الأهالي كانوا يُسمح لهم سابقًا بالدخول إليها خلال مواسم الزراعة، وخصوصًا في موسم قطف الزيتون.
وأضاف: “اليوم لا نعلم ما إذا كان سيسمح لسكان الجيب بدخول أراضيهم خلال موسم الزيتون كما في الأعوام السابقة. حالة من القلق والتخبط تسود بين الأهالي في ظل غياب أي تعليمات رسمية، واقتراب الموسم دون وضوح في الآليات أو الإجراءات المتوقعة”.
النبي صموئيل والتهجير الصامت
في حديثه لـ”نون بوست”، يروي الصحفي والناشط نائل بركات من قرية النبي صموئيل شمال غرب القدس تفاصيل الواقع المعقد الذي تعيشه قريته تحت وطأة سياسة إسرائيلية متصاعدة تعتمد على إجراءات إدارية مشددة، أبرزها نظام التصاريح الجديد، الذي يرى فيه كثيرون أداة تهجير ناعمة، تؤسس لفرز سكاني وتفريغ تدريجي للبلدة من سكانها الأصليين.
في سبتمبر/ أيلول 2025، أبلغت سلطات الاحتلال أهالي قرية النبي صموئيل بضرورة استخراج بطاقات ممغنطة وتصاريح خاصة تتيح لهم دخول قريتهم. هذه التصاريح صالحة لمدة عام واحد فقط، ولا يوجد ما يضمن تجديدها بعد انتهاء المدة. حتى اللحظة، لم يحصل نحو 40% من سكان القرية على هذه التصاريح، ومن بينهم بركات نفسه.

ويحذر بركات من أن تفعيل القرار بشكل كامل سيبدأ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، وبعده لن يُسمح بدخول أي شخص لا يحمل تصريحًا، فيقول: “ما يجري هو غربلة أولى، ستليها غربلة ثانية بعد عام، ثم ثالثة… حتى لا يبقى أحد. إنه تهجير غير مباشر، بلا ضجيج، لكن بنتائج كارثية”.
قرية النبي صموئيل محاصرة بجدار الفصل العنصري منذ عام 2010، ما جعلها منعزلة عن محيطها الفلسطيني جغرافيًا واجتماعيًا، ولا يمكن دخولها إلا عبر حاجز الجيب، الذي يخضع لسيطرة تامة من قوات الاحتلال، وهو الحاجز ذاته المستخدم من سكان قرى مجاورة كحي الخلايلة.
يشير بركات إلى أنه في السابق كان يُسمح بدخول الزوار في مناسبات اجتماعية خاصة، مثل الأفراح أو الأتراح، بشرط وجود صلة قرابة مباشرة بأحد سكان القرية. لكن منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تم منع دخول أي شخص غير مسجل رسميًا كمقيم دائم، حتى في الحالات الطارئة أو الإنسانية، ويضيف: “الحاجز أصبح مصدر معاناة. مرة احتُجز جثمان مواطن لساعات داخل سيارة الإسعاف قبل السماح له بالدخول إلى القرية”.
قرية النبي صموئيل، التي لا يزيد عدد سكانها على 400 مواطن، تعيش تحت ظروف حياتية بالغة القسوة:
- سيارات النفايات لا تدخل إلا مرة واحدة في الشهر.
- يُمنع إدخال مواد البناء، ولا يُسمح بالترميم أو التوسعة.
- حتى إدخال المواد التموينية والغاز يتم بكميات محدودة وتفتيش دقيق.
“لا توجد أي طوبة جديدة في القرية منذ سنوات، والمئات من شباب القرية اضطروا إلى الانتقال إلى خارجها بعد الزواج، لعدم وجود أي إمكانية للسكن الكريم”، يضيف بركات، كما يشير إلى أنه تم الاستيلاء على جزء كبير من المسجد التاريخي في البلدة القديمة وتحويله إلى كنيس لليهود المتدينين (الحريديم)، في محاولة لطمس الهوية الإسلامية والعربية للقرية.

في ختام حديثه، يعبّر بركات عن القلق العميق الذي يعيشه سكان النبي صموئيل، قائلًا: “النبي صموئيل فيها الكثير من أملاك الغائبين، ومخطط الاحتلال واضح في الاستيلاء عليها. إذا لم يكن ما يحدث الآن ضمًا فعليًا، فما هو الضم إذًا؟ نحن مثل المتعلقين بحبال الهوى… نعيش في انتظار المجهول”.
وتصف الصحفية أسيل عيد واقع ومرارة العيش لأهالي البلدات، قائلة: “ليس الأسرى وحدهم من زجّهم الاحتلال في سجن يقيّد حريتهم ويحاصرهم بجدار وبوابة يحرسها سجّان، وليسوا وحدهم من قُطعوا عن العالم الخارجي بأفراحه وأتراحه، وليسوا وحدهم من يُجبر زوارهم على استصدار تصريح خاص لزيارتهم؛ فالكثير من أحياء وبلدات القدس والضفة الغربية تعاني واقعًا مشابهًا، جعلها سجونًا صغيرة لا يميزها عن المعتقلات سوى قدرة سكانها على رؤية السماء دون شباك حديدية”.
سياسات عزل ممنهجة تهدد النسيج السكاني
ما يُطبق اليوم على قرى بيت إكسا، والنبي صموئيل، وحي الخلايلة ليس مجرد نظام جديد للتنقل، بل بنية قانونية وأمنية متكاملة تستهدف إعادة تعريف من يحق له البقاء في هذه المناطق ومن لا يحق له، عبر فرض تصاريح دخول مؤقتة مرتبطة بتقييمات أمنية وعسكرية، ولا تخضع لأي نظام قانوني مدني أو رقابة مستقلة.
تبرز أزمة سكانية متفاقمة، حيث يعيش عدد كبير من سكان هذه القرى خارجها، سواء في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، أو داخل القدس، أو حتى في الخارج. ويعود ذلك إلى منع البناء وتضييق سبل العيش، ما دفع الكثير من العائلات إلى البحث عن الاستقرار في أماكن قريبة أو في مدن أخرى.
كما أن نسبة كبيرة من سكان القرى الثلاث متزوجون من خارجها، ما يطرح تحديًا جديدًا مع نظام التصاريح الجديد، إذ لا يوجد وضوح حتى الآن بشأن ما إذا كان سيُسمح للزوجات أو الأزواج القادمين من خارج البلدة بالحصول على تصاريح دخول. ويزداد الأمر تعقيدًا في حالة النساء من القرى اللواتي تزوجن خارجها، إذ من المرجح ألا يحصلن على تصاريح، ما يعني حرمانهن من زيارة أسرهن أو حتى المشاركة في مناسبات اجتماعية.
الأخطر من ذلك، كما تشير شهادات متعددة، هو أن الأطفال المولودين بعد 7 أكتوبر، إذا كانت أمهاتهم من خارج القرية، لا يُسجلون على عنوان آبائهم في القرية، بل يُسجلون على عنوان الأمهات، ما يعني فعليًا حرمانهم من حقوق الإقامة في مسقط رأس آبائهم.
كما أن كل من لديه ملف أمني، حتى لو كان قديمًا أو بسيطًا، لم يحصل على تصريح، ما يهدد بحرمان شرائح كاملة من السكان من الدخول إلى قراهم، وربما فقدان علاقتهم القانونية والإدارية بها نهائيًا.
هذا التفكيك الممنهج للعائلات، والربط التعسفي لحق الإقامة بالحالة الأمنية والتصاريح المؤقتة، يعبّر عن سياسة تهدف إلى إعادة هندسة النسيج السكاني للقرى، وتقليص عدد سكانها الأصليين، وتحويلهم إلى “زوار مشروطين” في بلداتهم، في انتهاك صريح للقانون الدولي الإنساني ومبادئ حقوق الإنسان.
يرى د. سعيد يقين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيت لحم، أن السياسات الإسرائيلية المفروضة على القرى الواقعة في تخوم القدس – مثل بيت إكسا، والنبي صموئيل، وحي الخلايلة – تمثل نمطًا متصاعدًا من التحكم والتضييق الإداري والعسكري، يُفضي في النهاية إلى تهجير السكان بصورة ناعمة وتدريجية، من خلال خنق الحياة اليومية وتقييد سبل البقاء.
ويضيف: “إذا لم يكن بالإمكان تنفيذ تطهير عرقي صريح، فإن البديل هو إخضاع قاسٍ وسيطرة كاملة على السكان الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم داخل منطقة مستهدفة بالاستيطان والتوسع الإسرائيلي. هذه القرى تشكل عائقًا جغرافيًا وسياسيًا أمام المشروع الاستيطاني، ولهذا تُعامل كشوكة في حلق الاحتلال”.
يشير يقين إلى أن عشرات العائلات المقيمة فعليًا في هذه المناطق، ولكن عناوينها الرسمية خارجها، قد تُحرم من الحصول على التصاريح، مما سيدفعها إلى مغادرة هذه التجمعات قسرًا، وهو ما يعني تفتيت البنية الاجتماعية وتفكيك الروابط العائلية والاقتصادية تدريجيًا.
وبحسب يقين، فإن معظم أراضي بيت إكسا مصنفة (ج) حسب اتفاق أوسلو، بينما الجزء المصنف (ب) مكتظ عمرانيا ولا يسمح بالتوسعة. ومع مصادرة أحواض القرية بالكامل، ستُحاصر فرص التوسع العمراني، ما يُفضي فعليًا إلى حشر السكان في كنتونات مغلقة تُقيد الحياة وتُسرع وتيرة التهجير.
أما النبي صموئيل وحي الخلايلة، فهما مصنفتان أساسًا كمنطقتين (ج)، ويخضعان بشكل مباشر لسيطرة الاحتلال، مما يجعل الإجراءات الجديدة امتدادًا لواقع قائم منذ سنوات. لكن هذه الإجراءات الجديدة تزيد من تعقيد الحياة، وتُمعن في تكريس العزلة والخنق.
“كل ما يحدث حاليًا في هذه المناطق هو تثبيت للواقع الكولونيالي القائم، وتوسيعه بطريقة تجعل من الاستمرار في الحياة اليومية أمرًا مستحيلًا”، يقول يقين.
ويشير إلى أن الاحتلال صادر نحو 50 دونمًا من أراضي بيت إكسا عام 2010 لصالح مشروع القطار السريع الذي يربط القدس بتل أبيب، وهو مشروع تم الإعلان عنه عام 2008، وتم افتتاحه رسميًا في عام 2022، ما يؤكد أن التحولات العمرانية على الأرض تتم بشكل ممنهج وطويل الأمد.
لفت يقين أيضًا إلى أن تصاريح مماثلة تُطبق عمليًا على سكان يقيمون داخل بيوت في مناطق أخرى مثل بيت حنينا، وحزما، والضاحية في الرام، وباقة الغربية، مما يبين أن النموذج الأمني يُوسع ليشمل مناطق متعددة حول المدينة.
ويحذر د. يقين من أن هذه القرى باتت جزرًا محاصرة في بحر من المستوطنات الإسرائيلية، مثل رموت، وجفعات زئيف، والنبي يعقوب، وعطروت، وهار صموئيل. ويصف الاستيطان في هذه المنطقة بأنه استيطان إحلالي هدفه السيطرة الكاملة على الأرض وإحلال المستوطنين مكان الفلسطينيين، ضمن نظام استقصائي تتباين أدواته حسب الموقع الجغرافي المستهدف.
ويكشف أن مسؤولين إسرائيليين اعترفوا في وقت سابق بأن أحد أخطائهم التاريخية كان عدم ضم بيت إكسا إلى قرى اللطرون الثلاث (عمواس، ويالو، وبيت نوبا) التي أُبيدت بالكامل بعد النكسة، في تلميح خطير لإمكانية تكرار السيناريوهات الإقصائية نفسها بطرق “قانونية” حديثة.
في ختام حديثه، يوجّه يقين دعوة إلى المؤسسات الدولية والحقوقية بضرورة التعامل مع هذه القرى بجدية تامة، والعمل على وقف الأذى المستدام المفروض على سكانها، من خلال الضغط لتوسيع مخططاتها الهيكلية، والسماح لهم بالبناء والتطور العمراني، كحد أدنى لضمان بقائهم في قراهم، والحفاظ على ما تبقى من نسيجهم الاجتماعي وهويتهم الوطنية.
وسط معركة على السيادة والذاكرة والمكان، يقف أهالي هذه البلدات كالحصن الأخير الذي يأبى الانكسار، فمهما حاول الاحتلال اغتيال أحلامهم بالحرية والاستقرار، يبقى صمودهم شاهدًا على إرادة لا تُكسر وذاكرة لا تُمحى.