أعادت الاشتباكات الأخيرة التي وقعت في 6 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بين الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في أحياء حلب الشمالية، ولا سيما في الشيخ مقصود والأشرفية، تسليط الضوء على واحدة من أخطر أدوات الميليشيات الكردية: الأنفاق. فمع تصاعد التوترات، كشفت السلطات السورية عن شبكة أنفاق تحت الأرض، تتبع لـ”قسد”، وتمرّ عبر مناطق حيوية داخل المدينة.
قسد، التي تُعدّ إحدى أبرز الفاعلين في الشمال السوري، لا تقتصر سيطرتها على مناطق الريف أو الحدود، بل تمتد إلى داخل مدينة حلب، حيث تتمركز في أحياء ذات طبيعة ديموغرافية معقّدة وتاريخ متشابك من السيطرة والنزاع. إذ تبدو حاجة قسد لهذه الأنفاق في حلب خصيصًا، أكثر ارتباطًا بتكتيكات الهجوم والمناورة، وربما الاستعداد لمواجهة أي تحوّل في موازين الصراع.
فما هي تفاصيل هذه الأنفاق؟ وما أهميتها العسكرية لقسد؟ ولماذا تتركّز تحديدًا في الشيخ مقصود والأشرفية؟ هذا ما سنحاول شرحه في السطور التالية.
تمركز “قسد” في حلب
تُعدّ محافظة حلب من أكثر المناطق السورية تعقيدًا من الناحية الأمنية، نظرًا لتداخل الفاعلين المحليين والدوليين فيها، وتعدّد مناطق النفوذ داخلها بين القوات الحكومية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”. وفي هذا المشهد المتداخل، رسّخت قسد وجودها في مواقع محددة شمال المدينة وريفها الشرقي منذ عام 2012، مركّزة على السيطرة على نقاط عبور حيوية ومعابر مراقبة استراتيجية.
في داخل مدينة حلب، يبرز حيّا الشيخ مقصود والأشرفية كأهم مناطق تمركز قسد، وهما حيّان تقطنهما غالبية كردية، الأمر الذي وفّر للقوات الكردية قاعدة اجتماعية مستقرة تمكّنها من تعزيز نفوذها المدني والعسكري داخل المدينة. في هذين الحيّين، تنتشر وحدات أمنية وعسكرية تابعة للميليشيا، إضافة إلى أجهزة “الأسايش” المسؤولة عن ضبط الأمن الداخلي ومراقبة الحركة، خصوصًا في المحاور المحيطة بطريق الكاستيلو وحي الكلاسة الشمالية، وهي مناطق تُعدّ حيوية من الناحية اللوجستية والتحكم الميداني.
لكن التصعيد الأخير لم يكن مفاجئًا، بل جاء بعد سلسلة من التحركات التي وصفتها الحكومة السورية بأنها خرق واضح لاتفاق 10 آذار/مارس 2025. حيث قال نور الدين البابا، المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، إن “قسد لم تلتزم ببنود الاتفاق، وواصلت حفر الأنفاق، وبناء التحصينات داخل المدينة، بل واستقطبت عناصر من النظام السابق لتدريبهم في منطقة الجزيرة تمهيدًا لصراع مسلّح مع الحكومة”.
وبحسب الرواية الرسمية، فإن النفق الذي اكتشفه الجيش السوري مؤخرًا، وكانت قسد تحفره باتجاه نقاطه الخلفية، كان السبب المباشر لاندلاع الاشتباكات. وقد عمدت القوات الحكومية إلى تفجيره، وأعادت انتشارها في محيط المنطقة بهدف تعزيز المراقبة ومنع تهريب الأسلحة والمطلوبين.
وتشير التقديرات إلى أن شبكة الأنفاق التي تمتلكها قسد تمتد نحو 5 كيلومترات، ويمكن أن تُستخدم في تنفيذ عمليات استنزاف ضد مواقع الجيش داخل المدينة.
كما توجد نقاط مراقبة محدودة في الأحياء المحاذية مثل حيّي صلاح الدين والبريدج في الشمال الغربي للمدينة. هذه النقاط لا تمثّل سيطرة مباشرة كاملة، لكنها تتيح لقسد متابعة الحركة العسكرية والمدنية وتأمين خطوط التسلل والانسحاب في حال حدوث أي توتر أو اشتباكات.
أما خارج مدينة حلب، فتتحكم قسد في عدد من البلدات والقرى في ريف حلب الشمالي، أبرزها تل رفعت ومنغ وعين دارة وعين العرب، إضافة إلى عدة قرى صغيرة محيطة بها. تركّز هذه السيطرة على الطرق الحيوية والقرى الاستراتيجية، حيث يمكنها من مراقبة التحركات القادمة من المناطق الخاضعة لفصائل أخرى أو الجيش السوري.
أحياء الشيخ مقصود والأشرفية
يقع حي الشيخ مقصود في شمال غرب حلب، ويُعدّ أبرز الأحياء ذات الغالبية الكردية في المدينة. يُقدّر عدد سكانه بنحو 60 ألف نسمة، معظمهم من الأكراد، إلى جانب أقلية عربية وتركمانية. هذا التنوع لم يُضعف الطابع الكردي الغالب، بل شكّل ركيزة لنشاط سياسي وثقافي مستمر منذ سنوات، جعل من الحي مركزًا للوجود الكردي داخل المدينة، وقاعدة نفوذ حيوية لقسد. الموقع الجغرافي للحي، الذي يربط بين أحياء شرقية وغربية مهمة، أضفى عليه بعدًا استراتيجيًا، حيث يسمح بالتحكم في خطوط الاتصال الداخلية والمراقبة الفعّالة للممرات القريبة من مواقع الحكومة السورية.
ومنذ سيطرة قسد على الحي عام 2015، عزّزت وجودها بإنشاء نقاط مراقبة وأجهزة أمنية محلية عبر “الأسايش”، لضبط الأمن وإدارة الحركة المدنية. وقد سبقت السيطرة النهائية مقاومة طويلة من سكان الحي ضد القوات الحكومية والفصائل المسلحة منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، ما منح قسد مدخلًا لبناء شرعية داخلية تقوم على حماية المدنيين وتقديم خدمات محدودة رغم الضغوط الأمنية. الحي، اليوم، يُعدّ عنصرًا ثابتًا في أي ترتيبات أمنية تخص شمال غرب حلب، نظرًا لتشابكه الجغرافي مع مواقع نفوذ الدولة.
إلى الشمال من الشيخ مقصود، يمتد حي الأشرفية كامتداد طبيعي له، ويُقدّر عدد سكانه أيضًا بنحو 60 ألف نسمة، مع تركيبة سكانية مختلطة من الأكراد والعرب. يوفّر هذا التنوع فرصة إضافية لقسد لتوسيع قاعدتها الاجتماعية داخل المدينة، وهو ما ترجمه الواقع منذ 2015، حين بسطت سيطرتها على الحي بالتوازي مع الشيخ مقصود. موقع الحي الحيوي، كنقطة التقاء بين أحياء كردية وعربية، جعله محوريًا لمراقبة التحركات القادمة من مناطق النزاع وضبط الممرات المؤدية إلى قلب المدينة.
بعد السيطرة، فعّلت قسد بالتنسيق مع الأسايش إدارة محلية تنظّم الأمن وتُشرف على الخدمات، مستفيدة من نشاط اقتصادي وتجاري يربط سكان الحي بجوارهم من مختلف المكوّنات. ولم تكن السيطرة على الأشرفية مجرد توسع جغرافي، بل خطوة مدروسة لإضفاء توازن اجتماعي على الوجود الكردي، وتحقيق قدر من القبول الشعبي خارج الإطار القومي الضيّق.
من الناحية العسكرية، تمثّل السيطرة على الشيخ مقصود والأشرفية قاعدة استراتيجية مزدوجة: فهما من جهة يؤمنان العمق السكاني والسياسي لقسد داخل حلب، ومن جهة أخرى يتيحان مراقبة طرق الإمداد الحيوية وخطوط التماس مع القوات الحكومية. كما تتيح الأنفاق الممتدة تحت هذه الأحياء، والتي كشفت السلطات السورية بعض تفاصيلها مؤخرًا، حرية تنقّل عسكرية بعيدًا عن أعين الرقابة المباشرة، ما يعزّز من مرونة قسد في حالة التصعيد أو المواجهة.
ما هو حجم شبكة أنفاق قسد؟
لم يعد الحديث عن أنفاق قسد في حلب معزولًا عن السياق العام للمنظومة الدفاعية التي بنتها القوات الكردية في شمال وشرق سوريا منذ عام 2014. فمنذ بدء وحدات حماية الشعب، ومن ثم قوات سوريا الديمقراطية، بتوحيد صفوفها عسكريًا، شرعت هذه القوات في تنفيذ واحدة من أوسع شبكات الحفر تحت الأرض في المنطقة، بهدف إنشاء بنية دفاعية تؤمّن الحركة والإمداد بعيدًا عن أعين الطيران والهجمات المباشرة.
الشبكة المكتشفة في حلب، والتي تمرّ بأحياء الشيخ مقصود والأشرفية، ليست سوى جزء من امتداد أطول بكثير. إذ تشير مصادر أمنية سورية وتقارير ميدانية إلى أن قسد بدأت عمليات الحفر منذ أكثر من عقد، لتربط عبر أنفاقها مناطق تمتد من الحدود التركية شمالًا إلى تخوم دير الزور جنوبًا، ومن سنجار في العراق شرقًا إلى مناطق المواجهة في مدينة الباب وأعزاز غربًا. هذه الشبكة تُستخدم لنقل الأسلحة، وتحريك القوات، وتخزين الإمدادات، وقد تحوّلت إلى ما يشبه “مدينة تحت الأرض”، تُمكّن قسد من المناورة بعيدًا عن الرصد المباشر.
في السياق المحلي، كشفت السلطات السورية أن أحد هذه الأنفاق في حي الشيخ مقصود كان يُحفَر باتجاه نقاط عسكرية للجيش السوري، ما دفع الأخير إلى تفجيره وشن عملية إعادة انتشار شملت تعزيز المراقبة في محيط الحي. ووفق وزارة الداخلية، فإن تدمير النفق جاء بعد تراكم معلومات عن تحركات عسكرية عدائية، وخرق واضح لاتفاق 10 مارس/آذار 2025.
أما من الناحية التقنية، فتتّسم هذه الأنفاق بعمق يصل إلى عدة أمتار تحت الأرض، وأروقة متشعبة مصمّمة لتحمّل الهجمات الجوية، مع فتحات تهوية وممرات إخلاء، تم بناؤها بأيدي مقاولين وفنيين على صلة بحزب العمال الكردستاني، وبتمويل اعتمد على إيرادات النفط والغاز في مناطق الإدارة الذاتية بعد عام 2018، إلى جانب دعم لوجستي أمريكي وعبور قوافل من العراق تحت غطاء “مواجهة تنظيم داعش”.
وتشير تقديرات صحفية إلى أن الميزانية المخصصة لتطوير هذه الشبكة تجاوزت 4 مليارات دولار، ما يعكس مدى الاستعداد العسكري طويل الأمد لدى قسد.
غير أن هذه الشبكة لا تمثّل بُعدًا عسكريًا فقط، بل تطرح أيضًا تحديات إنسانية وبيئية حادّة. فحفر الأنفاق داخل أحياء سكنية مكتظة مثل الشيخ مقصود، يُهدّد أساسات الأبنية، ويعرّض حياة المدنيين للخطر، فضلًا عن استغلال عمّال محليين بأجور زهيدة وظروف قاسية. كما أن أي محاولة لتفكيك هذه الشبكة أو تدميرها بالقوة، قد تُخلّف دمارًا واسعًا في البنية التحتية وتُفاقم الأزمة الإنسانية في المناطق المدنية.
بذلك، تصبح شبكة الأنفاق سلاحًا مزدوجًا: أداة دفاع وهجوم عسكرية دقيقة، وفي الوقت نفسه قنبلة موقوتة تحت الأحياء السكنية، لا يمكن التعامل معها إلا ضمن حسابات معقدة تأخذ في الاعتبار الخسائر البشرية والمخاطر المستقبلية.
ومع تصاعد التوتّر ورفض قسد الانصياع لبنود اتفاق 10 آذار/مارس 2025، يلوح في الأفق شبح مواجهة عسكرية مفتوحة مع الحكومة السورية. فاستمرار حفر الأنفاق وبناء التحصينات داخل أحياء حلب لا يُقرأ رسميًا إلا كتحضير لمعركة مؤجلة. وفي ظل انعدام الثقة وتآكل فرص الحوار، تبدو احتمالات التصعيد أكثر واقعية من التهدئة. إن انزلاق الوضع نحو المواجهة لن يكون مجرد خلل أمني عابر، بل منعطف خطير قد يعيد المدينة إلى دوامة الصراع، مع ما يحمله ذلك من تداعيات كارثية على البنية المدنية والاجتماعية. كل تأخير في احتواء الأزمة يقرب حلب من لحظة الانفجار.