فتحت التطورات الأخيرة في السودان، ولا سيما الكارثة الإنسانية التي شهدتها مدينة الفاشر، عاصمة ولاية دارفور الغربية، الباب مجددًا للتساؤل حول الأجندات الخارجية التي تؤثر على أمن واستقرار البلاد، وتدفعه نحو دوامة من العنف والانقسام الاجتماعي والسياسي.
وتأتي الأجندة الإسرائيلية في صدارة هذه التحليلات، إذ يُنظر إلى تل أبيب كأحد اللاعبين المؤثرين على المشهد السوداني، وواحدة من أكبر العابثين به، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ضمن قائمة طويلة من الأهداف والمصالح التي تحاول “إسرائيل” تحقيقها من خلال تواجدها في الساحة السودانية.
ولا يخفى على أي متابع الاهتمام الإسرائيلي بالساحة السودانية باعتبارها ملفًا استراتيجيًا ولوجستيًا مهمًا، وهو ما أثار تساؤلات حول الدور المحتمل لـ”إسرائيل” في تفاقم الأزمة الراهنة، والأطراف التي قد تنحاز إليها في سياق الصراع الداخلي.
ويجدر بالذكر أن السودان و”إسرائيل” كانا قد أعلنا في عام 2020 عن استعدادهما لتطبيع العلاقات، من خلال بدء التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما، إلا أن هذه الخطوة أثارت حينها انتقادات واسعة من قبل مجموعات مدنية وسياسية، مما أدى إلى تأجيل إعلانها رسميًا خاصة بعد المنعطف الدموي الأخير الذي دخل فيه البلد الأفريقي.
ما أهمية السودان بالنسبة لإسرائيل؟
تحتل السودان موقعًا استراتيجيًا بارزًا على خارطة الاهتمام الإسرائيلي، إذ تعتبر تل أبيب الخرطوم بوابة حيوية لتعزيز وجودها في أفريقيا وعلى البحر الأحمر، بما يعزز نفوذها الإقليمي ويدعم مصالحها اللوجستية على حد سواء.
وتتعامل “إسرائيل” مع الملف السوداني من منظور أمني محوري، معتبرة أن السودان يمثل محطة مهمة في مراقبة نشاط تنظيم القاعدة ومستودعات الأسلحة الإيرانية، فضلًا عن كونه مسارًا محتملًا لتهريب الأسلحة إلى الفصائل الفلسطينية في غزة وإلى ليبيا، حيث يشهد النفوذ التركي والاستثمارات الأجنبية تصاعدًا متناميًا.
وفي السياق ذاته، ترى “إسرائيل” أن تعزيز نفوذها في السودان يفتح أمامها آفاقًا أوسع على طول القارة الأفريقية وتخوم دول المغرب العربي، وعلى عكس علاقاتها مع دول الخليج، التي تحمل أهمية اقتصادية مباشرة، فإن السودان تُعد لـ”إسرائيل” رصيدًا استراتيجيًا بسبب موقعها الجغرافي على نهر النيل وطول الساحل المطل على البحر الأحمر، ما يجعلها نقطة محورية على خريطة الشرق الأوسط وأفريقيا معًا.
في المجمل، تسعى إسرائيل عبر السودان لتحقيق عدة أهداف، أبرزها:
– توسيع رقعة اتفاقيات التطبيع، وجعل السودان حلقة مهمة ضمن “اتفاقيات إبراهيم”، خاصة وأنه كان من الدول التي تبنت مواقف صارمة تاريخيًا (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع إسرائيل).
– تعزيز النفوذ الإقليمي والمكانة كوسيط، بما يشمل استعدادها لاستضافة محادثات بين قيادات السودان الانتقالية (البرهان وحميدتي) لوقف إطلاق النار.
– ضمان مصالحها الأمنية والاستخباراتية، منعًا من أن توفر الفوضى ملاذًا آمنًا للجماعات المسلحة، مما يسهل عملية تهريب السلاح ودعم فصائل محور المقاومة مما يقوض أمن الاحتلال ويزيد من الضغوط الأمنية واللوجستية عليه.
– أهداف جيوسياسية أوسع، إذ لطالما سعت “إسرائيل” إلى إضعاف السودان ومنعه من بناء دولة قوية وموحدة، مع التركيز على التأثير في مصر عبر جارها الجنوبي والتحكم في ملف مياه النيل، كورقة ضغط يمكن اللجوء إليها لارتهان القرار السياسي المصري.
إسرائيل والبرهان.. البقاء في المنطقة الدافئة
حاولت تل أبيب على مدى السنوات الماضية الحفاظ على مسافة قريبة مع الحكومة الرسمية السودانية والجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، باعتباره الممثل الشرعي للنظام السوداني الذي جرت معه المفاوضات والتوقيع الأولي على اتفاقيات التطبيع. وقد شهدت السنوات التي أعقبت سقوط نظام البشير تبادلًا علنيًا للزيارات بين السلطة السودانية والحكومة الإسرائيلية، أبرزها لقاء البرهان ونتنياهو في أوغندا، وتصريجات إيجابية متبادلة، بما يعكس أجواء “إيجابية” نسبيًا على مستوى تطبيع العلاقات.
غير أن هذا المناخ الإيجابي لم يدم طويلًا، إذ دخلت العلاقات في مرحلة تجمد مرحلي نتيجة تباين وجهات النظر بين الخرطوم وتل أبيب بشأن إدارة المشهد السوداني الداخلي، خاصة مع التقارب الذي شهدته العلاقات بين السودان وطهران لاحقًا، ما أثار مخاوف إسرائيلية بشأن النفوذ الإيراني في المنطقة.
وفي المقابل كان التقارب الاستخباراتي بين تل أبيب وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) – كما سيرد لاحقًا- علامة فارقة في توسيع الهوة بين البرهان من جانب والكيان المحتل من جانب أخر.
وفي يوليو/تموز 2025، نشرت صحيفة جيروزاليم بوست تقريرًا وصفت فيه البرهان بأنه يمثل خطرًا وجوديًا على “إسرائيل”، وأن الحاجة ملحة للتحرك لوقف النظام الذي يقوده. وأكدت الصحيفة أن السودان لم يعد مجرد ساحة صراع داخلي، بل تحوّل إلى “بؤرة ناشئة” في حملة إيران ضد المصالح الإسرائيلية والغربية، من خلال تأثير البرهان المباشر على السياسات السودانية.
وأضاف التقرير أن البرهان يقف في صلب التحولات التي يشهدها السودان نحو مركز يُستخدم لضرب المصالح الإسرائيلية، مشيرًا إلى أن استمرار بقائه في السلطة يمنح طهران فرصة يومية لتعزيز قدراتها على محاصرة تل أبيب وإضعافها، وصولًا إلى ما وصفته الصحيفة بـ “محاولة تدميرها”.
واستخدمت الصحيفة توصيفًا مثيرًا للجدل للبرهان، واصفة إياه بـ”حارس الإرهاب في السودان”، في إشارة إلى تحالفه مع إيران والدعم العسكري الذي تلقيه قواته في الحرب المستمرة ضد قوات الدعم السريع.
واختتم التقرير بالإشارة إلى أن شخصية البرهان لا يمكن اعتبارها معتدلة أو براغماتية، بل هو يعمل على تمكين جماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس، ويعد أداة استراتيجية بيد طهران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وأفريقيا، بما يضع السودان في قلب الصراع الإقليمي والدولي المتعلق بالمصالح الإسرائيلية والغربية.
الموساد وحميدتي.. شراكة من الباب الخلفي
شهدت العلاقات بين إسرائيل وقوات الدعم السريع السودانية تناميًا ملحوظًا منذ سنوات، لا سيما بعد سقوط نظام البشير في 2019، حيث تراوحت هذه العلاقة بين الدعم السياسي والاستخباراتي والعسكري، وبرزت مؤشرات عدة توضح تطورها:
-في 26 يونيو/حزيران 2021، كشف موقع واللا العبري في تقرير له عن وصول طائرة خاصة من تل أبيب إلى الخرطوم، وهي نفسها التي استخدمها رئيس الموساد السابق يوسي كوهين في زياراته السرية إلى السودان ودول أخرى. وأوضحت مصادر الموقع أن الطائرة حملت مسؤولين من الموساد، وعقدوا لقاءات مع جنرالات موالين لحميدتي وربما معه شخصيًا، في خطوة تعكس محاولات حميدتي إقامة قنوات اتصال مستقلة مع إسرائيل منذ بداية عملية التطبيع بين البلدين عام 2020، متجاوزًا بذلك قيادات الجيش السوداني ورئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان ورئيس الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك.
-نتيجة لهذه اللقاءات، كشفت مصادر في تل أبيب أن الحكومة الإسرائيلية تلقت رسائل غاضبة من البرهان وحمدوك، اللذين اعتبرا الاتصالات مؤامرة من جانب الموساد ضد السلطات الشرعية في السودان، على الرغم من توقيع الخرطوم اتفاقية تطبيع مع إسرائيل.
-في نوفمبر/تشرين الأول 2021، أفاد موقع أكسيوس الأمريكي بقيام مسؤولين من الموساد بلقاء حميدتي في السودان خلال زيارات سرية، مما عزز التعاون الاستخباراتي المباشر بين الطرفين.
-في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ذكرت صحيفة هآرتس العبرية أن قوات الدعم السريع حصلت على أجهزة تجسس إسرائيلية متطورة، وصلت سرًا إلى مطار الخرطوم على متن طائرة مرتبطة بمسؤول سابق في الموساد، وتم نقلها لاحقًا إلى دارفور. وأوضحت الصحيفة أن الأجهزة قادرة على اختراق الهواتف الذكية وأنظمة الاتصالات والبنية التحتية، بما يغير ميزان القوى لصالح حميدتي في مواجهة الجيش السوداني.
-في 24 أبريل/نيسان 2024، وفي مقابلة مع قناة كان الإسرائيلية، شبّه مستشار حميدتي، يوسف عزت، القوات التي يقودها البرهان بـ”الفصائل الفلسطينية الإرهابية التي تقاتل إسرائيل”، في محاولة لاستمالة تل أبيب لصالح معسكر الدعم السريع، مؤكّدًا أن البرهان متواطئ مع الحركة الإسلامية لضرب المدنيين، وأنه لا يملك القرار بشأن وقف الحرب.
اللعب على كل الحبال
على الرغم من أن كلاً من البرهان وحميدتي أبديا التزامهما بمسار التطبيع مع إسرائيل، فإن المؤشرات توحي بأن تل أبيب تميل نسبيًا نحو قائد ميليشيا الدعم، الذي أظهر اندفاعًا وحماسة أكبر في توطيد العلاقة معها، فقد بادر إلى فتح قنوات اتصال مباشرة مع جهاز الموساد، متجاوزًا الأطر الرسمية ومجلس السيادة السوداني، في خطوة عكست رغبته في بناء علاقة مستقلة مع إسرائيل تخدم طموحاته السياسية والعسكرية.
ولم يكتفِ حميدتي بذلك، بل كلّف شقيقه عبد الرحيم دقلو، نائب قائد الدعم السريع، بإدارة ملف العلاقات مع الجانب الإسرائيلي، حيث قام الأخير بزيارات علنية إلى تل أبيب، التقى خلالها قيادات عسكرية وأمنية إسرائيلية رفيعة المستوى، في مسعى لترسيخ تعاون استخباراتي وأمني يُمكّن الدعم السريع من تعزيز موقعه في المعادلة الداخلية السودانية، ويمنح إسرائيل موطئ قدم إضافيًا في واحدة من أكثر الساحات الأفريقية حساسية وتأثيرًا.
ومع ذلك تسعى إسرائيل إلى إبقاء جميع خيوط اللعبة بيدها في الساحة السودانية، إذ يبدو واضحًا أنها لا ترغب في خسارة أيٍّ من طرفي الصراع، سواء البرهان أو حميدتي، ومن هذا المنطلق، اعتمدت تل أبيب سياسة توزيع الأدوار بين مؤسساتها السيادية لضمان التواصل مع الطرفين دون انحياز علني لأي منهما.
فقد أوكلت وزارة الخارجية الإسرائيلية، ممثلة بوكيلها العام رونين ليفي، مهمة إدارة الاتصالات الرسمية مع معسكر البرهان، بصفته الممثل الشرعي للدولة السودانية، في حين تولّى جهاز الموساد مهمة التواصل غير الرسمي والميداني مع فريق حميدتي، بما في ذلك تبادل المعلومات واللقاءات السرية التي تناولتها عدة تقارير إعلامية خلال السنوات الماضية.
ورغم الاتهامات المتزايدة لإسرائيل بتقديم دعم استخباراتي وتقني وتسليحي لقوات الدعم السريع، فإن هذا لم يؤثر على تحركاتها الدبلوماسية العلنية، إذ واصل وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين جهوده في إطار الوساطة بين الطرفين، موجّهًا دعوة رسمية إلى كلٍّ من البرهان وحميدتي لعقد اجتماع مصالحة في تل أبيب، في محاولة لإعادة ضبط مسار التطبيع مع الخرطوم.
وتخشى إسرائيل أن تؤدي استمرارية الحرب بين الجنرالات إلى تقويض فرص التوقيع على اتفاق التطبيع النهائي، خاصة أن كلا الطرفين أبدى في فترات مختلفة رغبته في المضي قدمًا في الاتفاق، وإن كان حميدتي أكثر حماسة وعلنية في هذا المسار، باعتباره يسعى لكسب دعم خارجي يعزز موقعه السياسي والعسكري.
كما تأثرت المقاربة الإسرائيلية تجاه السودان بتجربتها السابقة في جنوب السودان، حيث لم تحقق العلاقات الوثيقة التي ربطت تل أبيب بقادة جوبا العوائد الاستراتيجية المرجوّة، فقد أدى عدم استقرار الحكم هناك وتكرار النزاعات الداخلية إلى تراجع قدرة إسرائيل على توظيف تلك العلاقة لتعزيز نفوذها في القارة الأفريقية.
ومن ثمّ، تتعامل إسرائيل اليوم مع الملف السوداني بحذر أكبر، محاولةً تجنّب تكرار فشل تجربتها السابقة، مع الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع جميع الأطراف لضمان استمرار نفوذها الإقليمي في منطقة حيوية تربط القرن الأفريقي بالبحر الأحمر.
إدارة التوازنات بين الخصوم
في ظل تعقد هذا المشهد المركب نجحت إسرائيل في تثبيت حضورها داخل الساحة السودانية عبر استراتيجية متعددة المستويات، تقوم على التسلل الهادئ والتأثير غير المباشر بدلًا من التدخل العلني المباشر، مدركة أن مستقبل نفوذها في السودان لا يتوقف على هوية المنتصر في الحرب، بقدر ما يعتمد على قدرتها على إدارة التوازنات بين الخصوم، وتوظيف التحولات الميدانية لصالح أجندتها الأمنية والجيوسياسية في المنطقة.
إن السودان بالنسبة للكيان ليس مجرد ملف تطبيع مؤجل، بل ساحة مفتوحة لتقاطع المصالح وتصفية الحسابات الإقليمية، حيث يسعى الإسرائيليون إلى منع أي فراغ قد تستغله قوى مناوئة مثل إيران أو محور المقاومة، مع الحفاظ في الوقت نفسه على موطئ قدم استراتيجي على البحر الأحمر وعمق القارة الأفريقية.
وفي الوقت الذي تغرق فيه الخرطوم في أتون حرب داخلية مريرة، تمارس تل أبيب سياستها القذرة المعهودة “اللعب على كل الأوتار”، فتتواصل مع البرهان من جانب باسم الشرعية السياسية، وتدعم حميدتي من جانب أخر بوصفه ورقة ضغط ميدانية، لتضمن في النهاية أن تكون هي الرابح الوحيد بغضّ النظر عن نتيجة الصراع.
في الأخير يمكن القول إن كل ما يهم الكيان المحتل في نهاية المطاف ليس هوية الطرف الحاكم، فكلاهما بالنسبة لها له سواء، وإنما استمرار النفوذ الإسرائيلي في مفاصل القرار السوداني، وتثبيت موطئ قدم دائم لها في بلد يشكّل جسرًا استراتيجيًا بين أفريقيا والعالم العربي.
وهكذا، بينما يغرق السودان في أتون صراع دموي مدمّر، تواصل إسرائيل العزف على جميع الأوتار، بمهارةٍ لا تخلو من براغماتية قاسية، لتحقيق مكاسبها الجيوسياسية والأمنية، ولو على أنقاض دولة تتآكلها الحروب والمجاعات وتتقاذفها الأجندات، الصهيونية والدولية والعربية.