أعلن وزير التجارة التركي عمر بولاط، أمس الأربعاء، أنّ طريق الشرق الأوسط التاريخي، الذي سيتيح للشاحنات التركية العبور نحو الأردن ودول الخليج عبر الأراضي العراقية، سيدخل الخدمة بكامل طاقته العام المقبل. التصريح الذي نُقل عن بولاط خلال منتدى لوجستي في أنقرة لم يكن مجرد إعلان تقني، بل إشارة إلى عودة شريان تجاري استراتيجي ظلّ معطّلًا لعقود بفعل الاضطرابات السياسية والأمنية التي عصفت بالمنطقة.
فهذا الطريق، الذي تعود جذوره إلى مسارات التجارة القديمة بين الأناضول وبلاد الرافدين وشبه الجزيرة العربية، يُعاد اليوم إحياؤه ضمن رؤية تركية لإعادة تموضعها كمركز عبورٍ إقليمي بين آسيا وأوروبا والعالم العربي. ويأتي المشروع في لحظةٍ تشهد فيها ممرات التجارة والطاقة حول العالم تحولات عميقة، من الممر الهندي–الأوروبي المدعوم أميركيًا إلى الممر البري–البحري الصيني في مبادرة “الحزام والطريق”.
في هذا المقال، نستعرض مسار طريق الشرق الأوسط الجديد، والأطراف المعنية بتنفيذه، وأبعاده الاقتصادية والاستراتيجية، إضافة إلى انعكاساته على العلاقات الدولية بين تركيا والعراق والأردن ودول الخليج، بوصفه مشروعًا يتجاوز النقل إلى إعادة تعريف التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط.
مساره
يُعرف المشروع باسم “طريق الشرق الأوسط” (Orta Doğu Koridoru)، وهو ممر بري وتجاري يهدف إلى ربط تركيا بالأردن ودول مجلس التعاون الخليجي عبر الأراضي العراقية، ووفق تصريح بولاط، فإن الطريق “سيدخل الخدمة بكامل طاقته العام المقبل”، ما يعني اكتمال المراحل اللوجستية والحدودية التي تمهّد لانطلاقه رسميًا.
من حيث المسار الجغرافي، يبدأ الطريق من الجنوب الشرقي لتركيا، وتحديدًا من منطقة غازي عنتاب وممر فيشخابور عند الحدود التركية–العراقية، ليمتد عبر محافظة نينوى والموصل وصولًا إلى الأنبار، ثم منفذ طريبيل الحدودي مع الأردن، قبل أن يتفرّع إلى السعودية ودول الخليج، مشكلًا حلقة وصل برية تربط البحر الأسود والأناضول بالبحر الأحمر والخليج العربي.
من الناحية الفنية، يعتمد المشروع على نظام النقل الدولي (TIR) الذي أُعيد تفعيله بين تركيا والعراق في عام 2023 بعد انقطاع دام سنوات، وهو ما يسمح للشاحنات التركية بالمرور عبر العراق نحو الأردن ودول الخليج دون تفريغ حمولاتها عند الحدود، مما يقلّص مدة الرحلات بين إسطنبول وعمان من أسبوعين إلى خمسة أيام فقط.

يتضمن الطريق أيضًا بنية تحتية موازية للسكك الحديدية، في إطار ما يعرف بـ”مشروع طريق التنمية” الذي أطلقته تركيا والعراق في وقت سابق، وهو مشروع ضخم يشمل مد خطوط نقل وسكك تمتد من ميناء الفاو الجنوبي في العراق إلى الأراضي التركية، لربط الخليج بأوروبا، وبذلك، يُعتبر “طريق الشرق الأوسط” جزءًا مكملًا لممر التنمية، ولكنه يركّز على نقل البضائع البرية السريعة بدل الشحن البحري.
تسمية الطريق بـ”التاريخي” كذلك ليست عابرة، إذ يُعيد المشروع إحياء طريق التجارة القديم الذي ربط الأناضول ببلاد الرافدين وشبه الجزيرة العربية منذ العصور العثمانية، والذي كان يُستخدم لتبادل السلع بين الموصل وحلب ودمشق والمدينة المنورة. واليوم، تُستعاد هذه المسارات نفسها لكن بآليات عصرية تضم أنظمة جمركية رقمية، ونقاط مراقبة حدودية متقدمة، وتسهيلات استثمارية مشتركة.
أما على المستوى الاستراتيجي، فيمثّل الطريق بديلاً بريًا فعالًا عن الممرات البحرية المهددة بالتوترات، خاصة في البحر الأحمر وباب المندب، كما يمنح تركيا منفذًا بريًا مباشرًا إلى الخليج دون المرور بإيران. في المقابل، يمنح العراق دورًا محوريًا جديدًا كممر عبور تجاري بعد سنوات من الانعزال، فيما يمنح الأردن فرصة لاستعادة دوره كعقدة لوجستية تربط المشرق بالخليج.
الأطراف المعنية
يشترك في مشروع “طريق الشرق الأوسط التاريخي” عدة أطراف محورية، لكلٍ منها موقعٌ مختلف ودوافع خاصة، لكنّها جميعًا تلتقي في نظرتها إلى هذا الممر كفرصة لإعادة رسم أدوارها الإقليمية.
- تركيا
تتصدر تركيا القائمة لأنها ترى في هذا المشروع فرصة لتعزيز موقعها الاستراتيجي، وتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، وليس مجرد منفذ نقل. ووفق تحليل عربي/أجنبي، فأنقرة تسعى إلى تنويع موازينها الاقتصادية بعيدًا عن الاعتماد على استيراد الطاقة عبر المسارات التقليدية، في وقت تشهد فيه سياسة الطاقة التركية تحوّلًا نحو التنويع والتعاون الإقليمي. - العراق
العراق يحتل موقع “ممر عبور” جوهريًا في هذا المشروع، حيث يجري العبور عبر أراضيه من تركيا نحو الأردن والخليج. تقرير موقع “Iraqi News” يؤكد أن تفعيل نظام النقل الدولي (TIR) بين تركيا والعراق ساهم في رسم هذا المسار. وبالتالي، إنّ للعراق مصلحة مزدوجة؛ أولًا، تحقيق عائد اقتصادي وتحول من دولة متلقٍّة إلى دولة معبر؛ ثانيًا، استعادة دوره الإقليمي بعد سنوات من التراجع الأمني والاقتصادي. كما أن الموقع الجغرافي يجعله شريكًا لا يمكن تجاوزه في مشروع من هذا الحجم. - الأردن
الأردن يظهر كـ”حلقة وسطى” لا غنى عنها في المسار التركي–العراقي–الخليجي، فالاتفاقات المشتركة بين تركيا والأردن، مثل المذكرة التي وُقعت في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2025 بين الطرفين، توضح هذا الدور، إذ يعتبر المشروع بالنسبة للأردن فرصة لتعزيز دوره كمركز عبور لوجستي بين الشرق الأوسط والخليج، وتحقيق نمو اقتصادي عبر الربط البري، مع الاستفادة من حركة الشاحنات والبضائع التي ستضيّفها تركيا والعراق. - دول الخليج/السعودية
رغم أن الإعلان الرسمي يركز على تركيا–العراق–الأردن، إلا أن البُعد الخليجي (وخاصة السعودية) يُعتبر ضروريًا لتوسعة الممر نحو الخليج، فالسعودية تُعدّ شريكًا محتملًا في المراحل المتقدمة للمشروع، ضمن رؤيتها الاقتصادية الأوسع ورغبتها في الربط بالأسواق العالمية. مع ذلك، حتى الآن لم تظهر بيانات عامة واضحة تشير إلى توقيع نهائي من المملكة للمسار، مما يجعلها طرفًا محتملًا أكثر منه فعّالًا حتى اللحظة. - الجهات الدولية والمنظمات النقلية
من المهم ذكر أن الاتحاد الدولي للنقل الطرقي (IRU) شارك في تسهيل استخدام نظام TIR في العراق–تركيا–الأردن، ما يدلّ على إشراف دولي لوجستي على المشروع، كما أن مؤسسات بحثية دولية تحلّل المشروع في إطار ممرّات التجارة والربط الدولي بين آسيا وأوروبا، ما يمنحه أبعادًا تتجاوز منطقة الشرق الأوسط.
الثِّقل الاستراتيجي والاقتصادي
يُقاس “طريق الشرق الأوسط التاريخي” بحجم التحوّل الاقتصادي والسياسي الذي يجسّده، حيث ينظر إليه إقليميًا باعتباره منصة لإعادة توزيع النفوذ التجاري واللوجستي في المنطقة، إذ تتحوّل الطرق إلى أدوات قوة، والممرات إلى لغة جديدة للتأثير.
الثِّقل الاقتصادي
أولًا، يتيح المشروع لتركيا فرصة لتصبح “بوابة برّية” بين آسيا وأوروبا، مع تجاوزها لمسارات النقل البحرية التقليدية، ما يقلِّص زمن الشحن ويخفض التكلفة، فقد أظهرت دراسة نشرتها منظمة IRU أن الطريق الجديد يقلّص زمن الشحن من إسطنبول إلى عمّان عبر العراق، فقد سُجّلت وصول إحدى الشاحنات في خمسة أيام، بدل أسابيع.
ثانيًا، من خلال تعزيز الربط بين تركيا والعراق والأردن، يتوقع أنطولوجيا نموٍّ يشمل قطاعات لوجستية، مثل تخزين، تجارة، وتمويل خدمات العبور، ما يُسهم في تنويع اقتصاديات الأطراف وبناء موارد أكثر استدامة.
ثالثًا، من منظور المنطقة الخليجية، يشكّل المشروع إبرازًا لدور البُعد البري في تكامل اقتصادات الشرق الأوسط مع الأسواق الأوروبية، وهو ما يتماشى مع اتجاهين: خفض الاعتماد البحري وفتح أسواق جديدة.
الثِّقل الاستراتيجي
يتخطى المشروع الحدود الاقتصادية ليُشكّل أداة استراتيجية، ففي خضم تنافس النفوذ بين القوى الكبرى، يصبح الطريق قطعة من رقعة جيوسياسية أكبر، فحسب المعهد الألماني للدراسات السياسية والأمنية “SWP”، فإن تركيا تعيد صياغة استراتيجيتها تجاه العراق ومحور الخليج عبر البُعد الاقتصاديّ والربط، وليس فقط عبر الأمن التقليدي.
هذا الربط البري يعزز موقع تركيا كممر عبور بديل لإيران، ويمنح العراق والأردن دورًا محوريًا في شبكة الربط الخارجي، ما يبدّل من طبيعة العلاقات بين هذه الدول والدول الخليجية، ويُبرز تعددية المحاور في المنطقة.
الانعكاسات على العلاقات الدولية
يفتح مشروع طريق الشرق الأوسط التاريخي فصلًا جديدًا في هندسة العلاقات الإقليمية، إذ لم يعد التعاون بين دول المنطقة يُبنى على المصالح الأمنية فقط، بل على تقاطعات اقتصادية متشابكة تُعيد توزيع موازين القوة والنفوذ.
فعلى المستوى الإقليمي، يمثّل الطريق نقطة انعطاف في موقع تركيا داخل الشرق الأوسط، فبعد سنوات من الانخراط العسكري المباشر في سوريا والعراق، تنتقل أنقرة نحو توظيف أدوات “القوة الناعمة” الاقتصادية لتثبيت حضورها. الطريق يمنحها منفذًا بريًا إلى الخليج دون المرور بإيران، ما يوسّع مجالها الجيوسياسي ويعزّز قدرتها على التفاوض مع واشنطن وموسكو وبروكسل من موقع اللاعب اللوجستي الذي لا يمكن تجاوزه.
على الجانب الآخر، يأتي المشروع في سياق سباق عالمي بين الممرّات الاقتصادية، من “الحزام والطريق” الصينية إلى “ممر الهند–الشرق الأوسط–أوروبا” الذي ترعاه واشنطن. وفي هذا السباق، تحاول تركيا أن تصوغ موقعًا ثالثًا متوازنًا، لا ينحاز بالكامل لأي محور، بل يستفيد من التنافس بينهما لتكريس دورها كمركز عبور إقليمي مستقل.
وهو ما سيُفضي إلى إعادة واشنطن حساباتها تجاه أنقرة، فبدل الضغط السياسي الذي طبع العلاقات خلال العقد الماضي، سترى الإدارة الأميركية في مشاريع البنية الإقليمية الجديدة فرصة لاحتواء النفوذ الصيني والإيراني عبر شراكات اقتصادية غير صدامية. وهكذا يتحول المشروع من مجرد طريق للنقل إلى أداة دبلوماسية لتليين التنافس بين القوى الكبرى.
في الجوهر، يعكس المشروع طموح تركيا في تثبيت موقعها كمحور ربط بين الشرق والغرب، في لحظة إقليمية تُعاد فيها صياغة الجغرافيا الاقتصادية للمنطقة، إلا أن الطريق، مهما بلغت جاهزيته الفنية، سيظلّ رهين حسابات أعمق من الأسفلت والخرائط، فنجاحه يتوقف على استقرار العراق وانخراط الأردن واستعداد الخليج لتبني شراكة تتجاوز التجارة إلى بناء ثقة سياسية، أما بالنسبة لأنقرة، فالمشروع لا يقتصر على تمرير الشاحنات، بل على تمرير رؤية جديدة لدورها في الشرق الأوسط.