شكّل فوز المرشح الديمقراطي زهران ممداني، البالغ من العمر 34 عامًا، بمنصب عمدة نيويورك صدمة سياسية داخل الولايات المتحدة، ليس فقط لكونه حدث انتخابي خارج التوقعات، بل لأنه كسر أحد أكثر الحصون رمزية في النظام السياسي الأمريكي الحديث، فوز تحقق رغم حملات التحريض المكثفة التي شنّها الرئيس دونالد ترامب والجمهوريون، ورغم انخراط اللوبي الصهيوني في الداخل والخارج لمحاصرته وإفشاله بأي ثمن.
هذا الانتصار لم يكن نتيجة تنافس اعتيادي داخل دورة انتخابية، بل أشبه بانتزاع موقع من قلب بنية السلطة التقليدية في أمريكا، تلك البنية التي احتكرتها لعقود شبكات المال والإعلام والمؤسسات ذات الارتباط التاريخي بمراكز النفوذ الرئيسية.
فجاء هذا الشاب المسلم الاشتراكي، القادم من أصول مهاجرة، ليعيد صياغة قواعد اللعبة، ويقدم البرهان الأوضح على أن التحولات العميقة في المزاج السياسي الأمريكي لم تعد نظرية أو مجرد موجات احتجاج في الشارع والجامعات، بل أصبحت تتجسد في سلطة قابلة للممارسة وصناعة القرار وتفرض حضورها بالقوة.
والأهم أن ممداني نفسه لم يخفِ هويته، ولم يُقدّم سردًا متخفّيًا أو مخففًا لخلفيته الثقافية والسياسية، كما هو معتاد في السنوات السابقة، بل قالها صراحة: مسلم، مهاجر، مناصر لحقوق الفلسطينيين، وأن يحدث هذا في نيويورك تحديدًا، المدينة التي تضم أكبر تجمع سكاني يهودي خارج فلسطين المحتلة، يجعل هذا الفوز خروجًا كاملًا من “الحدود المسموح بها” في السياسة الأمريكية التقليدية، ويعطيه أبعادًا رمزية وسياسية عميقة تتجاوز حدود المدينة والانتخابات والحزب.
من هنا، فإن قراءة هذا الحدث كحدث محلي ضيق هي قراءة قاصرة، تفتقد للعمق الذي أخرجته تلك اللحظة للسطح، نحن أمام تحول سيترك بصماته على الداخل الأمريكي، كما سيعيد تشكيل الطريقة التي تُقرأ بها أمريكا في العالم.
ولذلك، ومع إعلان النتائج رسميًا، بدأت الأسئلة تتدفق بلا توقف: ماذا يعني هذا لمستقبل الإسلاموفوبيا في أمريكا؟ كيف سينعكس على خطاب الهجرة وواقع المهاجرين وتمثيلهم السياسي؟ ماذا يعني لمستقبل جيل زد الذي يبدو أنه فرض معادلاته لأول مرة بهذه القوة؟ وكيف سيؤثر هذا على النقاش المتعلق بفلسطين داخل المؤسسة السياسية الأمريكية، بعد عقود من الهيمنة المطلقة للرواية الإسرائيلية؟
الواقعية السياسية تنتصر
لم يكن انتصار ممداني صادمًا بالنسبة لقطاع واسع من المحللين السياسيين داخل الولايات المتحدة، فالرجل لم يدخل هذه المعركة باندفاع عاطفي أو رهان رمزي، بل تقدّم وفق هندسة مدروسة تجسد ما يمكن تسميته بـ “الواقعية السياسية المضادة” في مواجهة الشعبوية النخبوية المحافظة التي حكمت نيويورك لعقود.
قبل عام واحد فقط، كان كثير من سكان المدينة لا يعرفون عن هذا الشاب المسلم ذي الجذور الهندية – الأوغندية سوى كونه عضوًا في المجلس التشريعي للولاية، إلا أن بناء حملته الانتخابية نقل اسمه من الهامش إلى المركز بصورة متسارعة.
مع انطلاق الحملة، أخذت ملامح مشروعه تتشكّل بوضوح، تحالف تقدمي عريض يضم رموزًا ذات ثقل في اليسار الأمريكي الجديد مثل بيرني ساندرز وألكسندريا أوكاسيو كورتيز، في مواجهة أندرو كومو، أحد رموز السلطة التقليدية في نيويورك.
وفي جوهر هذه الاستراتيجية كان هناك إدراك عميق بأن الانتخابات ليست لعبة خطاب عاطفية شعبوية، بل لعبة تحالفات وتوازنات، وأن معركة “ما بعد 7 أكتوبر” داخل أمريكا لم تعد تُحسم في قاعات اللوبيات، بل في الشارع والأحياء والجامعات وفي المزاج الأخلاقي الصاعد لدى الأجيال الجديدة.
اعتمد ممداني على برنامج تقدمي واضح، متكئ على شعبوية اقتصادية محسوبة، تستهدف بناء قاعدة اجتماعية لا تُخاطَب كشعار، بل كطبقة متضررة وفاعلة، نقل مجاني داخل المدينة، رعاية أطفال مجانية، متاجر غذاء مدعومة حكومياً في كل حي، تجميد الإيجارات في الشقق ذات الإيجار الثابت، وتوفير 200 ألف وحدة سكنية بأسعار معقولة عبر فرض ضرائب أعلى على الأثرياء، ولم تكن هذه مجرد وعود انتخابية، بل محاولة لإعادة تعريف مفهوم العقد الاجتماعي داخل المدينة.
عمدة نيويورك، زهران ممداني خلال خطاب فوزه: "أنا شابٌّ رغم كل محاولاتي لأن أبدو أكبر سنًّا، أنا مسلم، أنا اشتراكي وما يزعجهم أنني أرفض أن أعتذر عن أيٍّ من ذلك". pic.twitter.com/DLXbNG9vsT
— نون بوست (@NoonPost) November 5, 2025
وعلى المستوى السياسي – الخطابي، لعب ممداني على ثلاثة أوتار في الوقت نفسه، منحت حملته كتلة شعبية متقاطعة لم يكن أحد يتوقع قدرتها على التوحّد:
–الشباب التقدمي، بما فيهم نسبة كبيرة من اليهود تحت سن 44 عامًا، الذين ذهب منهم 67% لصالحه رغم مواقفه الصريحة المناهضة لنتنياهو وللسلوك الإسرائيلي الرسمي.
–الجاليات الإسلامية والعربية والشرقية التي رأت فيه تمثيلًا رمزيًا ونضاليًا في مواجهة الخطاب الصهيوني المتغلغل.
–العمال والمهاجرون الذين عاشوا سنوات ترامب تحت القلق والتخويف والتحريض، فاستجابوا لصوته حين خاطبهم بالعربية قائلًا: “أنا منكم وإليكم”
بهذه الثلاثية – الشباب، الهوية، الطبقة العاملة – تمكّن ممداني من تحويل آلة التحريض التي قادها ترامب ضده إلى سلاح مرتد، فقد تحوّل الاحتشاد اليميني ضده إلى تصويت عقابي مضاد، خصوصًا من الجيل الشاب الذي قرأ المعركة باعتبارها اختبارًا أخلاقيًا قبل أن يكون صراعًا انتخابيًا، وهكذا لم ينتصر المرشح المسلم بالأرقام فقط، بل انتصر بالرمزية والتحالفات وتركيبة الوعي الجديد داخل أمريكا ما بعد الحرب على غزة.
القضية الفلسطينية كـ “سلاح قوة”
يحمل فوز ممداني على منافسه أندرو كومو، الذي يُعد من أبرز الوجوه الديمقراطية التقليدية المؤيدة لإسرائيل والمدعوم تاريخيًا من شبكات اللوبيات اليهودية والصهيونية داخل نيويورك وخارجها، رسائل سياسية بالغة الدلالة.
فهو لم يخفِ لحظة واحدة انحيازه الصريح لحقوق الشعب الفلسطيني ورفضه للانتهاكات الإسرائيلية، بل ذهب أبعد من ذلك حين أعلن التزامه بتنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية القاضي باعتقال بنيامين نتنياهو في حال دخل الأراضي الأمريكية وتحديدًا نيويورك، مثل هذا الموقف لم يعد رمزيًا، بل تقدّم باعتباره تعبيرًا عن مفهوم جديد للمساءلة داخل السياسة الأمريكية المحلية نفسها.
وقد مثّلت مواقف العمدة الجديد تجاه القضية الفلسطينية قطيعة حادة مع النموذج التقليدي للسياسي الأمريكي، خصوصًا في ولاية مثل نيويورك، فهو واحد من قلّة من المسؤولين المنتخبين الذين يدعمون علنًا حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) ضد الكيان المحتل، ويرفض الاعتراف بإسرائيل كـ “دولة يهودية”، وقد لخص رؤيته بوضوح حين قال إنه لا يعترف بشرعية أي كيان سياسي يقوم على تراتبية عرقية أو دينية، داعياً إلى دولة تقوم على المساواة الكاملة في الحقوق.
قبل فوزه بمنصب عمدة نيويورك.. زهران ممداني يجيب عن دعمه المحرّم لفلسطين في الولايات المتحدة. pic.twitter.com/g07QGgfvFm
— نون بوست (@NoonPost) November 5, 2025
ورغم توقعات كثيرين بأن هذا الخطاب سيُكلفه خسارة كتلة الناخبين اليهود الذين يشكّلون نسبة معتبرة من سكان نيويورك (نحو 16%)، تكشفت نتائج الانتخابات عن حقيقة مغايرة تمامًا؛ إذ نجح في اجتذاب نسبة ملحوظة من أصوات اليهود الشباب تحديدًا، في انعكاس لاتساع الهوّة الجيلية داخل المجتمع اليهودي الأمريكي نفسه، وتراجع تأثير الخطاب الصهيوني التقليدي على الناخبين ما دون جيل منتصف الأربعينات.
وهكذا، تحوّل موقفه الصارم دفاعًا عن الفلسطينيين من نقطة مخاطرة انتخابية إلى مصدر قوة سياسية؛ بل أصبح عامل تعبئة مركزية داخل الدوائر الانتخابية الحيوية، ليُترجم إلى أحد أهم عوامل الانتصار في هذه المعركة التي أعادت تعريف الحدود المسموح بها سياسيًا في الولايات المتحدة تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية.
ارتباك وقوق اللوبي الصهيوني
شكّل فوز ممداني ضربة موجعة للّوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، إذ قرأ كثيرون داخل هذه الدوائر هذا الانتصار كإشارة أولى على بدء تآكل نفوذ ظل لعقود يُعد من الثوابت الراسخة في بنية القوة السياسية داخل نيويورك.
فالمدينة التي طالما اعتُبرت الحصن الأكبر للمصالح المؤيدة لإسرائيل، بحكم وجود أكبر تجمع يهودي خارج فلسطين المحتلة، كانت مساحة مغلقة أمام أي اختراق سياسي يرفع خطابًا صريحًا داعمًا للفلسطينيين، ولذلك بدا فوز ممداني وكأنه إعلان حرب مباشرة مع أحد أقدم مراكز النفوذ المؤسسي في الولايات المتحدة.
ويمثّل هذا الانتصار نقطة تحول داخل الحزب الديمقراطي نفسه، إذ يمنح شرعية انتخابية غير مسبوقة للتيار اليساري المناهض للصهيونية داخل الحزب، فمواقف دعم فلسطين لم تعد عبئًا انتخابيًا يجب مداراة حدوده أو تغليفه بلغة مواربة، بل تحولت إلى ممكن سياسي قادر على صناعة فوز في أكبر مدينة أمريكية، وفي معقل كان يُفترض نظريًا أنه الأكثر حساسية تجاه مثل هذه الخطابات.
هذا التحول انعكس مباشرة على ردود أفعال المؤسسات اليهودية والمنظمات المؤيدة لإسرائيل في نيويورك، فالمشهد اليوم داخل هذه الجماعات يتسم بالقلق والارتباك، خشية أن يكون ما حدث مع ممداني ليس استثناءً، بل بداية لمسار تغيّر في داخل الحزب الديمقراطي يمكن أن يؤدي تدريجيًا إلى تبدل موقع إسرائيل داخل المنظومة السياسية الأمريكية، ويتعاظم هذا القلق مع إدراكهم حجم القوة المتنامية للناخبين المسلمين، ومع الرفض المتزايد داخل التيار التقدمي للسياسات الإسرائيلية، بعد الحرب الأخيرة على غزة.
ولذلك يُتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة تحركًا مكثفًا من جماعات الضغط اليهودية التقليدية مثل اتحاد اليهود المتحدين والمنظمات الأرثوذكسية والجهات المانحة المرتبطة بـ AIPAC، بهدف إجبار قيادة الحزب الديمقراطي على إعادة تثبيت خطاب الدعم غير المشروط لإسرائيل، خشية فقدان السيطرة على المزاج السياسي داخل قواعده.
ورغم أن منصب عمدة نيويورك لا يملك صلاحيات مباشرة في السياسة الخارجية، إلا أن وصول شخصية بمواقف بهذا الوضوح الأخلاقي والقطيعة الخطابية إلى رأس أكبر مدينة أمريكية، يحمل رمزية ثقيلة، يمكن أن تُعيد ترتيب أولويات النقاش العام، وتُدخل فلسطين إلى مركز الجدل السياسي داخل أمريكا، ليس بوصفها قضية خارجية بعيدة، بل بوصفها معيارًا للشرعية الأخلاقية في الحقل السياسي الداخلي نفسه.
كسر صنم الإسلاموفوبيا
أن يفوز مرشح مسلم في ولاية مثل نيويورك، التي شكّلت منذ 2001 أحد أهم مراكز صناعة وتدوير خطاب الإسلاموفوبيا، هو حدث يتجاوز مجرد الربح الانتخابي، ليقترب من مستوى “تحطيم البنية الرمزية” لإحدى أكثر المسلّمات رسوخًا في الوعي السياسي الأمريكي بعد 11 سبتمبر.
فهذه المدينة التي لطالما صُنّفت باعتبارها مركز إنتاج الخوف من الإسلام وتوظيفه سياسيًا وإعلاميًا، تتحول اليوم إلى منصة انتخاب أول عمدة مسلم في تاريخها، هذه ليست خطوة في صندوق اقتراع، بل كسر لصنم سياسي ظلّ الاقتراب منه مغامرة تكلف الانتحار السياسي.
فوز ممداني لا يمثل فقط وصول مسلم إلى رأس السلطة المحلية في أكبر مدينة أمريكية، بل إعلان دخول مرحلة جديدة ينتهي فيها دور المسلم بوصفه “فائض هوية” في المجال العام الأمريكي، فاليوم يتحول المسلم من موضوع خطاب ومادة استقطاب، إلى فاعل سياسي قادر على صناعة السياسات، وتحديد الأجندة، والمواجهة من موقع سلطة، وليس من موقع دفاع أو تبرير.
وفي ولاية تضم أكثر من مليون مسلم، أكّد هذا الفوز أنّ مجتمعات نيويورك المتنوعة عرقيًا ودينيًا لم تخضع لهذه الآلة الخطابية الطويلة التي غذّت الفرز على أساس الهوية، بل اتخذت خيارًا مضادًا؛ خيارًا يضع نهاية سياسية لمعادلة كانت تُحتكر من قبل، عبر خطاب شعبوي متطرف، يضع المسلم تحت عناوين الخطر والاستثناء والتهميش، قبل أن ينتقل اليوم إلى دائرة التمثيل الشرعي والقيادة.
عمدة نيويورك الجديد، زهران ممداني: لن تكون نيويورك بعد الآن مدينة تروّج فيها للإسلاموفوبيا ثم تفوز بالانتخابات. pic.twitter.com/knvDRwgU9p
— نون بوست (@NoonPost) November 5, 2025
هذا الانتصار جاء رغم حملات ممنهجة للتشويه وشيطنة المرشح، والتي نسّقها جزء من اليمين الشعبوي المتحالف مع اللوبي الصهيوني بهدف إعادة تفعيل الإسلاموفوبيا كسلاح انتخابي لإسقاطه، لكن نتائج الاقتراع أظهرت سقوط هذا السلاح لأول مرة منذ عقدين.
وعندما أعلن ممداني في خطاب النصر أنه سيعمل على “وضع حد للفساد والإسلاموفوبيا”، لم يكن ذلك مجرد وعد سياسي، بل نقل الإسلاموفوبيا من خانة “الظاهرة الاجتماعية” إلى خانة “الظلم الذي يستوجب المعالجة المؤسسية”، أي تحويل المعركة من مستوى الشعور بالاضطهاد إلى مستوى صناعة سياسة مضادة.
فالناخبون الذين صوتوا له لم يفعلوا ذلك بوصفهم مناصرين لهوية دينية، بل بوصفهم فاعلين يريدون تغييرًا في نمط السلطة الاقتصادية السائدة، وهذا بدوره أعاد تعريف ترتيب الأولويات في التصويت، العدالة الاقتصادية أولًا، مع التشديد على أن الهوية الدينية ليست عنصرًا مانعًا، ولا محددًا سلبيًا لاختيار المرشح.
المهاجرون يتنفسون الصعداء
“أنا منكم وإليكم”.. بهذه الجملة خاطب زهران ممداني ناخبيه من المهاجرين في خطاب النصر، فالشاب الذي وُلِد في أوغندا لأبوين من أصول هندية وهاجر إلى نيويورك في سن السابعة، جعل من فوزه انتصارًا رمزيًا للقصة المهاجرة في هذه المدينة التي صاغت تاريخها على موجات الهجرة المتعاقبة.
لقد تبنى ممداني طوال مسيرته السياسية خطابًا صريحًا في الدفاع عن المهاجرين، وواجه الإجراءات الفدرالية القاسية بحقهم، بما في ذلك الاعتقالات داخل المحاكم، وتعهد بأن يقف “بلا تردد” مع سياسات المدينة التي تحمي المهاجرين من الترحيل، وامتدت رؤيته هذه إلى برنامجه الانتخابي، الذي تضمّن تمويلًا واسعًا للخدمات القانونية والإنسانية للمهاجرين وطالبي اللجوء، في رسالة واضحة بأن حماية السكان لا يجب أن تكون مشروطة بوضعهم القانوني.
ويمثل فوزه، بوصفه أول عمدة مسلم من أصول آسيوية إفريقية يتولى موقعًا بهذا الحجم في مدينة بحجم نيويورك، اختراقًا جديدًا على مستوى التمثيل العرقي والسياسي داخل الولايات المتحدة، في مدينة تشكّل فسيفساء من الأعراق والأديان والثقافات.
زهران ممداني، عمدة نيويورك، يخاطب جمهوره باللغة العربية: "أنا منكم وإليكم". pic.twitter.com/ATRGq9kk5I
— نون بوست (@NoonPost) November 5, 2025
لكن دلالة هذا الفوز تتجاوز حدود نيويورك نفسها، إذ يفتح الباب أمام قراءة جديدة لدور المهاجرين في المستقبل السياسي الأمريكي، فالحلم السياسي الأعلى للمهاجر لم يعد محصورًا في عضوية الكونغرس أو المناصب التشريعية الثانوية؛ بل أصبح الوصول إلى قيادة واحدة من أكبر المدن في العالم ممكنًا، بعد أن كانت هذه المواقع محجوزة تاريخيًا للنُخب البيضاء والأثرياء وأصحاب شبكات النفوذ التقليدية.
كما أثبتت تجربة ممداني أن النجاح السياسي في أمريكا لم يعد مرتبطًا بالتخلي عن الجذور أو إخفاء الهوية، بل أصبح استثمار الهوية الأخلاقية والثقافية جزءًا من رأس المال السياسي ذاته، الشرعية اليوم تُنتزع عبر التحالفات الاجتماعية المباشرة وبرامج العدالة واقتصاد الخدمات العامة، وليس عبر الاستناد إلى مراكز النفوذ التقليدية المرتبطة تاريخيًا باللوبيات اليهودية والصهيونية.
جيل زد٫.. من التهميش لقلب الحدث
استند العمدة المسلم الجديد في حملته الانتخابية على قاعدة واسعة من أبناء جيل زد، ذلك الجيل الذي عاش سنوات من التهميش والاستهانة بفاعليته السياسية، ولعل عمر ممداني نفسه، إذ لا يتجاوز الرابعة والثلاثين، شكّل عنصرًا حاسمًا في قدرته على فهم لغة هذا الجيل، إدراك أولوياته، وتحديد ما يحركه سياسيًا واقتصاديًا، هذه القربى العمرية ساعدت في بناء جسر ثقة متين بينه وبين الشباب.
كما أن الزخم الذي أظهره الناخبون الشباب في هذه الانتخابات لم يكن مجرد التفاف حول مرشح، بل لحظة تحوّل حقيقية، فقد وجد جيل زد للمرة الأولى صوتًا سياسيًا يعبر عنه، لا يتحدث عنه من أعلى، بل ينطق بلسانه وينطلق من همومه الواقعية، هذه اللحظة نقلت الشباب من موقع المقاطعة واللامبالاة إلى موقع التأثير وصناعة الفارق داخل صندوق الاقتراع.
لقد فهم ممداني سياق هذا الجيل الذي تشكّل وعيه وسط أزمات كبرى، أزمة الإسكان، التغير المناخي، تفاقم فجوات العدالة العرقية، وانهيار الثقة بالمنظومة التقليدية، كما أدرك أن هذا الجيل عاين بشكل مباشر خلال السنوات الأخيرة حقيقة العدوان الإسرائيلي وتعرّف على القضية الفلسطينية من مصادر بديلة خارج الرواية الرسمية الأمريكية، ليصل إلى قناعة مختلفة جذريًا عن السرديات القديمة التي كانت تهيمن على الإعلام والسياسة لعقود.
الجيل الشاب أثبت من خلال هذه الانتخابات أن ابتعاده السابق عن السياسة لم يكن ناتجًا عن جهل أو عدم اكتراث، بل عن قناعة بأن الأفق السياسي مغلق وغير قابل للاختراق، وعندما ظهر المرشح القادر على إتاحة وتوفير الممكن السياسي، وأن يمنحهم أفقًا واقعيًا، تحوّل اليأس إلى حركة، واللامبالاة إلى فعل انتخابي، والموقع الهامشي إلى موقع قيادي، لقد انتقل جيل زد في هذه الجولة من مقاعد المتفرجين إلى ساحة الفعل، وصنع فارقًا فعليًا في ميزان القوة.
في المحصلة.. رغم الزخم الرمزي والسياسي الهائل الذي حمله فوز زهران ممداني، والقراءات العميقة التي فتحها هذا الحدث على مستويات متعددة، من مستقبل العلاقة مع اللوبي الصهيوني، إلى أوضاع المهاجرين وصعود الجيل الجديد، وتراجع الإسلاموفوبيا، وإعادة تموضع القضية الفلسطينية داخل المعادلة الأمريكية؛ إلا أن الحكم النهائي على طبيعة هذه التحولات ومدى استدامتها لا يزال مبكرًا.
فالسياسة في الولايات المتحدة، خصوصًا في مدينة بحجم نيويورك، لا تُقاس فقط بلحظة الانتصار الانتخابي، بل بما يليها من قدرة على الصمود، والتحمل، وفرض الفعل داخل دوائر صنع القرار، واستثمار الرمزية في واقع مؤسساتي شديد التعقيد وشديد المقاومة للتغيير.
قد يكون فوز ممداني مؤشرًا نظريًا لانحسار مركز القوة التقليدي في أمريكا وبداية تشكل مركز قوة جديد يُعاد تشكيله عبر التحالفات الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع الأمريكي، وقد تكون اللحظة مجرد ذروة رمزية سرعان ما يبتلعها الفعل المضاد داخل بنية السلطة التقليدية العميقة.
ومن هنا فإن الأسابيع والأشهر القادمة وحدها ستكون الاختبار الحقيقي لكل هذه القراءة، فالدلالات قوية، والمشهد يهتز، والحدود التي ظلت ثابتة لعقود قد تم اختراقها بالفعل، لكن هل سيتحول هذا الاختراق إلى مسار جديد مستقر داخل النظام السياسي الأمريكي؟ أم سيتم احتواءه وإعادة ضبطه ضمن الهامش المسموح الذي لا يهدد جوهر البنية القديمة؟
