باتت حوادث انفجار الذخائر غير المنفجرة ومخلفات الحرب شبه يومية في مختلف المناطق السورية، مهددة أرواح المدنيين والعسكريين والعاملين في فرق إزالة الألغام، إذ لا يزال هذا الإرث الثقيل يحصد الأرواح ويتسبب بإصابات خطيرة بعد مرور أحد عشر شهرًا على سقوط نظام بشار الأسد.
وتمتد مخلفات الحرب على معظم الجغرافيا السورية، وتشكّل تهديدًا مزدوجًا للحياة اليومية والاقتصاد الوطني، إذ يساهم انتشارها في إعاقة عودة المهجرين والنازحين وتعطيل بعض القطاعات وإبطاء مشاريع الترميم والإعمار، وتردد بعض المستثمرين، حيث لا تزال سوريا واحدة من أكثر دول العالم تلوثًا بمخلفات الحرب.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 65% من سكان سوريا (أي نحو 14.4 مليون إلى 15.4 مليون شخص)، يواجهون مخاطر مباشرة من هذه المتفجرات، بزيادة تقارب 20% مقارنة بعام 2023، بينما تسجل سوريا للسنة الثالثة على التوالي، أعلى عدد من الإصابات الناجمة عن الذخائر المتفجرة على مستوى العالم.
ووثّقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 3521 مدنيًا نتيجة انفجار الألغام الأرضية، بينهم 931 طفلًا و362 سيدة، وإصابة ما لا يقل عن 10400 مدني، وذلك منذ بداية الثورة السورية عام 2011 وحتى نهاية عام 2024، في بلد لا يزال يواجه واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم، حيث يحتاج نحو 16.7 مليون شخص إلى المساعدة الإنسانية.
بلاد مليئة بمخلفات الحرب
منذ مارس/ آذار 2011، عملت جميع أطراف النزاع والقوى المسيطرة على زرع الألغام في مساحات واسعة من الأراضي السورية، في مقدمتها نظام بشار الأسد الذي استخدم الألغام قبل عام 2011، لكن استخدامه لها ازداد بعد اندلاع الحراك الشعبي وتحوّله إلى نزاع مسلح، فسهولة تصنيع الألغام وانخفاض تكلفتها جعلها أداة لدى أطراف النزاع المختلفة، دون الاكتراث بالإعلان عن مواقعها أو إزالة آثارها.
وخلال السنوات الماضية، تركت قوات النظام السوري السابق وحلفاؤها حقولًا من الألغام والذخائر في البلدات والأراضي الزراعية والثكنات، إذ اعتادت على زرعها كوسيلة للانتقام، وتركتها مخفية بين الركام أو خلف الأبواب، فيما يظل النازحون من الفئات الأكثر تعرضًا لمخاطر الألغام، والتي تُعتبر من أشد مخلفات الحرب خطورة.
ومع انطلاق معركة “ردع العدوان” التي أدت إلى سقوط نظام بشار الأسد، بدأ يتكشف تدريجيًا حجم مخلفات الحرب وذلك مع توالي السيطرة على المدن والبلدات، وازدياد عدد الضحايا بين المدنيين العائدين إلى ديارهم، خاصة في مناطق خطوط التماس، والقرى التي بقيت مهجورة لسنوات طويلة.
ولا تتوفر حتى الآن إحصائيات شاملة تحدد عدد مخلفات الحرب في سوريا، إلا أن خبراء ومنظمات عاملة في مجال إزالة الألغام يؤكدون أن البلاد ملوثة بمجموعة واسعة من الأسلحة المتفجرة، تشمل القنابل المصنعة محليًا والذخائر المهجورة والألغام الأرضية ومختلف أنواع المتفجرات اليدوية.
وعلى مدار 14 عامًا من الحرب، استُخدم ما يُقدَّر بمليون ذخيرة متفجرة، وبالنظر إلى أن الحد الأدنى لمعدل فشل الذخائر يتراوح عادة بين 10 و30%، يُحتمل أن يكون هناك ما بين 100 ألف و300 ألف قطعة متفجرة متناثرة في البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك الطرق والجسور والمستشفيات والمدارس والممتلكات السكنية، إضافة إلى الأراضي الزراعية وأنظمة الري وطبقات المياه الجوفية.
وتشير التقديرات إلى أن ثمانية من كل عشرة حقول زراعية في سوريا ملوثة بالذخائر المتفجرة، ما ينعكس مباشرة على سبل العيش في بلد يعتمد فيه جزء كبير من السكان على الزراعة كمصدر رئيسي للبقاء.
زيادة في أعداد الضحايا
وفق توضيح من منظمة “HALO Trust” المعنية بإزالة المتفجرات وإدارتها حول العالم، ومنها سوريا، فإن سوريا الآن تعد ثاني أخطر دولة في العالم بعد ميانمار من حيث حوادث المدنيين الناجمة عن المتفجرات، مؤكدة أن المناطق الريفية والحضرية مليئة بالذخائر العنقودية والألغام الأرضية والذخائر المتفجرة القاتلة.
وتقول المنظمة لـ”نون بوست” إنه مع عودة ملايين الأشخاص الذين فروا من الصراع في سوريا إلى دول مثل لبنان وتركيا إلى ديارهم، بالإضافة إلى النازحين العائدين، ازداد خطر الحوادث الناجمة عن مخلفات الحرب بشكل كبير، حيث وقع أكثر من 1400 شخص ضحية منذ سقوط الأسد، فيما سجلت المنظمة زيادة عشرة أضعاف في مكالمات الطوارئ بسبب عودة أكثر من مليون شخص إلى ديارهم.
وتضيف أن الدمار الذي لحق بسوريا يتجلى بشكل واضح في البيئة الحضرية، فقد دُمرت أحياء بأكملها بفعل مزيج من البراميل المتفجرة والمدفعية، وأن سوريا أيضًا بلد مليء بالأسلحة والمتفجرات الجاهزة للجمع، ويتزايد تهريب الأسلحة، وكذلك هجمات تنظيم “داعش”، بالإضافة إلى الانفجارات المتكررة في مستودعات الذخيرة.
من جانبه، يقول رائد الحسون، مسؤول عمليات مخلفات الحرب في “الدفاع المدني السوري”، إن فرق “الدفاع المدني” استجابت لـ120 انفجارًا ناجمًا من مخلفات الحرب والألغام في 69 منطقة في سوريا، وذلك منذ بداية العام الحالي حتى 30 من سبتمبر/أيلول الماضي.
ويضيف في حديثه لـ”نون بوست” أن هذه الانفجارات أسفرت عن مقتل 110 أشخاص بينهم ثلاثة متطوعين، وإصابة 307 أشخاص بينهم أربعة متطوعين، مؤكدًا التزايد الملحوظ في عدد الضحايا بسبب العودة غير المنظَّمة للأهالي إلى قراهم ومدنهم، بالرغم من الانتشار الكثيف لمخلفات الحرب وحقول الألغام في مختلف أنحاء البلاد.
ولفت رائد الحسون إلى أن فرق إزالة الألغام في “الدفاع المدني” كثّفت عملها بعد سقوط نظام بشار الأسد، وأتلفت نحو 2500 ذخيرة متنوعة أغلبها عنقودية، كما أجرت 750 تقييمًا مجتمعيًا، وتمكنت من تحديد 550 منطقة ملوّثة بالذخائر غير المنفجرة، مشيرًا إلى أن انتشار حقول الألغام بشكل غير منتظم، وعدم وجود خرائط تدل على توزعها، من أبرز المخاطر التي تواجه الفرق.
ويعد الأطفال الفئة الأكثر تضررًا من مخلفات الحرب في سوريا، إذ يعيش حوالي خمسة ملايين طفل في مناطق ملوثة بالألغام والذخائر غير المنفجرة، والتي أصبحت السبب الرئيسي لإصاباتهم في البلاد. وفي ديسمبر/كانون الأول 2024 وحده، وثّقت “اليونيسف” مقتل أو إصابة 116 طفلًا، بمعدل يقارب أربعة أطفال يوميًا، بينما تشير التقديرات إلى أن الأعداد الفعلية قد تكون أعلى بسبب تعقيدات الوضع الإنساني.
تقويض لجهود التعافي وإعادة الإعمار
يعد انتشار مخلفات الحرب من أبرز العوامل التي تُعيق تعافي الاقتصاد السوري، إذ تعرقل المخلفات مشاريع إعادة الإعمار المقدّرة تكلفتها بنحو 216 مليار دولار بحسب تقديرات البنك الدولي، كما يؤثر هذا الواقع على عودة نحو 7 ملايين نازح داخليًا، في وقت تحاول فيه الإدارة السورية الجديدة جذب الاستثمارات لإعادة تشغيل القطاعات الاقتصادية المتوقفة.
وعرقلت الألغام ومخلفات الحرب عمل فرق الإطفاء وهددت سلامتهم خلال استجابتهم لإطفاء حرائق واسعة اندلعت في عدة مناطق زراعية بسوريا، كان أبرزها في غابات الساحل مطلع يوليو/ تموز، حيث احترق أكثر من 15 ألف هكتارٍ من الأراضي الزراعية والحراجية.
وتؤكد منظمة “HALO Trust” لـ”نون بوست” أن الألغام التي انتشرت على نطاق واسع في سوريا، خاصة المناطق الريفية تعيق بشكل مباشر زراعة المحاصيل، وهي الصادرات الاقتصادية الرئيسية لسوريا. وتشير إلى ضرورة إدارة الأسلحة والذخائر في سوريا، إذ تحتاج البلاد على المدى البعيد إلى المساعدة في إخراجها (الأسلحة والذخائر) من التداول، مؤكدة أن عدم إخراجها يمثّل خطرًا سياسيًا أشد وطأة من الضرر الاقتصادي طويل الأمد الذي تسببه الألغام الأرضية.
ويرى الباحث في الشأن الاقتصادي عبد العظيم المغربل في حديثه لـ”نون بوست” أن مخلفات الحرب تؤثر بشكل مباشر على قطاعات الزراعة، والبنية التحتية، والطاقة، والسياحة، إذ ما تزال العديد من الأراضي الزراعية مزروعة بالألغام، مما يقلل الإنتاج وبالتالي يهدد الأمن الغذائي.
ويقول إن الألغام ومخلفات القصف تعيق أعمال إعادة الإعمار، وترفع تكاليف الاستثمار، إذ يمكن أن يؤدي استمرار هذه المخاطر إلى عزوف رؤوس الأموال المحلية والأجنبية عن الاستثمار في مناطق الحرب التي تنتشر فيها المخلفات، مما يبطئ النمو الاقتصادي والتنمية فيها. كما أن تراجع الأمن في المناطق المتضررة يحدّ من عودة السكان والعمالة، ما يجعل عملية التعافي بطيئة ومكلفة على المدى الطويل.
ويضيف أن هذه المخلفات تسهم في تدمير البيئة وتلويث مصادر المياه، ما يفاقم الأعباء الصحية والاقتصادية على المواطنين، ويؤدي إلى زيادة إنفاق الدولة على إزالة الألغام والرعاية الطبية بدل توجيهه نحو مشاريع للتنمية.
وتقود جهات حكومية وفرق تطوعية جهود إزالة الذخائر غير المنفجرة في سوريا، وتتنوع خدماتها بدءًا من المسح إلى الإزالة والاستجابة وصولًا إلى تنظيم جلسات توعية بمخاطر الألغام، وخدمات إعادة التأهيل والرعاية النفسية للأشخاص المتضررين من الأسلحة المتفجرة، لكن دون وجود مظلة أو هيئة واحدة للتنسيق فيما بينهم.
وتقول منظمة “HALO Trust” إنه لا توجد حتى الآن هيئة تنسيق متماسكة لعمليات إزالة الألغام في سوريا، وأعربت عن أملها في التعاون مع السلطات لتحديد مواقع الألغام وإزالتها ووضع إطار قانوني لمعالجة المخاطر، ودعت سوريا إلى الانضمام إلى معاهدة “أوتاوا لحظر الألغام” للاستفادة من الخبرات والموارد الدولية في هذا المجال.
وتوصي المنظمات الحقوقية والإنسانية منها “هيومن رايتس ووتش” بضرورة إنشاء وتمكين مؤسسات وطنية مدنية مستقلة معنية بالأعمال المتعلقة بالألغام، تشمل هيئة وطنية للتوجيه الاستراتيجي ومركزًا وطنيًا لتنسيق الجوانب التشغيلية وفق المعايير الدولية للأعمال المتعلقة بالألغام.
كما تدعو إلى توحيد ومركزة بيانات الألغام وتبادلها بين الوكالات والجهات الحكومية عبر نظام إدارة الأعمال المتعلقة بالألغام، وإعطاء الأولوية لجهود إزالة الألغام وتوفير التمويل الكافي للمسوحات، والتوعية بالمخاطر، وتدريب الكوادر، ومساعدة الضحايا.
