تشهد المجتمعات المغاربية منذ سنوات تحوّلًا عميقًا في ملامحها الاجتماعية والاقتصادية، وذلك انعكاسًا لانتقال جيل جديد من الشباب نحو رؤى مختلفة للعمل والنجاح، حيث بدأت طموحات الشباب في المنطقة تأخذ منحى جديدًا، بعيدًا عن الفكرة التقليدية للوظيفة العمومية باعتبارها مأوى آمنًا ومستقرًا.
وهذا الجيل، الذي نشأ في بيئة رقمية، لم يعد ينظر إلى العمل الحكومي كهدف نهائي، إذ أصبح يطمح إلى العمل الرقمي الحُر بوصفه مجالًا يضمن دخلًا محترمًا، خصوصًا في ظل ما يواجهه سوق العمل في هذه البلدان من أزمات هيكلية، ومعدلات بطالة مرتفعة، وهيمنة لأنماط التشغيل غير الرسمية، فضلًا عن تدني الحد الأدنى للأجور مقارنةً بارتفاع الأسعار.
وجاء هذا التحول نتيجة تفاعل هذه المجتمعات مع التغيرات العالمية في سوق العمل، ومع انتشار التعليم الذاتي عبر الإنترنت، وتوسع المهارات الرقمية باعتبارها أداة للتمكين الاقتصادي، إلى جانب صعود ثقافة العمل عن بُعد، خاصة بعد جائحة كورونا.
واقع سوق العمل في المنطقة المغاربية
تشهد المنطقة المغاربية واحدة من أعلى معدلات البطالة بين الشباب في العالم، وفق بيانات البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية، إذ بلغ متوسط بطالة الفئة العمرية بين 15 و24 عامًا حوالي 33% عام 2023، مقابل معدل عالمي لا يتجاوز 14%، وتُظهر المؤشرات أن هذه المعدلات المرتفعة جاءت نتيجة اختلالات هيكلية في أسواق العمل، من بينها ضعف التنويع الإنتاجي وهيمنة القطاعات غير الرسمية التي تستوعب أحيانًا أكثر من نصف اليد العاملة في بعض الدول كتونس والجزائر.
وحسب تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا، ارتفع معدل بطالة الشباب في تونس إلى 40.5% عام 2023، بعدما كان 39% عام 2019، كما يسجّل المغرب، رغم بعض التحسن في 2025، مستويات مرتفعة تعكس هشاشة سوق العمل، إذ انخفض معدل بطالة الشباب إلى 35.8% في الربع الثاني من 2025 بعد أن بلغ 37.7% في الربع الأول، في حين وصل المعدل الإجمالي لبطالة الشباب إلى 36.7% في عام 2024، إلى جانب بطالة مرتفعة لحاملي الشهادات بلغت 19.6%.
أما في الجزائر، فتشير البيانات المتاحة إلى أن معدل بطالة الشباب بلغ 29.3% في عام 2024، في حين وصل معدل بطالة النساء إلى 25.4% في الفترة نفسها، وهو مستوى مرتفع رغم تسجيل نمو اقتصادي قدره 3.9% في النصف الأول من 2024، ما يكشف عن فجوة مستمرة بين الأداء الاقتصادي وقدرة السوق على توفير فرص شغل حقيقية للشباب.
هذه الأرقام توضح أن بطالة الشباب تظل أحد أكثر التحديات إلحاحًا في المنطقة، إذ تتجاوز نسبها المعدلات العالمية، وتبيّن أن دول المغرب العربي، رغم اختلاف بنياتها الاقتصادية، تتقاطع في سمة أساسية تتمثل في هشاشة سوق العمل أمام الكفاءات الشابة، وهي هشاشة لا تعود فقط إلى غياب فرص التشغيل، بل أيضًا إلى بطء التحولات المؤسسية في استيعاب مفاهيم جديدة مثل العمل المرن، والاقتصاد الرقمي، وريادة الأعمال التكنولوجية.
وفي الوقت الذي تتجه فيه الاقتصادات العالمية إلى تكييف سياساتها التعليمية والمهنية مع التحولات الرقمية، ما يزال جزء واسع من البنى الإدارية والتعليمية في دول المغرب العربي محكومًا بأنماط كلاسيكية في التدريب والتشغيل، فضلًا عن عدم مطابقة مهارات الشباب لمتطلبات سوق العمل، وهيمنة التشغيل غير الرسمي الذي لا يوفر أمانًا وظيفيًا أو ضمانات اجتماعية، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى اتساع الهوّة بين قدرات الشباب وسوق الشغل عامًا بعد عام.
العمل الرقمي الحرّ باعتباره ملاذا للشباب
يبدو أن التحول نحو تعلّم المهارات الرقمية لا ينفصل عن التحولات الاجتماعية في وعي الشباب المغاربي، فالجيل الجديد، وأمام انسداد الأفق، بات يربط مستقبله بالقدرة على الإبداع الذاتي والمرونة في سوقٍ متغيّر، مستفيدًا من الثورة الرقمية التي مكّنته من أدوات غير مسبوقة أتاحت له إمكانية تحويل أفكاره إلى مشاريع، بدءًا من التسويق الرقمي وصولًا إلى التجارة الإلكترونية العابرة للقارات والعمل الحُر خارج الحدود.
وقد قدّم العمل الحُر عبر الإنترنت بديلًا عمليًا ومرنًا لأزمة الوظائف التقليدية، إذ يتيح تحقيق دخل أعلى لدى كثير من المستقلين مقارنة بالأجور المحلية، خصوصًا عندما يكون العملاء من خارج المنطقة، كما أن حرية اختيار المشاريع والعملاء تمنح الشباب فرصة ليس فقط لتنمية مهاراتهم التقنية، بل أيضًا لابتكار مسارات مهنية خاصة بهم.
ورغم التحديات التي يواجهها هذا النوع من العمل، مثل شدة المنافسة وضعف الحماية القانونية، إلا أن شريحة واسعة من الشباب المغاربي ترى فيه خيارًا أكثر وعدًا واستدامة من الاعتماد على فرص محلية محدودة وغير مضمونة.
وفي خضم هذا الوضع، برزت المنصات الرقمية للتوظيف كأحد أكثر الحلول نجاعة، إذ تقدَّم كوسيط قادر على تخفيف اختلالات السوق وربط الباحثين عن عمل بالمشغّلين من مختلف أنحاء العالم بكفاءة كبيرة، وقد جعلتها هذه الميزة منفذًا مهمًا أمام الشباب الذين يواجهون صعوبات مستمرة في الاندماج المهني داخل المنطقة المغاربية.
تستمدّ المنصّات الرقمية جاذبيتها من مجموعة من المزايا التي تجعلها ملاذًا محتملًا من البطالة؛ فهي تقلّل تكاليف البحث عن العمل، وتتيح الوصول إلى نطاق أوسع من عروض الشغل، كما تعزّز شفافية السوق عبر توفير معلومات آنية وواضحة حول العرض والطلبK وتسمح الأدوات الخوارزمية المتقدمة بتحسين مطابقة المهارات مع الوظائف المتاحة، مما يسرّع إدماج الباحثين عن العمل في السوق، خاصة في البلدان المغاربية التي تعرف بطئًا في خلق فرص جديدة.
وفي هذا السياق، تشير دراسات إلى أن غالبية العاملين في “اقتصاد المنصّات” في الجزائر هم من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و29 سنة (بنسبة 65%)، ومعظمهم ذكور (80%)، يعملون أساسًا في مجالات تكنولوجيا المعلومات والتصميم الإبداعي.
كما تشير الأرقام إلى أن نحو 120 ألف شاب في تونس يعتمدون على العمل الحر كمصدر رزق أساسي، مستفيدين من “الثورة الرقمية وظهور الذكاء الاصطناعي الذي غيّر جذريًا أنماط الإنتاج والعمل في العالم”، إلا أن هذه الحركية لا ترافقها تشريعات محلية مناسبة، إذ يشكو كثير من العاملين المستقلين من القيود المصرفية المشدّدة على التحويلات المالية بالعملة الأجنبية.
أما في المغرب، وفي ظلّ الضغوط الاقتصادية المتزايدة والفجوة القائمة بين مهارات الخريجين ومتطلبات المشغّلين، أصبح العمل الحر والمنصّات الرقمية يُنظر إليهما كأحد المخرجات الواعدة لمعالجة هذا الواقع المتأزم. وقد أشار تقرير مجلة “فوربس” الأمريكية إلى اتجاه مؤسسات مغربية للاستثمار في تدريب الشباب على المهارات الرقمية، خاصة البرمجة وتطوير الويب، باعتبارها مدخلًا مباشرًا إلى سوق العمل الحُر العالمي عبر المنصّات. وهو ما يدلّ على أن هذا التوجّه لم يعد خيارًا فرديًا، بل أصبح نهجًا تتبعه العديد من الدول التي تواجه أوضاعًا مشابهة، مثل الأردن وتركيا والعراق.
يفتقر معظم العاملين إلى دخل ثابت، ويعملون في ظروف مهنية هشّة تجعل الادخار شبه مستحيل، فضلًا عن كونهم خارج منظومات الحماية الاجتماعية والصحية
ويؤكد التقرير أن الاندماج في ما سمّته المجلة “ثورة العمل الحر” أصبح توجّهًا عالميًا، وليس استثناءً خاصًا بالمنطقة المغاربية، في وقت بدأت منصّات عربية ومحلية في الظهور إلى جانب المنصّات العالمية، ممّا يوسّع قاعدة الخيارات المتاحة للمستقلين ويشجّع الشركات على الاستفادة من المواهب الرقمية.
مشاكل وتحديات
صحيح أن العمل الحُر يمنح الشباب حرية أكبر، ويتيح دخلًا متنوعًا، ويكسر الحاجز الجغرافي، ويشجع على تطوير المهارات الرقمية المطلوبة في الاقتصاد الجديد، حتى إن دراسات تشير إلى أن حوالي 79% من العاملين بنظام العمل الحُر يشعرون برضا أكبر مقارنة بما كانوا عليه في الوظائف التقليدية.
إلا أنه، في المقابل، لا يخلو من سلبيات؛ فقد أصدر البنك الدولي تقريرًا بعنوان “عمل بلا حدود: وعود ومخاطر العمل الحُر المؤقت عبر الإنترنت”، قدّم فيه قراءة نقدية موسّعة لطبيعة هذا النوع من التشغيل، مشيرًا إلى أن العاملين عبر المنصّات الرقمية يواجهون جملة من التحديات البنيوية.
فوفق التقرير، يفتقر معظم العاملين إلى دخل ثابت، ويعملون في ظروف مهنية هشّة تجعل الادخار شبه مستحيل، فضلًا عن كونهم خارج منظومات الحماية الاجتماعية والصحية، وتزداد حدّة هذه الإشكالات في الدول ذات الدخل المنخفض، حيث يظل أكثر من 90% من اليد العاملة خارج أي نظام تأميني أو إطار قانوني ينظّم علاقاتهم المهنية.
وفي ضوء هذه المعطيات، دعا البنك الدولي الحكومات إلى الإسراع في توسيع شبكات الحماية الاجتماعية لتشمل هذه الفئة المتزايدة من العمال، وقد بدأت بالفعل عدة دول في تبنّي مبادرات للتعامل مع هذا الواقع الجديد، من خلال التعاون المباشر مع المنصّات الرقمية لضمان إدراج العاملين لديها في برامج الضمان الاجتماعي.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك التجربة الماليزية، حيث دخلت الحكومة في شراكة مع إحدى منصّات العمل الحُر لتقديم مساهمة بنسبة 5% ضمن برنامج التقاعد الوطني ومؤسسات الحماية الاجتماعية، وذلك تشجيعًا للعاملين على الانخراط في منظومة تأمينية تضمن لهم حدًّا أدنى من الأمان والاستقرار.
وعمومًا، لا يمثّل هذا التحول خيارًا فرديًا للشباب المغاربي فقط، بل يشير أيضًا إلى فرصة استراتيجية للدول المغاربية نفسها، فالاستثمار في البنية التحتية الرقمية، والتكوين المهني الحديث، وتنظيم العمل غير التقليدي يمكن أن يساعد على احتواء البطالة، وتقليل الهجرة، وتوفير موارد بشرية ديناميكية تساهم في النمو، إلى جانب ضمان مداخيل مهمة من العملة الصعبة. ومع ذلك، ينبغي أن يُرفَق هذا التوجّه بسياسات شاملة تضمن الحماية الاجتماعية وتوازن المصالح بين القطاعين العام والرقمي.
ومع توسّع البنية التحتية للتكوين الرقمي وتزايد دعم المبادرات الحكومية والخاصّة، يبدو أن مستقبل العمل الحُر في المنطقة المغاربية يتجه نحو مزيد من النمو، مما يجعله حلًا واعدًا ضمن استراتيجية أشمل لمعالجة اختلالات سوق العمل وإتاحة الفرص أمام جيل شاب يتطلع إلى أدوات جديدة للاندماج الاقتصادي.

