منذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس عام 2011، شكّل تدخل الميليشيات المدعومة من إيران نقطة تحوّل حاسمة، حين تدخلت لإنقاذ نظام الأسد، فبعد تراجع قوات النظام أمام توسّع فصائل الجيش الحرّ والمعارضة المسلحة منذ بداية عام 2013، فتحت طهران خطوط الإمداد والمقاتلين من العراق ولبنان وأفغانستان، عبر تشكيلات متعددة مثل “حزب الله” اللبناني و”فاطميون” و”زينبيون” و”الحشد الشعبي” العراقي، على أساس طائفي.
قدّمت هذه القوى دعماً حاسماً للنظام السوري في أكثر معاركه دموية في ريف دمشق وحلب ودير الزور، وفي معارك القصير وحلب وغيرها، وأسهمت بشكل مباشر في ارتكاب مجازر واسعة بحق المدنيين، خصوصًا في المناطق ذات الأغلبية السنية.
ولولا هذا التدخّل الواسع، الذي اقترن بتوجيهات ميدانية من ضباط “الحرس الثوري”، إذ أشرف قائد فيلق القدس قاسم سليماني بنفسه، إلى جانب نخبة من ضباط الحرس الثوري على العمليات العسكرية، لكان من المرجّح أن تنهار منظومة الأسد أمام ضغط الثورة التي سيطرت على ثلاثة أرباع الجغرافيا السورية حينها.
فسيفساء الميليشيات: حزب الله، فاطميون، زينبيون، والحشد
مع بدايات 2013، وبعد توسّع سيطرة الجيش الحرّ وفصائل المعارضة، انتقلت إيران من الدعم السياسي والاقتصادي إلى تدخّل عسكري مباشر؛ دفعت بضباط “الحرس الثوري” وفيلق القدس بقيادة قاسم سليماني، ثم شرعت بإنشاء وتفعيل تشكيلات مسلّحة عابرة للحدود من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان.
قاسم سليماني تحوّل عمليا إلى “القائد الفعلي” لغرف العمليات في المعارك الكبرى، من القصير والقلمون إلى حلب ودير الزور، مع تفويض واسع من القيادة الإيرانية لإدارة الملف السوري عسكريًّا واقتصاديًّا معًا.
اعتمدت استراتيجية إيران على تنويع مصادر القوة البشرية:
-
حزب الله اللبناني: رأس الحربة على الجبهات الحسّاسة (ريف دمشق، القصير، القلمون، ريف حلب الجنوبي، ريف درعا والقنيطرة)، باعتباره القوة الأكثر تدريبًا وانسجامًا مع العقيدة الإيرانية.
-
“لواء فاطميون” الأفغاني و”لواء زينبيون” الباكستاني: جرى تجنيد آلاف المقاتلين من اللاجئين الأفغان والباكستانيين في إيران، عبر مزيج من الحوافز المادية (رواتب، تسوية أوضاع الإقامة) والخطاب المذهبي (حماية المزارات الشيعية)، وغالبًا ما استُخدموا كقوات صدمة و”لحم مدافع” في المعارك الأكثر كلفة.
-
الميليشيات العراقية (النجباء، بدر، عصائب، فصائل من الحشد): تولّت تثبيت خطوط الإمداد البري من العراق إلى دير الزور والبوكمال، والمشاركة في معارك الشرق والبادية.
تشير تقديرات إلى أن عدد عناصر الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا بلغ عشرات الآلاف في ذروته، مع أكثر من 10 آلاف مقاتل من حزب الله وحده، إضافة إلى آلاف من العراقيين والأفغان والباكستانيين.
مع تراجع فاعلية جيش الأسد، أصبحت هذه التشكيلات جيشًا موازيًا يتحكّم عمليًا بقرارات القتال، وأصبح سليماني القائد الفعلي للقوات على الأرض، كما بنت شبكات اقتصادية مع عملاء محليين للتحكم بالاقتصاد المحلي في بعض المناطق.
بعد انتهاء معظم المعارك الداخلية، تحوّلت سوريا إلى ساحة صراع بين القوى الإقليمية، حيث بدأت “إسرائيل” حملة جوية موسّعة منذ عام 2017 استهدفت قواعد ومستودعات الحرس الثوري و”حزب الله” ومراكز تدريب الميليشيات الشيعية، خلال السنوات الأخيرة ردًا على التمدد الإيراني في سوريا.
وقد تصاعدت تلك الهجمات مع توسّع الحرب غير المعلنة بين طهران وتل أبيب، وأدّت إلى مقتل عدد من كبار القادة الميدانيين، بينهم ضباط إيرانيون بارزون، ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة أواخر 2023، دخلت المواجهة مرحلة أكثر سخونة شملت استهدافًا مركزًا لأذرع إيران في لبنان وسوريا والعراق.
الانسحابات تحت التهديد
تحت وطأة الضربات الإسرائيلية المتكرّرة، والتفاهم الأميركي الروسي غير المعلن حول ضرورة تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، بدأت هذه الميليشيات بإخلاء كثير من مواقعها الحسّاسة.
انسحبت مجموعات كاملة نحو الأراضي العراقية، فيما خفّض “حزب الله” قواته على طول الحدود الجنوبية بعد مقتل العشرات من عناصره في ضربات نوعية، ولم يتمّ التوصّل إلى أي اتفاق رسمي يضمن خروجها من سوريا مع أي طرف سوري، بل جاء الانسحاب في سياق ضغط عسكري وسياسي متزامن مع تصاعد الحديث عن ضرورة “قطع أذرع إيران” في الإقليم، ما جعل بقائها في سوريا عبئًا استراتيجيًا على النظام نفسه.
بدوره قال ضابط سوري سابق عمل في أحد المقرات الأمنية التابعة لـ “الحرس الثوري الإيراني” في دمشق، إنه تلقى اتصالًا من قيادته الإيرانية، في الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2024، أي قبل ثلاثة أيام من سقوط الحكم السابق، طلبت منه فيه التوجه إلى مقر العمليات في حي المزة فيلات شرقية في العاصمة، صباح الجمعة في السادس من كانون الأول 2024، بسبب “أمر هام”.
وأوضح الضابط أن القائد الإيراني المسؤول عن المجموعة، أبلغ الحاضرين من ضباط وجنود سوريين يخدمون تحت أمرة الإيرانيين، وعددهم نحو 20 شخصًا، فور وصولهم، بأنه “بعد اليوم لن يكون هناك حرس ثوري إيراني في سوريا:، مضيفًا “نحن مغادرون”. وطلب المسؤول الإيراني، وفق الضابط، من العناصر “إحراق وثائق حساسة وإتلافها أمامه، وسحب جميع الأقراص الصلبة من الحواسيب”، بعدها أُبلغوا بأن “كل شيء انتهى، ولن نكون مسؤولين عنكم بعد اليوم، وستصلكم هوياتكم المدنية بعد أيام”.
الصحفي السوري المختصّ بشأن شرق سوريا، فواز العطية، قال في حديث لـ”نون بوست”: “عند انطلاق معركة ردع العدوان بدأت الميليشيات الإيرانية استنفارًا عسكريًا واسعًا في العديد من المناطق، كما شرعت باستقطاب مقاتلين محليين برواتب تصل إلى 200 دولار شهريًا مع سلّة غذائية لكل عائلة”.
كما بدأت الميليشيات ترسل رسائل تطمين عبر تلغرام إلى عناصرها بأن ما يحصل هو “فخ لقوات ردع العدوان”، لكن الأمر اختلف عندما تمكّنت قيادة العمليات في ردع العدوان من تحرير مدينة حلب؛ كانت صدمة كبرى لتلك الميليشيات، التي شعرت بالخطر وبدأت فعليًا بسحب الأسلحة الثقيلة والنوعية من معسكراتها، مثل الطيران المسيّر وقطع غياره والأسلحة المختلفة، ونقلها إلى العراق وإلى دمشق تمهيدًا لإدخالها إلى لبنان.
ومع استمرار التقدم الذي أحرزته عملية ردع العدوان، وتحديدًا في 6/12/2024، بدأت تلك الميليشيات بالانسحاب من مواقعها ضمن مجموعات، وأبلغت العناصر المحليين بأنها تتجه إلى “ساحات القتال” وليس إلى خارج سوريا، وذلك خشية عمليات انتقامية ينفّذها العناصر السوريون. توجهت المجموعات المنسحبة ليلًا عبر معابر التهريب والمعابر النظامية في كل من البوكمال والقصير وغيرها من المناطق، حيث انسحب قسم منها نحو العراق وآخر نحو لبنان.
من جهته، ينفي الخبير الاقتصادي والباحث يونس الكريم لـ”نون بوست” وجود أي اتفاق مع الإيرانيين بخصوص انسحاب الميليشيات من سوريا، مشيرًا إلى أن التخوّف الأساسي كان من ضربة عسكرية إسرائيلية أميركية قاصمة لإيران وميليشياتها، ولم يكن متوقعًا أن تمتد المعارك في عملية ردع العدوان، التي بدأتها هيئة تحرير الشام ، إلى ما بعد حلب، إذ كان الاعتماد على روسيا وتركيا في التعامل مع التطورات. ويدلّ على ذلك عدم سحب كثير من الأسلحة الإيرانية في البداية، ومع تطور العمليات العسكرية والتوجّه نحو حماة، بدأ الإيرانيون بإخفاء أسلحتهم والطلب من تركيا الضغط لتحييد مواقعهم.
يضيف الكريم أن الإيرانيين، بعد تحرير حلب، أدركوا أن روسيا لن تتدخل، لكن إعادة ترتيب الأولويات في عملية ردع العدوان جعلت من الممكن إخفاء وسحب بعض الأسلحة لاحقًا، فحاولت الميليشيات الإيرانية و”حزب الل”ه الحفاظ على القصير، لكنها تلقت ضربة كبيرة من الطيران الإسرائيلي، كما جرى استهداف مواقع لميليشيا “الرضوان” في بادية حمص وتدمير رتل قادم من الداخل اللبناني، ما أدى إلى تحييد “حزب الله” عمليًا في سوريا، وبالتالي تسريع السيطرة وتقليص عمر المعركة عبر فصل الجبهات.
أمّا بما يخص العناصر المحلية، فقد بقيت في أماكنها بعد مغادرة الميليشيات، وظلوا في مناطقهم بعدما تخلّت عنهم القيادات، إذ قامت القيادة الإيرانية بإجلاء المستشارين والضباط الكبار فقط عبر قاعدة حميميم ومطار دمشق الدولي، دون ملاحقة العناصر المحليين حتى اللحظة، كما انسحب رجال الدين من المنطقة مع القادة العسكريين إلى العراق ومناطق أخرى، وتم نقل بعض الميليشيات إلى دول أخرى.
مخاطر محتملة
يضيف الكريم أنه، وبعد التقارب السوري الأمريكي، عملت إيران على إعادة تفعيل بعض عناصر ميليشياتها في مناطق مناوئة للحكومة السورية، خاصة في مناطق قسد والحدود اللبنانية السورية، لكن الخوف الأكبر كان من ترك الأسلحة الإيرانية بتسهيل واضح من القيادة الإيرانية بيد عناصر تنظيم الدولة، الذي بدأ ينشط مجددًا، خصوصًا في البادية السورية.
هناك تخوّف من بقاء العناصر التي كانت ضمن هذه الميليشيات في مناطقهم بعد تجميدهم، إذ قد يُعاد تفعيلهم في حال حدوث أي طارئ، ويعود ذلك إلى ولائهم لتلك الميليشيات من جهة، وإلى خشيتهم من المحاسبة القادمة من جهة ثانية، وقد ظهر بعض هؤلاء العناصر في أحداث السويداء إلى جانب بعض قادتهم السابقين.
بالعموم، نستطيع القول إن الميليشيات الإيرانية تم تفكيكها بشكل عاجل، ونُقلت قياداتها إلى العراق وإيران ولبنان، بينما نُقل جزء من الرتب الدنيا إلى مناطق قسد، في حين بقي كثير من عناصرها المحليين في أماكنهم بعد أن ألقوا السلاح.
ومع تغيّر الواقع الميداني والسياسي، أدركت القيادة الإيرانية أن الدور الذي أدّته الميليشيات التابعة لها في إنقاذ نظام الأسد قد وصل إلى نهايته، فبدأ التراجع السريع لهذه المجموعات واختفاؤها من خطوط المواجهة دون ضجيج، ما عكس تغيّرًا عميقًا في موازين القوى داخل سوريا، ولم تعد هذه التشكيلات قادرة على حماية النظام كما فعلت في سنوات الحرب الأولى، ولا على لعب دور سياسي في ترتيبات “إنقاذ الأسد”، ومع هذا الانكفاء، اتضحت حقيقة أن الوجود الإيراني، الذي بدا يومًا ركيزة بقاء النظام، بات أحد أسباب ضعفه وتفكك حلفائه وهروبه.