لم تتّسع خرائط الطفولة لجيل “زد” السوري؛ جيلٌ رأى الوطن في الأخبار أكثر مما عاشه في الطرقات، ولم يتسلّم من الكبار دفاتر ذكريات مكتملة، بل ورث منهم أسئلة معلّقة: ما معنى المواطنة بلا وطن؟ وكيف تنمو هوية حين تُنتزع جذورها قبل أن تُسقى؟
فتح هذا الجيل عينيه على أبواب النزوح لا أبواب المدارس، ما بين سوريا البعيدة التي لم يكتمل لقاؤه بها، وبلاد اللجوء التي صارت مسرح حياته اليومية، فيما كبر كثيرون منه فوق تراب المخيمات، فتكوّنت حكاية جيل يعيد تعريف الانتماء بطريقته؛ جيل يلتقط شظايا الفقد ويحاول أن يصنع منها مستقبلًا لا يشبه الحرب، بل يشبهه هو.
ذاكرة ناقصة عن الوطن الذي سُمِع عنه أكثر مما عِيش
خلال السنوات السابقة لم يكن الوطن عند كثير من أبناء جيل “زد” حدثاً معاشاً، بل قصة تُروى، فالوطن بالنسبة لبعضهم ظلال صور أكثر من جغرافيا ملموسة، مدارس تركوها قبل أن يحفظوا رائحة مقاعدها، وشوارع لم تحفظ خطواتهم.
مواليد هذا الجيل الذين رأت عيونهم النور بين عامي (1996-2012) وهي السنوات التي يُصنف بها عالميا، تتراوح اليوم أعمارهم بين 13 و28 عاماً، وتعيش النسبة الأكبر منهم في دول الجوار، وبعضهم كبر في المخيمات وقسم منهم في أوروبا، حيث دفعتهم مآسي الحرب للهرب نحو حياة آمنة، وسط حالة عدم يقين ليس بحاضرهم فحسب، بل وبمستقبلهم الذي يلفه الغموض، لكل واحد منهم حكاية مختلفة، تبدأ من خيمة أو مدينة بعيدة، وتنتهي عند حلم يراودهم بالعودة أو بإعادة تعريف الوطن من جديد.
“لا أملك في ذاكرتي صورة واضحة عن سوريا”، يقول عمر الجندي (24 عاماً) من ريف حلب، مقيم في ألمانيا، ويضيف: “كل ما أعرفه عن سوريا موجود فقط في صور الطفولة التي التقطها لي أهلي، وفي حكاياتهم عن الذكريات التي عاشوها”.
ويتابع: “كبرت هنا، أصدقائي هنا، دراستي، حياتي، ذكرياتي كلّها هنا، ومع ذلك هناك شيء غريب يسكن بداخلي تجاه تلك البلاد التي لم أعشها يوماً، شعور لا تفسير له، كأن جذوراً خفيّة تربطني بها رغم المسافة”.
قصة عمر ليست استثناء، بل انعكاس واضح لشريحة واسعة من جيلٍ وُلد في وطنٍ لم يعش فيه، وحُرم من تفاصيله اليومية التي تصنع الانتماء، ورغم ذلك، ظلّت سوريا بالنسبة لهم فكرة حية لا تموت، أعيد تشكيلها بعد سقوط النظام البائد.

أما بالنسبة لحسام جمعة السلطان، وهو شاب من مواليد 2003 من قرية التح جنوبي إدلب، نزح إلى “التح” شمالي إدلب، يقول لـ”نون بوست”: “أكثر ما أتذكره من سنوات الحرب هو قسوة الحياة في المخيم، انقطاع الكهرباء والمياه، غياب أبسط الخدمات، ضيق المكان، كل شيء قبل التحرير كان خانقاً. كنا نبكي شوقاً للضيعة والدار والأرض، ونقول إن الرجوع صار مستحيلاً”.
ويضيف أنه لم يتمكن من الالتحاق بالمدرسة في طفولته بسبب سوء الوضع المادي واضطراره للعمل لمساعدة عائلته، قبل أن يتمكن لاحقاً من متابعة تعليمه بمجهوده الشخصي، فيقول: “بعد فترة درست لوحدي، وقدّمت الثانوية العامة ونجحت فيها، ثم التحقت بمعهد لغة عربية وأنا لا أزال في المخيم، وتخرجت”.
بينما تروي نور جعفر من تفتناز بريف إدلب، من مواليد 2004، تجربتها بالقول: “عندما بدأت الثورة كان عمري سبع سنوات. كل ما أتذكره يومها أن رتلاً من الدبابات دخل إلى قريتنا واتخذ موقعاً قريباً من منزل جدي.”
بعد فترة قصيرة، غادرت نور مع عائلتها سوريا إلى تركيا، ولم تحمل معها سوى شذرات من الذكريات، معظمها مرتبط بدخول الجيش، أصوات القصف، والنزوح المتكرر، فيما بقيت تفاصيل الوطن بالنسبة لها مجرد صور مشتتة في الذاكرة.
انعكاسات النزوح والصراع على جيل “زد”
يشكّل سقوط النظام في الثامن من ديسمبر 2024 وتحرير سوريا، منعطفاً حساساً في وعي الجيل الجديد، فبالنسبة لكثيرين منهم، العودة ليست مجرد رحلة باتجاه الوطن، بل محاولة لاستعادة وطن لم يعيشوه أصلاً، لكن العودة ليست حدثاً واحداً، إنها اختبار نفسي واجتماعي معقّد، منهم من يراها بداية حياة جديدة وفرصة لبناء مستقبل طال انتظاره، ومنهم من يخشى أن تتحوّل إلى رجوع نحو الندوب القديمة بشكل آخر.
يقول الباحث في علم الاجتماع، طلال مصطفى، لـ “نون بوست”، إن الحرب السورية خلّفت آثاراً عميقة ومتعدّدة المستويات على الأطفال والمراهقين، بحيث أصبح جيل “زد” السوري أحد أكثر الأجيال تعرّضاً لصدمة جماعية ممتدة. ويمكن تلخيص هذه التأثيرات في المحاور الآتية:
1- صدمة مركّبة ممتدّة: إذ تعرّض الأطفال لمشاهد العنف وفقدان الأقارب والاعتقال أو الخطف والنزوح المتكرر، ما أدى إلى صدمات تراكمية تُضعف الذاكرة والقدرة على تنظيم الانفعالات والانتباه، وهذه الصدمات تُنتج أنماطاً سلوكية تتراوح بين القلق المزمن والتجنب الاجتماعي أو السلوك العدواني.
2- تعطّل النمو المعرفي والتعليمي: انقطاع التعليم، وهشاشة المدارس، وهجرة المعلمين أدت إلى فجوات معرفية واسعة وتراجع في المهارات الأساسية، بما فيها القراءة والكتابة والتفكير النقدي. كما برزت فجوة رقمية واضحة بين من تمكن من الوصول إلى التعليم عبر الإنترنت ومن لم يتمكن.
3- انكسار الثقة بالمؤسسات والمجتمع: شهد الأطفال انهيار شبكات الحماية التقليدية مثل المدرسة والمستشفى والشرطة والسلطات المحلية، وهذه الخبرة المبكرة تُفقد الجيل الثقة بالدولة وبالمستقبل، ما ينعكس على مشاركته المدنية لاحقاً.
4- تشكّل مبكر لهوية قائمة على الفقد والانقسام: في سياق العنف والانقسامات الطائفية والمناطقية، يتشكل وعي الهوية لدى المراهقين على أسس دفاعية، قد تتخذ شكل انغلاق هوياتي أو تشدد في المواقف السياسية والدينية.
5- تطبيع العنف: التعرّض اليومي للعنف جعل العنف جزءا من الحياة اليومية، ما يظهر في حلّ النزاعات بين الأطفال بطريقة عدوانية، واستخدام لغة عنيفة، وتقبّل العنف كوسيلة اجتماعية.
6- الاضطرابات النفسية طويلة الأمد: هناك ارتفاع واضح في الاكتئاب واضطراب القلق واضطراب ما بعد الصدمة، إضافة إلى مخاطر أعلى لتعاطي المخدرات والانتحار لدى الفئات الأكثر تضرراً.
ويضيف: “هناك انعكاسات طويلة الأمد على جيل “Z” منها، إضعاف رأس المال البشري مثل مهارات أقل، تعليم هش، وضعف جاهزية لسوق العمل، وتراجع الثقة بالمؤسسات، التي لم تؤمّن لهم مستقبلاً واضحاً، وذكريات جماعية منقسمة، ما يعقّد بناء هوية وطنية جامعة”.
كيف يرى جيل “زد” سوريا بعد التحرير؟
لسنوات طويلة، عاش الكثير من أبناء جيل “زد” بعيداً عن سوريا، بين المخيمات والمهجر، ومع بوادر العودة اليوم، يقف هذا الجيل أمام لحظة فارقة: كيف يمكنهم إعادة الانتماء إلى وطن لم يعرفوه، وتحويل التحديات إلى فرصة لإعادة الحياة والبناء؟
يتحدث حسام لـ”نون بوست” عن اللحظات الأولى التي تابع فيها أخبار التحرير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويصف شعوره عند سماع خبر تحرير قريته بأنه كان كالحلم: “هل هذا حقيقي؟”. بالنسبة له، لم يكن التحرير مجرد حدث عابر، بل محطة أعادت ترتيب حياته ومنحته الأمل بمستقبل جديد.
يحمل حسام اليوم رؤية واضحة لما بعد سقوط النظام، ويقول لـ”نون بوست”، “أتمنى أن أكون عضواً فاعلاً في سوريا الجديدة، أن يكون لي أثر طيب فيها. أحلم ببلد مزدهر بشعبه، وأخطط أن أعلّم الطلاب الوقوف ضد الظلم والاضطهاد، وأن نبقى يداً بيد لنصل إلى ما نطمح إليه”.
أما نور جعفر ، طالبة إرشاد وتوجيه نفسي، تقول لـ”نون بوست” إن بعد التحرير، أهم ما لاحظته عند زيارتها إلى سوريا هو عودة الأمن والاستقرار، رغم أن بعض المنازل لا تزال مدمرة وبعض الأشخاص ما زالوا نازحين. وتتابع: “بالنسبة لي، يبقى الأمل في إصلاح ما تبقى مع الوقت، خصوصاً في مجال إعادة الإعمار وعودة المغتربين”.
تطمح نور أن تتخرج من الجامعة، وتحصل على شهادتها لتعود إلى سوريا وتعيش مع عائلتها وأقاربها الذين غابت عنهم 13 سنة، وتحلم ببداية جديدة في وطنها، ومساعدة من تضرر بالحرب بعد تخرجها، لتخفيف معاناتهم ومنحهم فرصة لحياة كريمة، رغم صعوبة الطريق، إلا أنها مصممة على المساهمة ولو بأبسط الأشياء في إعادة بناء بلدها.
أما عمر، فيتخيل عند التفكير بالعودة إلى سوريا شعوراً ممزوجاً بالقلق والأمل، فهو يخشى صعوبة الاندماج وتكوين صداقات جديدة، فيقول: “هناك قلق من العودة طبعاً، فالبنية التحتية في سوريا ما تزال مدمرة وفرص العمل شبه معدومة”، كما يخشى أن تعيق الصراعات المجتمعية والانقسامات القديمة عودة الاستقرار للمنطقة. ويضيف أن غياب الروابط الاجتماعية التقليدية خلال سنوات الغربة جعل الشعور بالانتماء للوطن أكثر هشاشة، فيضيف: “التكيف مع واقع جديد بعد سنوات من الغربة، وإعادة تأسيس حياة طبيعية في بيئة ومجتمع مختلفين عمّا اعتدت عليه، يمثل تحدياً نفسياً إضافياً”.
لكن رغبة عمر بالعودة إلى سوريا والمساهمة بإعادة الإعمار لم تتأثر بالتحديات التي يمكن أن تواجهه، مؤمناً بأن جهوده مهما كانت بسيطة ستترك أثراً إيجابياً.
يرى الباحث في علم الاجتماع، طلال مصطفى، أن العودة إلى سوريا تمثل حدثاً عاطفياً مركباً لدى جيل الشباب منها، وتتمثل بالنقاط التالية:
1- العودة كمصدر للأمل: استعادة الروابط العائلية والمكان، واحتمال إعادة امتلاك البيت والأرض، إمكان الانخراط في الإعمار المجتمعي، والشعور بالقدرة على البدء من جديد.
2- العودة كمحفز لصدمات جديدة: بقاء البيئة غير آمنة أو غير مستقرة، بالإضافة مشاهدة الدمار أو فقدان المنزل على نحو صادم، وصراعات محلية على الموارد أو النفوذ، والتمييز الاجتماعي ضد العائدين أو المختلفين.
3- فجوة التوقعات – الواقع: توقعات “العودة إلى الحياة الطبيعية” قد تتحطم أمام واقع الفقر، البطالة، غياب الخدمات.
4- تأثير الهوية: العودة قد تُعيد بناء هوية وطنية جامعة، أو تعمّق الانقسام، تبعاً لطبيعة البيئة الحاضنة.
ويتابع المصطفى، “العودة أمل مشروط، يعتمد نجاحه على توفر الأمن والخدمات والعدالة”.
ورغم ما مرّ به جيل “زد” السوري، يمتلك هذا الجيل أدوات فريدة لإعادة بناء المجتمع، أهمها المعرفة الرقمية والقدرة على المبادرة، فقد اكتسب العديد من الشباب مهارات متنوعة ما يمنحهم فرصة خلق مبادرات ومشاريع صغيرة تساهم في دعم المجتمعات داخل المخيمات وفي الداخل السوري.
كما شكّل الشتات السوري رصيداً ثميناً لهذا الجيل، إذ يمكن للشباب في الخارج أن يوفّروا الخبرة والتدريب والتمويل، ما يعزز شبكات التعاون المدني ويحوّلها إلى مؤسسات محلية مستدامة. وتجارب الغربة، رغم صعوبتها، أنتجت جيلاً واعياً، متصلاً بالعالم، ومسلحاً بالمعرفة الرقمية والروح المدنية، ما يمنحه القدرة على المشاركة الفعلية في إعادة بناء وطنه.
ومع بوادر العودة، يقف هذا الجيل أمام تحدٍ مزدوج: إعادة الانتماء للوطن والمساهمة في صياغة مستقبل مستقر. ورغم الصعوبات، تظل إرادة الشباب وعزيمتهم مصدر أمل، فجيل “زد” السوري ليس مجرد ضحية الحرب، بل نواة مجتمع قادر على تحويل الألم إلى فرصة والفقد إلى مشروع بناء حقيقي.

