تشهد معركة السيطرة على إمبراطورية الإعلام والترفيه “وورنر براذرز ديسكفري” (WBD) تصعيدًا غير مسبوق، بعد أن فاجأت “باراماونت سكاي دانس” الأسواق بعرض استحواذ نقدي بالكامل تبلغ قيمته 108 مليارات دولار، متجاوزةً بذلك عرض نتفليكس الأخير البالغ 72 مليار دولار، ما حولها إلى مواجهة استثنائية كبرى بين عمالقة البث والمحتوى، يدور رحاها على مستقبل صناعة تُعد اليوم بمنزلة “القوة الناعمة” الأكثر تأثيرًا في العالم.
لكن ما جعل الصفقة تتصدر الأجندة السياسية والاقتصادية ليس فقط حجمها التاريخي، بل الرافعة التمويلية الخليجية التي تقف خلفها؛ إذ ضخت صناديق الثروة السيادية في السعودية وقطر وأبوظبي ما يصل إلى 24 مليار دولار لدعم هذه المغامرة الاستثمارية الضخمة.
يزيد الصفقة إثارة وجدلاً دخول جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يُنظر إليه كـ”عراب التطبيع” وحلقة الربط بين العواصم الخليجية وتل أبيب، مستفيدًا من علاقاته الوثيقة مع قادة المنطقة لتعزيز دوره في هذه المغامرة الإعلامية الكبرى.
هذا الانخراط الخليجي في صفقات إعلامية ذات امتدادات عالمية — وتقاطعات مع أطراف ترتبط بعلاقات وثيقة بـ”إسرائيل” — وفي زمن تتحول فيه الشركات المستحوِذة على المحتوى إلى صانعة للوعي وموجّهة للرأي العام، تبدو الخطوة مقامرة استراتيجية، ما أثار سيلاً من الأسئلة: هل يسهم ذلك في تعزيز النفوذ العربي داخل النظام الإعلامي العالمي؟ أم أنه يفتح بابًا لخدمة السرديات الإسرائيلية على حساب القضية الفلسطينية في لحظة صراع سردي محتدم؟
تفاصيل العرض المقدم
في الرابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري، فجّرت “باراماونت سكاي دانس” مفاجأتها الكبرى بتقديم عرض لشراء كامل الأسهم المتداولة لشركة “وورنر براذرز ديسكفري” (WBD) مقابل 30 دولاراً للسهم، في صفقة تستهدف الاستحواذ على الإمبراطورية الإعلامية بأسرها، من استوديوهات السينما ومنصات البث الحديثة، وصولاً إلى شبكة القنوات التلفزيونية التقليدية التي تضم عمالقة مثل CNN وTBS وTNT.
وبلهجة لا تخلو من التحدي، أكد الرئيس التنفيذي ديفيد إيليسون أنّ عرض شركته “يتفوق على عرض نتفليكس في كل جانب”، فالأخيرة — كما تقول باراماونت — لم تتجاوز في عرضها 27.75 دولاراً للسهم بمزيج مضطرب من الأسهم والسيولة، مما يجعل قيمته الإجمالية لا تتعدى 82.7 مليار دولار مع استثناء قطاع التلفزيون، وبالتالي أكثر هشاشة وتعقيداً.
وتستند “باراماونت” في مناورتها الجريئة هذه إلى دعم مالي ضخم من صناديق الثروة الخليجية، إلى جانب صندوق “Affinity Partners” الذي يديره جاريد كوشنر — ما يجعلها إحدى أضخم صفقات الاندماج الإعلامي في العصر الحديث، وخطوة تهدف بوضوح إلى إعادة رسم موازين القوة في حروب البث والسيطرة على المحتوى العالمي.
اللافت أن هذا التمويل يأتي دون حقوق تصويت أو مقاعد إدارية داخل الإمبراطورية الإعلامية، ما يثير تساؤلات حول حقيقة الأهداف التي تسعى دول الخليج لتحقيقها من هذه المغامرة العملاقة.
اقتصادياً، تتحرك دول الخليج ضمن استراتيجية واضحة لتنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط، والتموضع في قطاعات النمو المستقبلية مثل محتوى الترفيه والبث الرقمي، فملكية جزء من هوليوود الجديدة — حتى دون سلطة مباشرة — تعني المشاركة في صناعة عالمية تحقق عوائد ضخمة وتملك تأثيراً واسعاً على الاقتصاد الثقافي العالمي.
أما سياسياً، فإن الاستثمار في الإعلام والرياضة والترفيه يمثّل قوة ناعمة تسهم في تشكيل السرديات عن المنطقة وتحسين الصورة الذهنية للدول الخليجية، كما يعمل كقناة دبلوماسية استثمارية تعزز النفوذ والمصالح مع واشنطن والعواصم الغربية، ضمن معادلة دقيقة تتمثل بنفوذ لا يثير حساسية الأمن القومي الأميركي، لكنه يكفي لإعادة رسم حضور الخليج في خريطة صناعة الرأي العام العالمي.
الارتباط بـ”إسرائيل”
يرتبط نفوذ عائلة إليسون بشكل مباشر بالكيان الإسرائيلي، فالرئيس التنفيذي لـ”باراماونت سكاي دانس” ديفيد إيليسون هو نجل مؤسس “أوراكل” وأحد أغنى رجال العالم، لاري إليسون وكلاهما ينحدران من عائلة يهودية، حيث بدأ لاري حياته بتجارب دراسية مضطربة قبل أن يشق طريقه إلى كاليفورنيا، أصبح اليوم إمبراطورًا تقنيًا بثروة هائلة ونفوذ ممتد يتجاوز حدود التكنولوجيا إلى الإعلام والسياسة.
هذا النفوذ ترجمه إليسون عبر بوابة استثماراته وشبكة علاقاته. فقد كان مساهمًا بارزًا في “تسلا” وداعمًا لصفقة الاستحواذ على إكس، كما حافظ على علاقة وثيقة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي كافأ “أوراكل” بأدوار حساسة في ملفات تكنولوجية كبيانات مستخدمي “تيك توك”.

يُروّج لاري إليسون دعمه لـ”إسرائيل” باعتباره احتفاءً بـ”روحها الابتكارية”، لكن دعمه يتجاوز الشعارات إلى أرقام ضخمة؛ ففي عام 2017 ضخّ نحو 16.6 مليون دولار لصالح منظمة “أصدقاء الجيش الإسرائيلي” في لوس أنجلوس، في أكبر تبرع فردي بتاريخها.
وتتوسع علاقة إليسون بالاحتلال عبر تمويل مشروعات استيطانية مثيرة للجدل في الأراضي الفلسطينية، إلى جانب صلاته الشخصية المتينة ببنيامين نتنياهو، والتي وصلت إلى حد عرض منصب عليه داخل “أوراكل”، واستضافته لقضاء العطلات في جزيرته الخاصة بهاواي.
هذه الأنشطة وضعت عائلة إليسون، الأب والابن، في قلب انتقادات واسعة من فلسطينيين وناشطين إسرائيليين، وبلغ الأمر حدّ رفع دعوى قضائية ضده وضد آخرين بقيمة مليار دولار، تتهمهم بدعم تهجير الفلسطينيين والمشاركة في جرائم حرب.
كوشنر وخدمة السردية الصهيونية
لا تقتصر المخاوف بشأن توظيف إمبراطورية إليسون الإعلامية لخدمة السردية الإسرائيلية على خلفيته اليهودية وتحالفاته مع رموز الصهيونية، بل تتعاظم مع دخول شركة الاستثمار “Affinity Partners” ضمن شبكة التمويل، المملوكة لجاريد كوشنر، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع المسؤولين الإسرائيليين ومشاريعه في المنطقة.
منذ ولاية ترامب الأولى (2017–2020)، حافظ كوشنر على شبكة علاقات متينة مع حكام الخليج، لم تتوقف بعد مغادرة البيت الأبيض، وشملت هذه العلاقات أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية متعددة.
ويرى البعض أن كوشنر كان بمثابة حلقة الوصل الأساسية بين حكام الخليج والإدارة الأمريكية، أحياناً مباشرة وأحياناً عبر البوابة الإسرائيلية، ما جعله يُعتبر فرس الرهان الأبرز لتوسيع رقعة التطبيع العربي الإسرائيلي
ورغم غياب الأدلة المباشرة والواضحة على دعم تلك الإمبراطورية لتل أبيب بشكل علني رسمي، فإن ارتباطات بعض المستثمرين الخليجيين بمشاريع إسرائيلية، خصوصًا في التكنولوجيا والقطاع المالي، من جانب، ووجود كوشنر من جانب أخر، تغذي الشبهات، وتثير الشكوك في علاقات متشابكة تخدم الأجندة الصهيونية.
ويرى مراقبون أن إليسون لا يبني مجرد منظومة أعمال، بل شبكة نفوذ تتحكم في تدفق المعلومات، خصوصًا إذا اكتملت صفقة “تيك توك” واستحواذاته المتسارعة في الإعلام، عندها قد يصبح في صدارة المعركة على عقول ملايين الشباب الأميركيين عبر المنصات الرقمية التي تؤثر في تشكيل الوعي والرأي العام عالميًا.
وفي خضم معركة الوعي الدائرة حاليًا بين السرديتين، العربية والإسرائيلية، تبقى التساؤلات مفتوحة، فيما العالم يترقب الفائز في حرب المليارات على “هوليوود الجديدة”، حيث لم تعد المعركة تجارية فقط، بل معركة على من يُعيد صياغة رواية العالم.