ترجمة وتحرير: نون بوست
لطالما ارتبط رأس المال بفن الحكم، ولكن منذ بزوغ فجر الرأسمالية الحديثة، ارتفع إجمالي ثروة العالم ومتوسط رفاهية الإنسان بشكل ملحوظ، وكذلك ارتفعت قدرة الدول على الوصول إلى رأس المال واستعدادها لاستخدامه لتحقيق أهداف سياسية – وهو اتجاه يزداد قوة بشكل خاص خلال فترات النمو الاقتصادي السريع والتغير التكنولوجي والتنافس بين القوى الكبرى.
ويتعامل صانعو السياسات اليوم مع الجغرافيا الاقتصادية باعتبارها قضية أمن قومي؛ حيث يضعون الاستثمارات في خدمة إستراتيجياتهم الجيوسياسية عبر صناديق الثروة السيادية، والشركات الوطنية الرائدة، والشراكات بين القطاعين العام والخاص.
ويمكن وصف ذلك بظهور “رأس المال الإنتاجي”: استخدام الأموال الموجهة من الدولة لتحقيق هدف مزدوج يتمثل في تحقيق عوائد مالية وإبراز قوة الدولة. وهذا النوع من رأس المال صبور وطويل الأمد، ويتوافق مع الأجندات الداخلية والدولية لقادة بعينهم؛ فقد أصبحت طريقة استثمار الدول هي طريقة تنافسها بشكل أكبر. وفي هذا النموذج الجديد، لم تعد الحكومات مجرد جهات تنظيمية للأسواق؛ بل أصبحت من بين أهم مالكي الأصول وموزعي رأس المال في الاقتصاد العالمي.
وليس هناك مكان يظهر ذلك فيه بشكل أوضح من الشرق الأوسط؛ ففي حين أعاق وجود الجماعات المتطرفة أو نقص الموارد تطور بعض دول المنطقة، فإن الملكيات العربية الغنية في الخليج تسير على طريق واضح نحو الازدهار؛ حيث إن هذه الدول مستقرة، وغنية بالموارد، وقادرة على متابعة أجندات اقتصادية منفصلة إلى حد كبير عن صراعات المنطقة، ويُعد صعودها واحدًا من أهم الاتجاهات في الجغرافيا السياسية والمالية العالمية.
ويعد ظهور صناديق الثروة السيادية الحديثة هو جوهر هذه الثورة؛ فقد أنشأت الكويت أول صندوق ثروة سيادي في العالم عام 1953. وانتشر النموذج الكويتي حول العالم، ومنذ ذلك الحين قادت الصناديق السيادية في الشرق الأوسط تدفقات رأس المال العالمية؛ فقد استحوذ المستثمرون السياديون في الشرق الأوسط على ما يصل إلى 40 بالمائة من قيمة الصفقات بين الدول والمستثمرين على مستوى العالم خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025، بإجمالي صفقات بلغ 56.3 مليار دولار، وفقُا لمؤسسة صناديق الثروة السيادية العالمية.وتدير صناديق الثروة السيادية في الشرق الأوسط أكثر من 5.6 تريليونات دولار من الأصول، ما يجعل هذه التجمعات من رأس المال مجتمعة ثالث أكبر اقتصاد في العالم، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 8.8 تريليونات دولار بحلول عام 2030.
وهناك ما يقرب من 170 صندوق ثروة سيادي حول العالم – من الصين إلى النرويج وسنغافورة – وتمتلك تلك الصناديق أكثر من 14 تريليون دولار من الأصول. وتتغير مهام هذه الصناديق مع تغير حجمها؛ فقد اتبعت هذه الصناديق في معظم تاريخها إستراتيجيات استثمارية سلبية، متماشية إلى حد كبير مع الاتجاهات الاقتصادية الكلية. أما اليوم، فقد تحولت أعداد متزايدة من هذه الصناديق إلى موزعين نشطين لرأس المال ومحركات خلف تفويضات تكنولوجية وجيواقتصادية واسعة تمثل بعضًا من أكثر الرهانات طموحًا ومجازفة في العالم. ويحدث التحول الأكثر جرأة بين ملكيات الخليج في الشرق الأوسط؛ حيث غالبًا ما تكون مجموعة صغيرة من القادة السياسيين ودوائرهم المقربة، وليس فقط مديري الاستثمار، هم من يقررون أين ومتى ولماذا تُنفذ الاستثمارات.
إن حجم ونطاق رأس المال الإنتاجي يخلقان مجالات جديدة للمنافسة والتعاون؛ فهو يعيد توجيه قدرات الدولة نحو التنويع الاقتصادي، والتفوق التكنولوجي، والنفوذ الجيوسياسي، وإذا استمر هذا النموذج، فإنه قد لا يعيد تشكيل الشرق الأوسط فحسب، بل أيضًا هيكلية التمويل العالمي وممارسة الحكم.

وظهر أحد أقدم أشكال رأس المال الإنتاجي في الجمهورية الهولندية في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ حيث أنشأت المقاطعات المتمردة خلال ثورتها ضد إسبانيا الهابسبورغية، المعروفة باسم حرب الثمانين عامًا، مؤسسة جديدة: شركة الهند الشرقية الهولندية.
وقد مُولت الشركة من قبل مستثمرين من القطاع الخاص الذين حصلوا على أسهم في واحدة من أولى الشركات المتداولة علنًا في العالم؛ لكن الحكومة الهولندية دعمت أيضًا شركة الهند الشرقية الهولندية، إدراكًا منها لحاجتها إلى الإيرادات لتمويل حرب الاستقلال. وكان جوهر هذه العملية هو الاحتكار، بموافقة من الحكومة، وهي واحدة من أسرع الأسواق نموًا في العالم.
وهذا السَّبق يتردد صداه اليوم؛ حيث تستخدم الحكومات في جميع أنحاء العالم الأموال الموجهة من الدولة ونفوذها، غالبًا من خلال مؤسسات مملوكة للدولة أو استثمارات إستراتيجية في شركات خاصة، لتحقيق أهداف اقتصادية وجيوسياسية وطنية، خصوصًا في القطاعات الحيوية مثل التكنولوجيا والبنية التحتية.
وكانت “خطة مارشال” مثالًا لاحقًا على رأس المال الإنتاجي على نطاق واسع؛ والتي اقتُرحت خلال إدارة الرئيس الأميركي هاري ترومان عام 1947، وخصصت 13.3 مليار دولار – أي ما يعادل نحو 150 مليار دولار بقيمة اليوم – لإعادة بناء اقتصادات أوروبا الغربية المدمرة بعد الحرب. كان المال بمثابة مساعدات خارجية، لكنه أيضًا خدم مصالح الولايات المتحدة؛ ففي لحظة كانت فيها الولايات المتحدة القوة الصناعية الوحيدة التي لم تدمر صناعاتها بفعل الحرب، كان من شأن تعافي أوروبا أن يوفر أسواقًا للصادرات الأميركية، ويعزز مكانة الدولار العالمية، ويقلل من جاذبية الشيوعية في الأيام الأولى من الحرب الباردة.
واستخدمت خطة مارشال رأس المال الموجه لتشكيل ميزان القوى بعد الحرب. وبالمثل، فإن المنافسة بين القوى الكبرى اليوم تعتمد على الدول التي يمكنها نشر رأس المال على نطاق واسع لترسيخ التحالفات، وبناء القدرة الصناعية، ووضع قواعد النظام الناشئ.
وأصبح هذا المنطق أكثر وضوحًا مع استمرار الحرب الباردة؛ فقد كانت حقبة من التكامل الاقتصادي المحدود جغرافيًا ولكنها شهدت منافسة عالمية شديدة. ومع نهاية حرب فيتنام، أصبحت الولايات المتحدة حذرة من التورط العسكري عبر المحيط الهادئ، وبسبب القلق من احتمال التخلي عنها وسعيًا لتعزيز ارتباطها المتداعي بواشنطن، استثمرت تايوان – التي كان اقتصادها حينها زراعيًا في الغالب – في التكنولوجيا.
وكانت الإستراتيجية واضح؛ كما كتب المؤلف كريس ميلر في كتابه “حرب الرقائق”: “كلما زاد عدد مصانع أشباه الموصلات على الجزيرة، وكلما زادت الروابط الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وأصبحت تايوان أكثر أمانًا”.
ومع انتقال الحرب الباردة إلى مرحلة الانفراج، وتوقف الولايات المتحدة عن تقديم المساعدات الاقتصادية لتايوان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، اتجهت الجزيرة إلى التجارة بدلًا من المساعدات. ففي عام 1968، وافقت شركة “تكساس إنسترومنتس” على إنشاء أول مصنع لها في تايوان. وبعد خمس سنوات، أسست الحكومة التايوانية “معهد أبحاث التكنولوجيا الصناعية” بقيادة موريس تشانغ. وبتمويل قدره 100 مليون دولار من “صندوق التنمية الوطنية”، أطلق تشانغ لاحقًا شركة “تايوان لصناعة أشباه الموصلات”.
لقد شكّل دمج رأس المال الحكومي مع الابتكار التكنولوجي، ودعم الباحثين الجامعيين والمستثمرين ورواد الأعمال في القطاع الخاص، الأساس للنظام التكنولوجي الأميركي في حقبة الحرب الباردة التي شهدت منافسة بين القوى الكبرى. فقد دعمت واشنطن في أواخر الستينيات تطوير تقنيات مثل شبكة “أربانيت”، أول شبكة حاسوبية متقدمة، والنظام البيئي المبتكر حول وادي السيليكون، الذي سيحدد ملامح المشهد التكنولوجي العالمي اليوم بمساعدة شركات مثل شركة “تايوان لصناعة أشباه الموصلات”.
أما اليوم، فإن أكبر اقتصادين في العالم، الولايات المتحدة والصين، يمتلكان أكبر قدرة على تشكيل التدفقات العالمية للسلع ورأس المال، سواء عبر الاستثمارات أو الأدوات الاقتصادية مثل ضوابط التصدير والرسوم الجمركية. وكلاهما، بطرق مختلفة ولكنها متقاربة، يستخدمان فن الحكم الاقتصادي ليس فقط لتحقيق النمو، بل أيضًا لاكتساب نفوذ إستراتيجي في المجالات التي تكون فيها الأدوات العسكرية أو الدبلوماسية غير كافية أو مكلفة للغاية.
وأبرمت واشنطن في الأشهر الأخيرة صفقات في مجال المعادن الحيوية وأشباه الموصلات، بينما وسّعت اتفاقيات الاستثمار مع دول من اليابان إلى الخليج. في المقابل، كثّفت بكين سياستها الصناعية لضمان ريادتها في القطاعات الاستراتيجية والسعي نحو الاكتفاء الذاتي. وبفضل نموذجها القائم على الحوكمة المركزية وحكم الحزب، دمجت الصين بين الدعم الحكومي والسياسات الصناعية والشركات المملوكة للدولة لتنتقل من كونها مصنع العالم إلى منافس تكنولوجي صاعد على الساحة العالمية.
وبينما تحشد بكين رأس المال الموجّه من الدولة للهيمنة على القطاعات الإستراتيجية، تعتمد واشنطن بشكل أساسي على أسواق رأس المال العميقة وديناميكية ريادة الأعمال، مدعومة بالاستثمار العام. وقد تزامن ذلك مع نقاش مستمر دام عقدًا من الزمن حول السياسة الصناعية؛ حيث أخذت الدولة على عاتقها تمويل مشاريع عامة واسعة النطاق بشكل متزايد، وتقليل المخاطر عن الاستثمار الخاص، ومعالجة أوجه القصور في السوق في مجالات مثل البحث والتطوير، وإن لم يكن ذلك غالبًا بنفس الحجم أو النهج المركزي الذي تتبعه بكين.
ويأخذ هذا الزخم الصناعي أشكالًا مختلفة، لكنه مستمر عبر الإدارات المتعاقبة. ففي عهد إدارة بايدن، خصص قانون الرقائق والعلوم (CHIPS and Science Act) مبلغ 39 مليار دولار لإنتاج أشباه الموصلات محليًا، بينما سعى قانون خفض التضخم (Inflation Reduction Act) إلى تنشيط ما قيمته أكثر من 3 تريليونات دولار في قطاع الطاقة النظيفة. كما أعادت مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأميركية، التي أُنشئت عام 2019 خلال الإدارة الأولى للرئيس دونالد ترامب لمنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية، صياغة تمويل التنمية الأميركية لتعزيز الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية، وهو شكل من أشكال رأس المال الحكومي. وكانت صفقات الاستثمار سمة بارزة في الولاية الثانية للرئيس ترامب.
وما زالت المنافسة بعيدة عن الحسم، بل إنها أصبحت سمة أساسية للشؤون العالمية. وبينما تتسع الفجوة بين الاقتصادين الأميركي والصيني مع تقدم الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، فإن كلا البلدين يضاعفان استثماراتهما الحكومية، خصوصًا في الصناعات كثيفة رأس المال مثل الذكاء الاصطناعي؛ حيث تضخ الأسواق العامة والخاصة، إلى جانب الحكومات، تريليونات الدولارات.
وقد شهدت المنطقة السنوات الأخيرة أيضًا بروز لاعبين جدد في هذه المنافسة، وهي دول باتت استثماراتها تضاهي أحيانًا استثمارات أكبر اقتصادين في العالم.
لقد تزامن صعود العديد من القوى الاستثماراتية فيا لعالم، من جنوب شرق آسيا إلى أميركا اللاتينية، مع ازدهار الخليج، كما تزامن ذلك مع تطور سياسي أعاد رسم مسار المنطقة؛ ففي منتصف العقد الثاني من الألفية، صعد جيل أصغر من القادة في السعودية والإمارات وقطر – ومؤخرًا الكويت – إلى السلطة. ويواجه هؤلاء القادة تحولَين أساسيين: التحول العالمي في مجال الطاقة، الذي قد يقوّض شريان الحياة القائم على الوقود الأحفوري في اقتصاداتهم خلال العقود المقبلة، وصعود منتجين جدد للطاقة يمتدون من أميركا اللاتينية إلى الولايات المتحدة، التي أصبحت الآن أكبر منتج للنفط الخام في العالم.
وأمام هذه البيئة الاقتصادية الكلية المختلفة، غيّر هؤلاء القادة الجدد في الخليج مهام وثرواتهم الوطنية فلم يعد رأس المال في الشرق الأوسط تسعى فقط لتحقيق العوائد، بل أصبح يقود التنمية الوطنية والتنويع الاقتصادي. وهو يشكّل الطريقة التي توازن بها دول الخليج بين القوى الكبرى، كما أنها تدفع بشكل متزايد الاقتصاد الابتكاري؛ حيث تُوجَّه تريليونات الدولارات عالميًا إلى مجالات مثل الذكاء الاصطناعي.
إن الخليج بعيد كل البعد عن أن يكون كتلة واحدة متجانسة؛ فأعضاء مجلس التعاون الخليجي يشتركون في السمات، لكن إستراتيجياتهم تعكس هويات وأولويات وطنية. ويتوقع من ملوك الخليج أن يحكموا لعقود، وسيواصلون صياغة خططهم ومتابعة تنفيذها. ونتيجة لذلك، يستثمر هؤلاء القادة وفق آفاق زمنية طويلة الأمد تجعلهم متميزين عن فئات أخرى من موزعي رأس المال.
وأوضح تعبير عن هذا الديناميكية هو “رؤية المملكة العربية السعودية 2030“، التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عام 2016 في محاولة لبناء “مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، وأمة طموحة”. ويقود ولي العهد – حفيد مؤسس المملكة الحديثة الملك عبدالعزيز – برنامجًا للتحول الوطني في الاقتصاد العربي الوحيد العضو في مجموعة العشرين، وموطن أقدس موقعين في الإسلام.
وسيتحدد نجاح البرنامج من خلال نتائجه على الصعيد المحلي؛ فمع وجود أكثر من 35 مليون مواطن – ما يقرب من ثلثيهم دون سن 30 عامًا – تواجه المملكة واقعًا ديموغرافيًا مختلفًا تمامًا عن جيرانها الخليجيين الأصغر حجمًا، وظروفها الداخلية تعني أن الرياض بحاجة إلى خلق وظائف في القطاع الخاص ضمن صناعات جديدة مثل السياحة والترفيه والرياضة وعلوم الحياة، وهذا بدوره يعني تحويل المشهد الواسع والنموذج الاجتماعي والاقتصادي التقليدي الذي تهيمن عليه العائلات التجارية والإعانات الحكومية إلى نموذج يعزز ريادة الأعمال ويجذب مستويات أعلى من الخبرة الأجنبية والسياحة والاستثمار.
وترتبط الإصلاحات الاجتماعية بهذه النتائج الاقتصادية؛ فقد منح مرسوم ملكي صدر عام 2017 النساء السعوديات الحق في القيادة والسفر دون وصاية الذكور، وتدخل المزيد من النساء سوق العمل، لكن هذه الخطوات ليست مجرد حقوق طال انتظارها، فالمزيد من الشمولية يعزز النمو، ويقلل من هجرة العقول، وقد يزيد من دعم الجمهور للإصلاحات الاقتصادية، حتى وإن اعترضت بعض العناصر الأكثر تقليدية في المجتمع السعودي على جوانب من التحديث.
لقد أصبحت السياسة الخارجية والتكنولوجيا أدوات لتحقيق الازدهار الداخلي، فالسعودية تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع ضامن أمنها، الولايات المتحدة، ومع الصين، أكبر شركائها التجاريين، كما أنها تتحول إلى مركز أكثر أهمية للتجارة واللوجستيات، والذي يربط الاقتصادات المتنامية في آسيا، ولا سيما الهند، بأوروبا.
وتستثمر المملكة أيضًا مئات المليارات من الدولارات في الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك في مراكز بيانات جديدة وشركات رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي مثل “هومين“. إن سعي الرياض إلى تعزيز ريادتها في مجال الذكاء الاصطناعي هو رهان على أن هذه التكنولوجيا ذات الغرض العام يمكن أن تعزز كل قطاع من قطاعات اقتصادها المتنوع، وأنها تتمتع بمزايا فريدة ليس فقط بسبب وصولها إلى رأس المال، بل أيضًا من خلال بيئة تنظيمية مرنة ووفرة الطاقة منخفضة التكلفة.
لقد حققت رؤية السعودية 2030 نتائج ملحوظة في عقدها الأول؛ فقد جعل التحديث المملكة غير مألوفة بالنسبة للكثيرين ممن عرفوها سابقًا، وقد تجاوزت أصول صندوق الاستثمارات العامة تريليون دولار في عام 2025.
ولكن بينما تُظهر الرياض أنها ليست مجرد مستثمر بل مبتكرة أيضًا، يواصل البرنامج مواجهة تحديات جديدة يتكيف معها. فمن المتوقع أن يبلغ العجز المالي للبلاد 3.3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2026، وقد يزداد إذا لم ترتفع أسعار النفط العالمية، مما سيؤدي إلى انخفاض إيرادات الحكومة. كما أن التوازن الخارجي للمملكة مثقل بمشاريع داخلية كثيفة رأس المال تتطلب واردات ضخمة من الآلات والتكنولوجيا والخبرة، وكل ذلك أدى إلى تضييق كبير في الفائض التجاري للمملكة. ونتيجة لذلك، تم إبطاء أو تقليص مشاريع رؤية 2030 العملاقة – مثل القدية، والدرعية، ومدينة “نيوم” المستقبلية المخطط لها – بشكل كبير مع بقاء أسعار النفط العالمية منخفضة، ومع إعادة المملكة تقييم لاستراتيجيتها وقدراتها. لكن هذا يُعدّ إعادة تقييم أكثر منه تحولًا جذريًا، ويعكس رغبة المملكة في إفساح المجال لمحفظة متنامية من الاستثمارات طويلة الأجل.
وتزيد مثل هذه الضغوط من الدفع نحو التنويع الاقتصادي؛ فتقليل اعتماد المملكة على إيرادات النفط يمكّنها من العمل بشكل أكثر استقلالية في الجغرافيا السياسية، وتطوير المزيد من أشكال النفوذ والتأثير، ويضعها كمركز إقليمي للمستثمرين عبر مختلف الصناعات، وقد أكدت زيارة ولي العهد إلى واشنطن في نوفمبر/ تشرين الثاني – ولقاءات ترامب في الرياض مع كبار التنفيذيين الأميركيين في مجال التكنولوجيا في مايو/ أيار – على أن الإصلاحات الاقتصادية ترسخ علاقة المملكة بهياكل الأمن الأمريكية.
وحققت الإمارات العربية المتحدة أسرع تقدم نحو التنويع الاقتصادي بين دول الخليج، وهي دولة تبلغ مساحتها ونسبة سكانها جزءًا صغيرًا من المملكة العربية السعودية، وكان نهجها التقدمي في مجال التكنولوجيا مميزًا بشكل خاص. ففي عام 2017، عينت أبو ظبي أول وزير للذكاء الاصطناعي في العالم. وفي العام التالي، أطلقت شركة “جي 42″، التي أصبحت اليوم شركة وطنية رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي. وفي عام 2023، أطلق مجلس أبحاث التكنولوجيا المتقدمة في أبوظبي نموذج “فالكون”، أحد أول نماذج اللغة العربية الكبيرة، مما وسع نطاق التكنولوجيا الإماراتية لتصل إلى أكثر من 400 مليون متحدث باللغة العربية في العالم.
وأتاحت هذه الاستثمارات المبكرة للإمارات ميزة السبق. ومع اعتماد نحو 70 بالمئة من الناتج المحلي على قطاعات غير النفط والغاز، لا يرغب قادتها في فقدان تميزها باعتبارها الاقتصاد الأكثر تنوعًا في المنطقة. وعلى مدى سنوات، نقلت الشركات العالمية موظفيها ومقارها الإقليمية إلى الإمارات، بدءاً من دبي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وصولاً إلى أبوظبي التي أصبحت اليوم عاصمة تجارية إلى جانب كونها عاصمة سياسية. وتُعد أبوظبي اليوم أغنى مدينة في العالم من حيث صناديق الثروة السيادية، ما أكسبها لقب “أبوظبي إنك“.
وتقود منظومة من صناديق الثروة السيادية المتطورة مختلف جوانب الاقتصاد الإماراتي ويغذي طموحات متزايدة الاتساع. وتعد هيئة أبوظبي للاستثمار (إيه دي آي إيه)، التي تأسست عام 1976، واحداً من أكبر الصناديق وأكثرها تأثيرًا في العالم، والذي يتميز بأفق استثماري طويل المدى ومكانة قيادية في فئات الأصول البديلة. أما شركة مبادلة للتنمية، التي أُنشئت عام 2002، فقد ركزت على تنويع الاقتصاد. وبعد اندماجها عام 2017، تحولت “مبادلة للاستثمار” إلى نهج “مستقبلي”، مستثمرة في أكثر من 50 دولة في قطاعات تمتد من الطيران إلى أشباه الموصلات. وفي عام 2024، أُنشئ “إم جي إكس”، وهو صندوق استثماري يركز على الذكاء الاصطناعي، بالشراكة بين مبادلة و”جي 42″، واللتين أطلقتا أيضًا شركة رعاية صحية متكاملة باسم “إم42“. أما “شركة أبوظبي التنموية القابضة“، الذي تأسس عام 2018، فيمثل أداة أبوظبي للتحول الاقتصادي المحلي عبر مختلف الصناعات. وفي عام 2023، أطلقت الإمارات منصة “لونيت” للاستثمار البديل، في خطوة تعكس ثقتها المتنامية في عالم مالي يزداد انقسامًا.
ويتوسع نطاق هذه الصناديق، مما يضع الدولة في مكانة رائدة عالميًا في تدفقات رؤوس الأموال عبر الحدود. ومن خلال إبراز قدراتها وانتشارها عبر فئات الأصول والموضوعات المختلفة، تزداد مكانة أبوظبي كمنفذ رئيسي للتعامل مع المنطقة ومشهد صناديق الثروة السيادية المتطور فيها.
وتسعى الإمارات أيضًا إلى توظيف الذكاء الاصطناعي لتصبح عقدة استراتيجية في البنية التحتية العالمية، بما يساعدها على بناء علاقات بنّاءة مع القوى الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، تتحول إلى وسيط يتمتع بنفوذ في المنظومتين التكنولوجيتين الغربية والآسيوية، بل وتساهم في تشكيل اتجاهات الاستثمار العالمية ضمن سلسلة القيمة الخاصة بالذكاء الاصطناعي. ومع هذا الاعتماد الكبير على رأس المال كأداة أساسية لجمع التمويل، تجد الشركات الخاصة بشكل متزايد أن قرار أبوظبي بالاستثمار أو الامتناع عنه يحدد التصورات السيادية الأوسع بشأن ما إذا كانت هذه الشركات مبالغًا في تقييمها أو مسعّرة بشكل مناسب.
على الرغم من أن هذه الاستثمارات السيادية يمكن أن تكون صانعة للأسواق، إلا أنها وضعت الإمارات أيضًا في دائرة الضوء الجيوسياسي. وتحت ضغط من مسؤولين أمريكيين من كلا الحزبين الرئيسيين، عمل القادة الإماراتيون على قطع الروابط التكنولوجية مع الصين. ففي أواخر عام 2023، قال الرئيس التنفيذي لشركة “جي 42” بنغ شياو لصحيفة فايننشال تايمز: “من أجل تعزيز علاقتنا – التي نعتز بها – مع شركائنا الأمريكيين، لا يمكننا ببساطة أن نفعل الكثير مع شركائنا الصينيين السابقين. لا يمكننا العمل مع الطرفين. لا نستطيع”.
وعلى الرغم من استمرار المخاوف، فإن قرار الولايات المتحدة في مايو/ أيار بإلغاء قاعدة انتشار الذكاء الاصطناعي التي أُقرت في عهد بايدن – والتي كانت ستحد من صادرات الرقائق المتقدمة إلى دول الخليج مثل الإمارات – جاء قبل أيام من زيارة ترامب إلى المنطقة، وفتح الباب أمام إمكانية توسيع صادرات الرقائق.
وشهد صعود قطر مسارًا حديثًا نسبيًا، لكنه لا يكن أقل أهمية. فقد دخلت الدوحة دائرة الضوء بالنسبة لكثيرين مع استضافتها كأس العالم لكرة القدم عام 2022. وبحلول ذلك الوقت، كانت دولة بحجم ولاية كونيتيكت تقريبًا قد شيدت بنية تحتية قادرة على استيعاب ملايين السياح واستضافة أبرز الفعاليات العالمية. وقد تحقق ذلك بفضل شركات وطنية رائدة نشأت عبر استثمارات سيادية نفذتها جهات مثل جهاز قطر للاستثمار. فبنك قطر الوطني يخدم نحو 20 مليون عميل في 28 دولة، وقناة الجزيرة تدّعي أن لها جمهورًا عالميًا يبلغ 430 مليونًا، فيما تحقق شركة قطر للطاقة إيرادات سنوية تتجاوز 43 مليار دولار. أما الخطوط الجوية القطرية فتوظف أكثر من 50 ألف شخص وتمتلك واحدة من أكبر أساطيل الشحن الجوي في العالم. وقد مر عبر مطار حمد الدولي نحو 53 مليون مسافر العام الماضي، ليصبح واحداً من أكثر مطارات المنطقة ازدحامًا.
حتى الآن، لا يكمن التحدي بالنسبة للدوحة في التمويل، بل في الجغرافيا السياسية والديموغرافيا. فالسعودية قادرة على تشغيل ملايين من مواطنيها وتسعى لتوفير وظائف لملايين آخرين. أما قطر، التي لا يتجاوز عدد مواطنيها 300 ألف نسمة مع وجود نسبة كبيرة من العمالة الوافدة، فلا تستطيع ذلك. ولطالما جذبت الإمارات المواهب العالمية، بينما لم تفعل قطر ذلك بنفس القدر أو على نفس النطاق. ولسد هذه الفجوة السكانية، تهدف الدوحة إلى مضاعفة عدد شركاتها الوطنية الرائدة مع السعي لاستقطاب ما يصل إلى 2.5 مليون عامل ماهر خلال العقد المقبل في مجالات مثل السياحة والتعليم والرعاية الصحية والضيافة والتكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي. وتُعد “المدينة التعليمية”، وهي مجمع جامعات دولية أُطلق عام 2003، محورًا أساسيًا لهذه الإستراتيجية، إذ تعمل على تدريب القطريين والطلاب الأجانب للعمل في الصناعات المحلية.
ومع ذلك، يمكن أن تعقّد الجغرافيا السياسية الأمور، إذ تقع قطر على حدود السعودية وتقع قبالة إيران عبر الخليج. ومن عام 2017 إلى عام 2021، فرضت الإمارات والسعودية حصارًا على الدوحة عقب اتهامات بدعم جماعات إسلامية. وفي هذا العام، عبرت صواريخ إيرانية أجواء الدوحة قبل أن تصيب قاعدة أمريكية قريبة داخل البلاد. وقد سعت قطر إلى موازنة هذا الضغط عبر المناورة على عدة جبهات سياسية، في استراتيجية وصفها البعض بـ”الحياد التكتيكي“.
وقد أقام الدبلوماسيون القطريون صداقات قوية وأثاروا الجدل من خلال انخراطهم العالمي، لا سيما في الوساطة بين أطراف متعددة في النزاعات. فقد سهّلت الدوحة مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، وكذلك بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. كما استضافت قادة حركة طالبان وحركة حماس – غالبًا بطلب من واشنطن – الأمر الذي أثار انتقادات لكنه عزّز في الوقت نفسه نفوذها وقدرتها على التأثير. ومؤخرًا، لعبت القيادة القطرية دورًا بارزًا في المفاوضات الخاصة بإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس في غزة، وكذلك في خطة السلام الخاصة بالقطاع.
لقد أكسبت الاستثمارات القطرية ودورها الوسيط البلاد داعمين من القوى الكبرى. ولتعزيز علاقاتها الوثيقة أصلاً مع الولايات المتحدة، موّلت الدوحة إنشاء قاعدة العديد الجوية، التي تُعد اليوم أكبر منشأة عسكرية أمريكية في المنطقة. وفي عام 2022، منحت الولايات المتحدة الدوحة صفة “حليف رئيسي من خارج الناتو”. وبعد ثلاث سنوات، عقب غارة إسرائيلية استهدفت مواقع لحركة حماس في العاصمة القطرية، حصلت الدوحة على تعهد أمني من الولايات المتحدة، وأعلنت عن خطط لبناء منشأة جديدة تابعة للقوات الجوية الأميرية القطرية في ولاية أيداهو. وفي الوقت نفسه، يواصل صندوق الثروة السيادي القطري، الذي تتجاوز قيمته 500 مليار دولار، استكشاف فرص الاستثمار حول العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة وأوروبا والصين.
وينتشر نموذج رأس المال الفعال، الذي ابتكرته دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر. غفي عام 2020، توجت عمان أول سلطان جديد لها منذ خمسة عقود وأطلقت رؤيتها 2040. وتقوم الكويت الآن بإدخال إصلاحات اقتصادية وحوكمة مدفوعة بأكبر ثاني صندوق في المنطقة، وهو الهيئة العامة للاستثمار المالي في الكويت. وتستند استثمارات البحرين المخطط لها في الولايات المتحدة بقيمة 17 مليار دولار إلى اتفاقية التكامل الأمني الشامل والازدهار. وإذا تم توسيع اتفاقيات إبراهيم، فقد تشمل الخطوات التالية تكاملاً اقتصاديًا أعمق ومزيد من الاستثمارات، مع قيام إسرائيل بتغيير التوازن الجيوسياسي في المنطقة مرة أخرى.
ويمنح رأس المال الفعال للملكيات الخليجية – والدول الجيوسياسية المتأرجحة على الصعيد العالمي – القدرة على تجاوز وزنها الديموغرافي أو العسكري، تمامًا كما فعل النفط في القرن العشرين. والفرق الآن هو أن هذا الاتجاه يتسارع بفعل عاملين مهمين: أولهما الترابط الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين، وهما أكبر شريكين تجاريين ومنافسين رئيسيين لبعضهما البعض، والثاني ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي كتكنولوجيا محركة للاقتصاد تحتاج إلى رأس المال والموارد الطاقية الوفيرة المتوفرة في الخليج.
ويمنح رأس المال الإنتاجي للملكيات الخليجية – والدول المتأرجحة جيوسياسيًا حول العالم – القدرة على تجاوز ثقلها الديموغرافي أو العسكري، تماماً كما فعل النفط في القرن العشرين. والفرق اليوم أن هذا الاتجاه يتسارع بفضل عاملين رئيسيين: الاعتماد الإستراتيجي المتبادل بين الولايات المتحدة والصين، وهما أكبر شريكين تجاريين وأبرز منافسين لبعضهما البعض، وظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي كتكنولوجيا محركة للاقتصاد تحتاج إلى وفرة رأس المال والموارد الطاقوية المتاحة بكثرة في الخليج.
واليوم، تسهم هذه القدرة في إعادة تشكيل الأوضاع الداخلية للملَكيات الخليجية، وفي الوقت نفسه تمنحها نفوذاً عبر كل قطاع وجغرافيا – من الرقائق الإلكترونية إلى المنافسة بين الولايات المتحدة والصين – لتجعل من توظيف رأس المال أداة جيوسياسية بطرق جديدة.
وتوجد صناديق الثروة السيادية منذ أكثر من سبعة عقود، فيما تعود تخصيصات رأس المال التي تقودها الدول إلى قرون مضت. لكن صعود رأس المال الإنتاجي يعيد اليوم تشكيل علاقة الدول بالتمويل العالمي وطريقة تنافسها على الساحة الدولية.
ولا تتبع جميع صناديق الثروة السيادية القواعد نفسها. فقد أشار مركز كارنيغي للسلام الدولي إلى أن نمو هذه الصناديق يزيد من خطر أن تتحول إلى “قنوات للفساد وغسيل الأموال وأنشطة غير مشروعة أخرى”. وبعد وقت قصير من بدء الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على “صندوق الثروة الوطني” الروسي وكذلك على “صندوق الاستثمار المباشر الروسي”، معتبرة الأخير “صندوقًا سريًا للرئيس فلاديمير بوتين ويجسد طبيعة الكليبتوقراطية الروسية الأوسع”.
ومع سعي الدول المالكة لرؤوس الأموال إلى استكشاف فرص استثمارية في التقنيات الحيوية والمناطق التي تمتد عبر العالم، وفي الوقت نفسه جذب استثمارات أجنبية من شركاء جدد، يجد صانعو السياسات في الغرب فرصة لتحديد المصالح المشتركة ومواءمة الاستثمارات السيادية مع القيم الديمقراطية مثل الشفافية والمساءلة واحترام كرامة الإنسان الفردية، بما يتيح استقطاب الدول المتأرجحة جيوسياسياً بطرق جديدة.
ويمكن لمالكي صناديق الثروة السيادية أيضًا أن يعيدوا تقييم شراكاتهم؛ فسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تتغير من إدارة إلى أخرى. ومن دون معرفة من سيكون في البيت الأبيض لاحقًا، يسعى هؤلاء المالكون إلى تعزيز استقلاليتهم وتحقيق التوازن، مدركين أن السنوات الثلاث المقبلة قد تكون حاسمة لإثبات أن علاقاتهم لا تقوم فقط على التزامات الماضي، بل أيضاً على عدم الاستغناء عنهم في المستقبل.
وسيُحدد نجاح الاستثمارات الحكومية على المدى الطويل – كما هو الحال مع الاستثمارات التي يقودها القطاع الخاص – وفقًا لآليات السوق وردود الفعل. ففي الصين، يتيح نظام الحزب الحاكم تنسيقًا واسع النطاق وهيمنة صناعية في قطاعات معينة، إلا أن غرور التخطيط المركزي قد يكشف عن نفسه في قطاع العقارات المحلي المتعثر وفي مستويات الدين المرتفعة. أما النظام الأمريكي القائم على حرية السوق فيغذي النمو، وتدفع مؤسساته البحثية الرائدة وشركاته العالمية منظومة الابتكار. لكن القيود المالية المتزايدة والانقسامات السياسية تحدّ من التركيز الإستراتيجي.
وتراهن دول الخليج على أن استراتيجياتها ستُحدث تحولاً في اقتصاداتها، غير أن الإفراط في الاستثمار في قطاعات غير مربحة أو فشل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية قد يوقف هذا التقدم الكبير. ومع قيام كل اقتصاد رئيسي بضخ مستويات غير مسبوقة من الاستثمارات في وعود الذكاء الاصطناعي، ستنجح بعض المشاريع وتحقق عوائد واسعة النطاق، فيما سيفشل بعضها الآخر. وحيثما تعجز شركات الذكاء الاصطناعي عن تحقيق النمو أو الوفورات الموعودة، أو إذا ظهرت اختناقات تعرقل أو تمنع نمو الصناعة وانتشار الذكاء الاصطناعي، فقد يشهد المستثمرون تصحيحًا مع استمرار مخاطر الهبوط.
وإذا كان الماضي هو مقدمة للمستقبل، فإن صعود هذه الثروة الجديدة للدول وأهميتها لمستقبل التقدّم والنمو والمنافسة سيستمر. ولن يحل رأس المال محل الدبلوماسية أو القوة الصلبة في أي نظام سياسي. لكن الاستثمارات الحكومية تحرّك الاقتصاد العالمي يوميًا وتغيّر ميزان القوى. وفي زمن باتت فيه طريقة استثمار الدول هي ما يحدد كيفية تنافسها، قد يثبت رأس المال الانتاجي أنه العامل الحاسم.
المصدر: فورين بوليسي