يبدو أن المنطقة على موعد مع تصعيد جديد، وفق ما تشي به بعض المؤشرات الأخيرة، فقد نقل موقع “أكسيوس” عن ثلاثة مصادر إسرائيلية أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حذّرت خلال عطلة نهاية الأسبوع المنصرم، من احتمال تمهيد إيران لهجوم مرتقب على “إسرائيل”، استنادًا إلى المناورة الصاروخية التي أجراها الحرس الثوري الإيراني قبل أيام.
الموقع نقل عن مصادره المطلعة على هذا الملف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يعتزم خلال لقائه المرتقب مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ميامي بولاية فلوريدا، في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، بحث إعادة بناء القدرات الصاروخية الإيرانية وإمكانية توجيه ضربة لطهران.
وفي سياق التحشيد ذاته، أجرى رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية، الفريق إيال زمير، اتصالًا هاتفيًا، السبت 20 ديسمبر/كانون الأول الجاري، مع قائد القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم)، الأدميرال براد كوبر، أبلغه خلاله بقلق “إسرائيل” من المناورة الصاروخية التي أجراها الحرس الثوري، مشيرًا إلى أن التحركات الصاروخية الإيرانية الأخيرة، إلى جانب خطوات تشغيلية أخرى، قد تكون غطاءً لهجوم مباغت، داعيًا إلى تنسيق وثيق بين القوات الأمريكية والإسرائيلية على صعيد الاستعدادات الدفاعية.
وفي ظل هذه التطورات المتسارعة، والحشد الإسرائيلي اللافت، وأمام موجات المدّ والجزر بين طهران وتل أبيب على مدار عامين كاملين، يبقى التساؤل مطروحًا: هل المنطقة مقبلة على مواجهة عسكرية مباشرة في القريب العاجل؟ وما هو موقف الولايات المتحدة إزاء هذا التصعيد؟
ماذا وراء التجييش الإسرائيلي؟
بحسب المصادر الإسرائيلية التي تحدّثت إلى موقع “أكسيوس”، فإن المعلومات الاستخباراتية المتوفرة حتى الآن لا تتجاوز رصد تحركات عسكرية داخل إيران، ومناورات تقليدية ينفّذها الحرس الثوري، وهي تحركات لا ترقى، حتى اللحظة، إلى مستوى القلق والتجييش القائمين.
وأوضح أحد المصادر الإسرائيلية أن استخبارات الكيان الإسرائيلي كانت قد أثارت مخاوف مماثلة قبل ستة أسابيع، عقب رصد تحركات صاروخية إيرانية، غير أن تلك التحذيرات لم تُفضِ إلى تطورات لاحقة، مضيفًا بشكل علني أن “احتمال وقوع هجوم إيراني يقلّ عن 50%”.
وخلصت الاستخبارات الأمريكية إلى الاستنتاج ذاته، أي التقليل من احتمالية توجيه طهران ضربة عسكرية لتل أبيب، إذ لا تمتلك واشنطن، في الوقت الراهن، أي مؤشرات على هجوم إيراني وشيك، بحسب ما نقله مصدر أمريكي للموقع.
لكن في المقابل، يستند الموقف الإسرائيلي، في ظل هذا الزخم والتحشيد المبالغ فيهما، إلى مقاربة مفادها أنه “لا أحد مستعد لتحمّل المخاطرة والقول إن ما يجري مجرد تدريب”، كما جاء على لسان أحد المصادر الإسرائيلية، الذي لفت إلى أن درجة تقبّل المخاطر لدى الجيش الإسرائيلي باتت أقل بكثير مما كانت عليه سابقًا، ولا سيما بعد مرور عامين على عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة المقاومة الفلسطينية حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
🚨🚨🚨Israel warned the Trump administration over the weekend that an Iranian Revolutionary Guard Corps missile exercise could be preparations for a strike on Israel. My story on @axios https://t.co/ieiqiw3yIT
— Barak Ravid (@BarakRavid) December 21, 2025
ورصدت الاستخبارات الإسرائيلية -بحسب المصادر ذاتها- مؤشرات مبكرة على استئناف إيران بناء قدراتها الصاروخية، بدافع أقوى مما كان عليه منذ الحرب التي استمرت 12 يومًا في يونيو/حزيران الماضي، فبحسب تلك المصادر، خرجت إيران من تلك الحرب وهي تمتلك نحو 1500 صاروخ، مقارنة بـ3000 صاروخ قبلها، إضافة إلى 200 منصة إطلاق من أصل 400 كانت بحوزتها سابقًا.
ورغم أن إيران بدأت بالفعل خطوات لإعادة بناء قواتها، فإنها لم تعد بعد إلى مستويات ما قبل الحرب، حيث فقدت ما يقرب من نصف قدراتها أو أكثر، فيما ترى الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية والموساد أن وتيرة إعادة البناء لا تفرض حاليًا تحركًا عسكريًا عاجلًا خلال الشهرين أو الثلاثة المقبلة، لكنها تحذر من أن الأمر قد يتحول إلى قضية أكثر إلحاحًا في وقت لاحق من العام.
وأجمعت المصادر الإسرائيلية والأمريكية التي تحدّثت إلى “أكسيوس” على أن الخطر الأكبر يتمثل في اندلاع حرب بين إسرائيل وإيران نتيجة سوء تقدير، إذ قد يعتقد كل طرف أن الآخر يخطط للهجوم، فيسارع إلى توجيه ضربة استباقية، وهو ما يضع المنطقة بأسرها فوق فوهة بركان قابل للانفجار في أي لحظة.
نتنياهو يتسول الضوء الأخضر من ترامب
يحاول نتنياهو استثمار حالة الضعف التي يرى عليها إيران في الوقت الحالي بعد الضربات التي تلقتها على مدار العامين الماضيين، وكذلك توظيف السيولة والارتباك اللذين عليهما المشهد الإقليمي الراهن، لانتزاع ضوء أخضر من الرئيس الأمريكي لشن هجوم جديد على طهران، حتى لو كان ذلك دون مشاركة أمريكية مباشرة.
هذا ما أكدته صحيفة “يديعوت أحرونوت” التي نقلت عن مصادر إسرائيلية رسمية لم تسمها، إن نتنياهو سيحاول استمالة ترامب من خلال عرض معلومات استخباراتية محدثة تتعلق بإيران وحركة “حماس” وجماعة “حزب الله”، في محاولة لإقناعه بخطورة ما تعتبره تل أبيب تسارعًا في إنتاج الصواريخ البالستية الإيرانية يجب التصدي لها مبكرًا.
وترى تلك المصادر أن مجرد موافقة ترامب على توجيه ضربة إسرائيلية أحادية ضد طهران سيُعد إنجازًا كبيرًا لنتنياهو، في ظل إدراك “إسرائيل” أن الولايات المتحدة لا ترغب بالانخراط المباشر في مواجهة عسكرية جديدة قد تكون كلفتها باهظة.
وحسب مصادر مطلعة ومسؤولين أمريكيين سابقين، ترى إسرائيل أن إنتاج إيران المتجدد للصواريخ الباليستية قد يصل إلى 3,000 صاروخ سنويًا إذا تُرك دون مراقبة، وفي ذات السياق كان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، قد أشار بشكل علني، الأحد 21 من الشهر الحالي، بأن بلاده “مستعدة بالكامل” لجولة جديدة من القتال إذا وقعت، وأنها أعادت بناء منشآتها الاستراتيجية التي تضررت خلال الحرب في يونيو/حزيران.
بنك أهداف متنوع.. ماذا تريد تل أبيب؟
يسعى نتنياهو من خلال سعيه لانتزاع الضوء الأخضر الأمريكي لضرب إيران وتنفيذ ذلك على أرض الواقع إلى تحقيق مجموعة من الأهداف المتنوعة على عدة مستويات:
أهداف شخصية: يسعى من وراء ذلك إلى إبقاء المنطقة في حالة توتر دائم، وتجييش الرأي العام الداخلي الإسرائيلي لمواجهة الخطر الإيراني المتنامي، وهو ما سيدفع منطقيًا للتغاضي عن أي ملاحقات قضائية أو تهديدات لمستقبله السياسي، ما يعزز فرصه في البقاء في السلطة واستمرار حكومته.
أهداف أمنية: يشكل ذلك مبررًا مستمرًا للتحرش العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي بسوريا ولبنان والعراق واليمن، بزعم مواجهة أذرع إيران الإقليمية، وفق ما أشار إليه زامير، الذي صرّح بأن الجيش مستعد للضرب في أي مكان يلزم، وهي الأهداف التي تخدم بشكل أو بأخر على أهدافه الشخصية.
أهداف سياسية: يحمل ذلك رسالة تحذير وتهديد لكل القوى الإقليمية، مما قد يسهم نسبيًا في دفع الدول المترددة في الانضمام لاتفاقات أبراهام، مثل السعودية، نحو إبرام اتفاق تطبيع رسمي مع تل أبيب، حيث يزيد النفوذ الإسرائيلي في المنطقة من الضغوط على دول أخرى للانضمام إلى مسار التطبيع، ولو كان ذلك بدافع الخشية أو الترهيب.
أهداف اقتصادية: تتجلى من خلال تضخيم صورة التهديد الإيراني وقدرات طهران التسليحية، والإيحاء بأنها تستعيد قوتها العسكرية، بما يخلق حالة من القلق لدى دول المنطقة ويحفزها على تعزيز ترسانتها التسليحية، ما ينشط مصانع السلاح الأمريكية والإسرائيلية ويزيد من هيمنة الدولتين على سوق التسليح في المنطقة.
ثنائية الردع واستثمار الفرصة.. ما الاحتمالات؟
بين التهويل الإسرائيلي للتهديدات العسكرية الإيرانية وتوظيف نتنياهو وحكومته اليمينة المتطرفة لهذا الخطاب في خدمة أجنداتهم الداخلية والخارجية، يظل تنفيذ ضربة عسكرية مباشرة وأحادية ضد إيران مسألة مرهونة بقرار سياسي أمريكي في المقام الأول، استنادًا إلى أن قدرات “إسرائيل” وحدها غير كافية للقيام بتلك الضربة أو تحمل تبعاتها في مواجهة ترسانة صاروخية إيرانية قادرة على إلحاق أضرار جسيمة بالعمق الإسرائيلي.
في هذا السياق، يقرأ كثيرون التصعيد اللفظي في تل أبيب ونقله بالتبعية إلى الأوساط الأمريكية على أنه جزء من سياسة الردع، أكثر منه استعدادًا حقيقيًا لحرب شاملة مفتوحة على كل الاحتمالات، كما أن كلفة أي مواجهة مباشرة مع إيران، عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، تجعل القرار أبعد ما يكون عن كونه إسرائيليًا صرفًا، بل مرهونًا بحسابات واشنطن الأوسع في المنطقة.
وفي سياق متصل، تبدو مقاربات إدارة ترامب إزاء خيار ضربة إسرائيلية جديدة ضد إيران محكومة ببرغماتية بحتة، فالعوامل التي دفعت واشنطن للانخراط في ضربة يونيو/حزيران لم تعد متوافرة اليوم بالقدر نفسه، سواء على مستوى المعطيات الاستخباراتية أو هامش تمريرها على المستوى الداخلي.
يضاف إلى ذلك ما تعرض له ترامب من انتقادات لاذعة في الأوساط الأمريكية بسبب ما اعتُبر رضوخًا مفرطًا لضغوط نتنياهو، وهو ما قد قيّد قدرته على منح رئيس الوزراء الإسرائيلي ضوءً أخضر جديدًا للقيام بمغامرة عسكرية أخرى يمكن أن تُصوَّر للرأي العام الأمريكي باعتبارها استجابة لرغبات الحكومة الإسرائيلية أكثر منها تعبيرًا عن مصلحة وطنية أمريكية واضحة.
من هذا المنطلق يُرجح أن تلتزم المقاربة الأمريكية الحالية إزاء هذا التصعيد اللافت إلى إدارة المخاطر مع إيران لا تفجيرها، عبر مزيج من الردع والدبلوماسية والضغط الاقتصادي، بما يحقق الموازنة بين خدمة الحليف الإسرائيلي من جانب ومراعاة حسابات الداخل والمصالح الأمريكية من جانب أخر.
من هنا تتبلور الخيارات المطروحة بين سيناريوهين رئيسيين متقاربين في ترجيحاتهما، الأول يقوم على ضربة خاطفة تستهدف ما تبقى من القدرات التسليحية والصاروخية الإيرانية قبل اكتمال تعافيها، مستغلة ما يُنظر إليه في تل أبيب كفرصة نادرة في ظل حالة الوهن النسبي التي تمر بها إيران.
أما السيناريو الثاني فيرتكز إلى تعظيم الضغط السياسي على الإدارة الأمريكية لفرض حزمة عقوبات إضافية ومشددة تعرقل جهود طهران لإعادة ترميم قدراتها، بوصفه بديلًا أقل كلفة وأكثر قبولًا لدى العواصم الغربية من الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مباشرة قد تستجلب ردًا إيرانيًا واسعًا وتفتح الباب أمام دوامة عنف إقليمية جديدة.