ترجمة وتحرير: نون بوست
في الخامس عشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري؛ كانت فاطمة سالم تنتظر بقلق خارج منزل عائلتها في مدينة غزة، بينما تواصل فرق الإنقاذ الحفر بين أنقاض المنزل، وكانت تتشبث بالأمل، وهي تتابع بأنفاس متقطعة، أن يتم إنقاذ جميع أفراد أسرتها الستين – من إخوة وأخوات وأبناء وبنات إخوة وأحفاد – الذين دفنوا تحت الركام بعد أن استهدف القصف الإسرائيلي مبنى العائلة.
غير أن هذه لم تكن عملية إنقاذ اعتيادية، ولم تكن فاطمة تنتظر مؤشرات على حياة، فهي كانت تدرك أن الجميع قد ماتوا. ذلك لأن الغارة الجوية على منزل عائلتها وقعت قبل نحو عامين تقريبًا، في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2023، أي بعد شهرين فقط من بدء الإبادة الجماعية.

ويُعد أفراد عائلة سالم البالغ عددهم 60 فرد هم من بين ما يُقدَّر بنحو 10 آلاف فلسطيني لا تزال جثامينهم عالقة تحت الأنقاض الهائلة المنتشرة في مختلف أنحاء قطاع غزة. وبسبب القصف الإسرائيلي الذي استمر عامين متواصلين، واستهداف وقتل فرق الدفاع المدني، إضافة إلى غياب المعدات الثقيلة اللازمة لرفع أطنان الركام الخرساني، توقفت عمليات الإنقاذ في غزة إلى حدٍّ كبير.
وفي 15 ديسمبر/ كانون الأول، أعلنت فرق الدفاع المدني في قطاع غزة عن بدء عملية طويلة لانتشال الجثامين التي بقيت تحت الركام لمدة عامين. وتقتصر هذه العمليات على المناطق في القطاع غير الخاضعة للاحتلال العسكري الإسرائيلي، والتي تشكّل نحو نصف مساحة الأراضي.
وكانت أولى مهمات الإنقاذ مخصصة لعائلة سالم في مدينة غزة.
صرخت فاطمة سالم قائلة: “هنا فقدت كل من هو عزيز عليّ؛ أقرب الناس إليّ، إخوتي وأخواتي وعائلاتهم. فقدت الجميع في هذا المكان”. وما إن سمعت بخبر عملية الإنقاذ حتى هرعت إلى موقع المبنى المدمَّر، حيث بقيت أرواح ذويها محاصرة لعامين كاملين.
وأوضحت أن عائلتها تم استهدفها في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2023، بعد أن فرت من شمال غزة إلى مدينة غزة بسبب اشتداد القصف والقتال في منطقتهم السكنية. ولجأوا إلى مبنى كان سكانه قد غادروه، وتجمعوا هناك مع أطفالهم وعائلاتهم، ولم ينجُ أحد ممن كانوا داخل المبنى وقت القصف.
وقالت وهي تقف أمام صفوف من العظام والجماجم الملفوفة بأكفان بلاستيكية بيضاء موضوعة على الأرض أمامها: “أريد أن أراهم، أن أحتضنهم، أن أودّعهم”. وقد تم التعرف على بعض الجثامين من قبل أقاربهم الناجين، فيما لم يُعرَف بعد أصحاب جثامين أخرى.
أما عمر سليمان، وهو عضو في قسم الطب الشرعي بالدفاع المدني، فكان يعمل في موقع عائلة سالم. ووصف العملية الشاقة لتحديد هوية الضحايا وتوثيقها، مشيرًا إلى أن الفرق تقوم بتسجيل أوصاف حالة الجثامين من حيث الشكل والطول ومستوى التحلل الذي وصلت إليه، إضافة إلى حفظ عينات من الحمض النووي متى أمكن ذلك.

ووفقًا لمقاطع فيديو التي نشرها الدفاع المدني على قناته في تليغرام، فإن ما يتم العثور عليه من رفات الشهداء يكون أحيانًا مجرد عظام، وليس دائمًا جماجم كاملة، بل عظام من الصدر والقدمين، مما يجعل عملية التعرف عليهم أمرًا بالغ الصعوبة.
وبحسب سليمان، فإن مستوى التحلل في الجثامين كان مرتفعًا جدًا، مما جعل من الصعب على العائلات التعرف عليهم. كما أن غياب الأدوات والتقنيات اللازمة لإجراء اختبارات الحمض النووي المتقدمة جعل عملية التعرف أكثر تعقيدًا. وأوضح أن الفرق تعمل “بأدوات محدودة جدًا وفي ظروف صعبة ومرهقة”.
ويقول أفراد الدفاع المدني إنهم انتشلوا جميع الجثامين من المبنى، وكلها تعود لشهداء عائلة سالم، إضافة إلى 17 جثمانًا آخر دُفنوا في محيط المبنى. وبعد عامين، تمكنت فاطمة سالم أخيرًا من وداع أحبائها.
آلاف الجثامين وموارد محدودة
في خان يونس جنوب قطاع غزة، بدأت عمليات انتشال في 20 ديسمبر/ كانون الأول في بعض مناطق المدينة، بدءًا بشهداء عائلة أبو هلال الذين قُتلوا في 13 أغسطس/ آب 2025.
وكانت هدى أبو هلال، في العشرينات من عمرها، الناجية الوحيدة من الغارة التي استهدفت منزل عائلتها في ذلك اليوم. فعلى الرغم من وجودها داخل المبنى وقتها، إلا أن والدتها طلبت منها قبل لحظات من القصف أن تنزل إلى الطابق السفلي لأمر ما. وفي تلك اللحظة، تم قصف المنزل وقُتل جميع من فيه باستثناء هدى.
وقالت هدى لموقع موندويس: “قُتل جميع أفراد عائلتي باستثنائي – أمي وأبي، وأخواتي وأطفالهن – كلهم استُشهدوا”، مضيفةً أنه بسبب استمرار أمر الإخلاء في حيّها بعد القصف، لم تتمكن الفرق من الوصول إلى منزلها لإنقاذ عائلتها.

في الموقع، وصف سمح حماد، رئيس قسم الطب الشرعي في الدفاع المدني، حجم التحدي الذي يواجهه الطاقم.
وقال إن في خان يونس وحدها هناك 75 مبنى مدمَّرًا تحت أنقاضها مئات الجثامين التي تحتاج إلى انتشال، موضحًا أن العديد من هذه المباني تقع خلف “الخط الأصفر”، وهي مناطق يتعذر على الفرق الفلسطينية الوصول إليها. وحتى في المناطق التي يمكنهم الوصول إليها، فإن عمليات الإنقاذ تسير ببطء شديد.
وأشار حماد إلى أن بطء هذه العمليات يعود إلى أن جميع الفرق في قطاع غزة تعمل بمعدات محدودة للغاية، إذ لا يتوفر سوى حفّار ضخم واحد يُستخدم في عدة مدن ومناطق داخل القطاع.

وعلى مدى الشهرين الماضيين منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار، قالت هدى إنها كانت تمر كثيرًا بجوار أنقاض المنزل، ولو لمجرد تلاوة دعاء لعائلتها التي ما تزال عالقة تحت الركام، على أمل أن يتم إنقاذهم قريبًا.
وأضافت هدى: “الآن يمكنني تكريم عائلتي التي استُشهدت بدفنهم، وأن ننقلهم إلى قبور ونعتاد زيارتهم”.
المصدر: موندويس