لم تمضِ ثلاث ساعات على التفجير الذي استهدف مسجد “الإمام علي بن أبي طالب” في حي وادي الذهب بمدينة حمص وسط سوريا في أثناء صلاة الجمعة، وأسفر عن مقتل ثمانية أشخاص وإصابة 18 آخرين بجروح متفاوتة، حتى أعلنت جماعة تطلق على نفسها اسم “سرايا أنصار السنّة” تبنّيها للحادثة.
وأعقب التفجير موجة إدانة واستنكار على المستويات المحلية والعربية والدولية، مع التأكيد على دعم الدولة السورية في مواجهة الجهات التي تسعى إلى زعزعة الاستقرار. في المقابل، شكك خبراء وباحثون في مسؤولية “سرايا أنصار السنة”، بل وفي وجودها أصلًا، وهو توصيف سبق أن تبنته وزارة الداخلية السورية في يونيو/حزيران 2025، حين اعتبرتها “جماعة وهمية”.
يستعرض هذا التقرير نشأة جماعة “سرايا أنصار السنة”، وخطابها المعلن، وطبيعة أنشطتها، والجهات التي يُعتقد أنها تقف خلفها، إضافة إلى سلوك الحكومة السورية في التعامل معها.
التحقيقات جارية.. “تفجير فتنة”
في 26 من ديسمبر/كانون الأول الحالي، أعلنت جماعة “سرايا أنصار السنة” مسؤوليتها عن التفجير في حمص، مشيرة إلى أنه جرى بالتعاون مع عناصر من جماعة أخرى لم تسمّها. وذكرت، في بيان منسوب إليها، أن التفجير نُفّذ عبر زرع عدد من العبوات داخل مسجد “علي بن أبي طالب”، الواقع في منطقة يغلب عليها السكان من الطائفة العلوية.
واستخدمت الجماعة توصيفات طائفية في خطابها، مع تهديد بمواصلة هجماتها خلال الفترة المقبلة، كما استغلت الحادثة للتأكيد على ما وصفته باستقلاليتها الإدارية عن تنظيم “الدولة الإسلامية”، مع الإشارة إلى التلاقي معه في العقيدة والمنهج.
View this post on Instagram
في المقابل، قال مدير عمليات حمص، حسن الفريج، إن التحقيقات ما تزال جارية لكشف المتورطين في الانفجار، فيما رفض محافظ حمص، عبد الرحمن الأعمى، أي استنتاجات مسبقة، مؤكّدًا أن قيادة الأمن الداخلي باشرت التحقيقات على الفور.

وقال المتحدث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا إن التفجير تم بواسطة “إرهابي مجرم” عبر وضع عبوة ناسفة في المسجد، مشيرًا إلى عدم إمكانية الجزم بهوية المنفّذ، مؤكدًا أن هناك كثيرين يعارضون حالة الوحدة الإيجابية في سوريا.
واعتبر وزير الطوارئ رائد الصالح أن البلاد تواجه محاولات خطيرة لزعزعة الاستقرار وتهديد السلم الأهلي، فيما وصف وزير الداخلية أنس خطاب استهداف دور العبادة بأنه “عمل دنيء جبان” هدفه ضرب النسيج الوطني، مؤكّدًا فشل هذه المحاولات. وأشار مستشار الرئاسة للشؤون الإعلامية أحمد موفق زيدان إلى أن تحالف المتضررين من الاستقرار عليه أن يفهم أن “عهد الفوضى والاستثمار فيه قد ولّى”.
ويرى الباحث السوري في شؤون الحركات الإسلامية، عبد الرحمن الحاج، أن التفجير يهدف بشكل واضح إلى إثارة فتنة واقتتال أهلي “سني علوي”، مشيرًا إلى أن العملية لا تحمل بصمات تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، الذي عادة ينفذ مثل هذه الهجمات عن طريق انتحاريين وسط المساجد لإيقاع أكبر عدد من الضحايا.
ويقول الباحث لـ”نون بوست”، إن التفجير في المسجد تم عن بعد وبعبوة ناسفة، ما يشير إلى جهة مختلفة عن التنظيمات المعروفة. وأوضح أن الجهات التي تستفيد ولها مصالح من اقتتال طائفي في سوريا هي فلول نظام الأسد وإيران، مشيرًا إلى أن تبني العملية من قبل جماعة “أنصار السنة”، التي يعتبرها “وهمية” وارتباطها المحتمل بفلول النظام، قد يرجح مسؤولية هذه الفلول عن تنفيذ التفجير.
مجهولة العدد والتبعية
تعد جماعة “سرايا أنصار السنة” حديثة النشأة في الساحة السورية، وبرزت إعلاميًا بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، وتولي الرئيس أحمد الشرع إدارة البلاد، الذي كان يقود سابقًا “هيئة تحرير الشام” باسم “أبو محمد الجولاني”.
وفي أواخر يناير/كانون الثاني 2025، بدأت الجماعة رسميًا بالإعلان عن وجودها ككيان منفصل، رغم ادعائها تنفيذ عمليات اغتيال منذ سقوط النظام، واستخدمت شعار “وقاتلوا المشركين كافة” وتنشر خطابًا معاديًا للحكم الجديد في سوريا وللأقليات.

يقود الجماعة “أبو عائشة الشامي”، فيما يشغل منصب الشرعي العام “أبو الفتح الشامي”، دون توفر معلومات مفصلة عنهما. وتقول الجماعة إنها تركز على استهداف العاملين في صفوف النظام السوري السابق وطوائف تُعتبر “مرتدة” من وجهة نظرها، كما تعتبر أن جنود الحكومة السورية الجديدة “واقعون في الكفر الأكبر”.
ولا تزال “سرايا أنصار السنة” مجموعة مجهولة العدد والمقرّ، وغير محددة التبعية التنظيمية، رغم إعلانها في 6 يونيو/حزيران 2025 عن انضمام “قرابة ألف مجاهد في ثغر من ثغور الشام”، وهو رقم يشكك فيه خبراء وباحثون، معتبرين أن الجماعة تبالغ في حجم الدعم والتأثير الميداني.
ورغم إعلان “سرايا أنصار السنة” مسؤوليتها عن عدة عمليات قتل وتصفيات لأفراد يصعب التحقق منها، كان الحدث الأبرز تبنيها تفجير كنيسة “مار إلياس” في منطقة الدويلعة بدمشق، الذي أسفر عن مقتل 25 شخصًا وإصابة 63 آخرين. في المقابل، أكد المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا، أن خلية تفجير الكنيسة تتبع تنظيم “الدولة الإسلامية” مباشرة، ولا علاقة لها بأي جهة دعوية، معتبرًا أن جماعة “أنصار السنة” فصيل وهمي.
وتبنّت الجماعة حرائق غابات القسطل بريف اللاذقية في يوليو/تموز 2025، التي امتدت لتشمل مناطق أخرى، وأسفرت عن احتراق أكثر من 15 ألف هكتار من الأراضي الزراعية والحراجية.
نشاط إعلامي أكبر من ميداني
وفق رصد “نون بوست” للنشاط الإعلامي لجماعة “سرايا أنصار السنة”، فإنه يلاحظ:
- كثرة المنشورات التي تتضمن إجابات وتوضيحات عن أسئلة شرعية، إلى جانب منشورات معادية ومكفّرة لحكومة أحمد الشرع.
- تباين اللغة والصياغة بين المنشورات، إلى جانب أخطاء لغوية في بعضها.
- انخراط الجماعة في سجال علني مع الشرعي “أبو يحيى الشامي”، وهو شرعي سابق انشق عن “هيئة تحرير الشام” منذ سنوات.
- انقطاع شبه كامل عن النشر لنحو شهرين، خاصة في قناة القسم الشرعي، خلال الفترة الممتدة بين أغسطس/آب وأكتوبر/تشرين الأول 2025.
- إنشاء قنوات جديدة على تطبيق “تلغرام” بشكل متكرر، مع محدودية التأثير، وإغلاق بعضها لاحقًا.
- اعتماد القنوات على إعادة نشر محتوى صادر عن جهات أخرى، بما في ذلك قنوات دعوية وإعلامية ومحلية عُرف عن بعضها خطاب تحريضي.
وفي يوليو/تموز 2025، أعلنت الجماعة عن تعيين قيادات في جناحها الإعلامي بأسماء حركية، وأطلقت مؤسسات إعلامية تمثلها، من بينها “العاديات الإعلامية” و”دابق الإعلامية” و”اليقين الإعلامية” (القسم الشرعي) و”صحيفة الشام”، مع منع إصدار أي محتوى باسم السرايا خارج هذه المؤسسات. ورغم هذه التعيينات، بقيت القنوات والمؤسسات في إطار التعداد الإعلامي والحضور المحدود.
واعتبرت الجماعة أن أي مخالفة تعد خروجًا عن الترتيب التنظيمي، وأخلت مسؤوليتها عن أي بيان أو إصدار يصدر من جهة غير معتمدة. ودعت أفرادها ممن يريد تنفيذ عمليات وهجمات في سوريا لأن يوثقها تحت مظلة الجماعة، إذ كتبت منشورًا أرفقته برابط “بوت” بعنوان “وثِّق عملياتك وضرباتك هنا”.
وتوعّدت الجماعة، في 14 من يونيو/حزيران الماضي، بنشر “فيديوهات توثيق عمليات الإعدام”، عند حصول الموافقة من قائدها، الشيخ “أبو عائشة الشامي”، مشيرة إلى أن “طرق الإعدام جديدة كليًا”.
وفي 15 من أكتوبر/تشرين الأول 2025، ظهر أربعة أشخاص ملثمين في تسجيل مصوّر نُسب إلى الجماعة ونُشر عبر معرفاتها، أعلنوا فيه بدء ما وصفوه بعمليات استهداف لمناطق وتجمعات تعود للطائفة العلوية، إضافة إلى كنائس ومدارس، في محافظات حمص وحماة وطرطوس واللاذقية. وتضمّن التسجيل خطابًا تعبويًا ذا طابع ديني وأيديولوجي، تضمن تهديدات واسعة وأهدافًا تتجاوز السياق المحلي وصولًا إلى القدس.
ويرى الباحث عبد الرحمن الحاج أن النصوص التي ينشرها شخص يسمي نفسه “الدكتور أبو الفتح الشامي” (في محاكاة لاسم الفاتح أبو محمد الجولاني) تصاغ بالاستعانة بالذكاء الصناعي، كما تنطوي النصوص على معرفة دينية غير متماسكة.
“جماعة لخلط الأوراق”
تحاول “سرايا أنصار السنة” شق طريقها في الساحة السورية، التي شهدت على مدى السنوات الماضية كثافة في وجود التنظيمات والفصائل، حيث برزت إعلاميًا في مرحلة ما بعد سقوط الأسد، في وقت تحاول فيه الحكومة السورية ضبط الأمن ومعالجة المشكلات الداخلية، بما فيها ملاحقة بقايا نظام الأسد ودمج “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في الجيش السوري.
التعليق الرسمي الوحيد عن “سرايا أنصار السنة” كان وصفها بأنها تنظيم وهمي، وجاء على لسان المتحدث باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا عقب تفجير انتحاري في كنيسة “مار إلياس” بالعاصمة، حيث أكدت وزارة الداخلية أن الخلية المسؤولة عن التفجير حينها تتبع تنظيم “الدولة الإسلامية” مباشرة، وأنه تم القبض على المتورطين، ونشرت صورهم.
وتُواصل وزارة الداخلية الإعلان عن القبض على أشخاص متورطين في أعمال تخريبية أو إجرامية أو خلايا تتبع تنظيم “الدولة الإسلامية”، كما أحبطت محاولات تفجير في دور عبادة، منها إفشال تفجير في مقام السيدة زينب في محيط دمشق، وكنيسة في معلولا بريف دمشق، وكنيسة “مار إلياس” بريف طرطوس.
View this post on Instagram
وبالنظر إلى ملامح الجماعة، يمكن اعتبار “سرايا أنصار السنة” إما عملية إعلامية، أو جماعة واجهة لتنظيم “الدولة الإسلامية”، أو مجموعة منشقة عن “هيئة تحرير الشام” عادت إلى التطرف السلفي الجهادي بعد سقوط نظام بشار الأسد، وفق تحليل المختص في شؤون الجماعات “الجهادية” في شمال إفريقيا وسوريا، آرون زيلين.
ويشير زيلين، في تحليله المنشور في يونيو/حزيران الماضي، إلى أن نهج الجماعة في استخدام “قائمة المطلوبين” على الإنترنت قد يشير إلى أن “سرايا أنصار السنة” تشكل شبكة لامركزية من أفراد منفردين أكثر مما هي منظمة رسمية.
ويؤكد الباحث عبد الرحمن الحاج لـ”نون بوست” غياب المؤشرات على وجود تنظيم حقيقي باسم “سرايا أنصار السنة”، فجميع الأدلة على مستوى الخطاب وتبني العمليات تشير إلى أن الجماعة مزيّفة، وغالبًا ما يكون وراءها ضباط من فلول نظام الأسد أو مرتبطون به، مضيفًا أن هذا التنظيم الافتراضي لا يشكل حتى الآن أي خطر ملموس على الأرض، سوى أنه يسعى لخلط الأوراق، ويبدو أن هذه هي المهمة الأساسية التي أُعلن عنه لأجلها.
وعلى الرغم من أن الجماعة يغلب عليها الطابع الوهمي، يشير الباحث إلى ضرورة أن تبقى الحكومة السورية محتاطة، معتبرًا أن نظام الأسد وإيران يمتلكان خبرة في التنظيمات الجهادية.
ويرى الباحث عبد الرحمن الحاج أن إعلان تشكيل “سرايا أنصار السنة” قبل خمسة أسابيع من اشتباكات شهدها الساحل السوري بين قوات الحكومة وفلول نظام الأسد، يعزز احتمال أن يكون جزء من هذه الفلول مرتبطًا بالجماعة أو وراءها، إلى جانب ما تحمله منشوراتها من لغة دينية متطرفة.
أما القيادي السابق في “تحرير الشام” والمنشق عنها، صالح الحموي، فذكر في منشور له أن فصيل “أنصار السنة” يشكل تنظيمًا رديفًا لتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، معتبرًا أن تنظيم “داعش” تعلم من أخطائه ولم يعد يتبنى كل العمليات العشوائية من تفجيرات. أما الشرعي السابق في “هيئة تحرير الشام”، “أبو يحيى الشامي”، فيرى أن جماعة “أنصار السنة” تمثل تنظيمًا خارجيًا يجمع بين الجهل والفساد، وأن طريقة نشاطه توحي بوجود عناصر مخابراتية مدربة تديره أو تعبث به.