حكاية اليوم عن شخصية نبغت بوضعها الأسس لممارسة تخصص كامل، البروفيسور التركي محمود غازي ياشارغيل، جراح أعصاب القرن ومؤسس علم جراحة المخ والأعصاب الدقيقة الحديث.
ولد محمود غازي ياشارغيل عام 1925 في دياربكر، والده كان قائمقام وانتقلت العائلة بعدها إلى أنقرة عندما كان محمود حديث الولادة.
خلال طفولته تعرضت العائلة إلى حادث أليم أثر على حياتهم ومن ثم مستقبلهم جميعًا، عندما توفي شقيقه إحسان بحمى التيفوئيد، ما جعل محمود غازي وأخويه إيرديم وغوناي مصممين على دراسة الطب وهذا ما حدث فعلًا.
تلقى محمود تعليمه الابتدائي والثانوي في أنقرة، والتحق بجامعة أنقرة لكن مستوى التعليم لم يكن يلبي الطموح الذي يريد، فسافر إلى ألمانيا عام 1944 والتحق بجامعة Friedrich Schiller المعروفة بجامعة جينا، في هذا الوقت كان العالم ككل وألمانيا خاصة متأثرًا بإسقاطات الحرب العالمية الثانية، ما دفع محمود غازي إلى ترك ألمانيا والسفر إلى سويسرا ليكمل مشواره الدراسي في جامعة بازل ويتخرج فيها عام 1949.
بعد إكماله الدراسة في بازل، بدأ ياشارغيل مطلع خمسينيات القرن الماضي بممارسة العمل في مجال جراحة المخ والأعصاب واستمر بالتوسع في دراسة تفاصيل التشريح الدقيق للمخ والأعصاب في جامعة بازل.
بعد مضي سنوات من الخبرة في مجاله الجراحي انتقل ياشارغيل إلى أمريكا عام 1965 ليحصل على تدريب أكثر احترافًا في الجراحة المجهرية للأوعية الدموية في بيرلينجتون، وبعد هذا التدريب الذي تلقاه، بدأ ياشارغيل بالعمل والدراسة على الشرايين الدماغية الوسطى للكلاب في نهاية عام 1966 الذي اعتبر فيما بعد ميلاد جراحة الأعصاب الدقيقة على يد محمود غازي يشارغيل.
صاحب ذلك سفره إلى جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية لتنظيم اجتماعات للكشف عن تقنياته الجديدة في الجراحة المجهرية وإقامة ورشات تدريبية للجراحين.
عام 1967 عاد ياشارغيل إلى سويسرا، ليبدأ رحلته في تأسيس المنهجية الجراحية الدقيقة للمخ والأعصاب، فانهمك في إجراء العمليات الدقيقة بزيورخ، حيث أجرى 103 عمليات في العام الأول وسرعان ما زاد العدد، ليوثق ما قام به في مؤلف من ستة مجلدات متخصص في جراحة المخ والأعصاب الدقيقة.
استمر ياشاغيل بالابتكار، ليضع أولى بصماته في هذا المجال بإدخاله المجهر العائم floating microscope ليجري أول جراحة للدماغ عن طريق المجهر عام 1967.
عند إجرائه لمثل هذا النوع من الجراحات المعقدة وجد أن الأدوات المتوافرة آنذاك لم تكن تفي بالغرض، فابتكر أدواته الخاصة، منها كماشة خاصة أسماها على اسم ابنته ليلى Leyla retractor، ومشابك خاصة لعلاج تمدد الأوعية ergonomic aneurysm clips.
عام 1973 حصل على لقب بروفيسور، وعين رئيسًا لقسم جراحة المخ والأعصاب في جامعة زيورخ حتى تقاعده عام 1993.
عام 1994 أصبح أستاذًا لجراحة الأعصاب في كلية الطب – جامعة أركنساس، ليستمر في التدريس والبحث فيها حتى تقاعده منها عام 2013، لكن رحلته في نشر العلم لم تنته حيث يواصل ما بدأه من كلية الطب بجامعة يدي تيبي منذ نوفمبر 2013.
جوائز وتكريمات
تكريمًا لمسيرته العظيمة، اختارته جمعية جراحي الأعصاب الأمريكية “رجل القرن” Neurosurgery’s Man of the Century 1950–1999، كما تم تسمية غازي ياشارغيل على اسم كرسي العلوم في عام 2002.
وتخليدًا للعالم التركي، تم إنشاء مختبرات الجراحة المجهرية (في أكسفورد/إنجلترا، ليتل روك/الولايات المتحدة الأمريكية وبكين/الصين) التي تحمل اسم غازي ياشارغيل.
أما جامعة أركنساس، فقد أنشأت مؤتمرًا سنويًا باسم “مؤتمر غازي ياشارغيل السنوي” كما حذت جامعة زيورخ حذوها بإنشاء مؤتمر سنوي أيضًا يحمل اسم البروفيسور ياشارغيل تقديرًا لإسهاماته.
بهذه المسيرة المشرفة حصل على أكثر من 25 جائزة دولية مثل: جائزة فوغت، جائزة روبرت بينج من أكاديمية العلوم الطبية السويسرية، جائزة الدولة السويسرية (مارسيل بينويست)، جائزة الجمعية الدولية للجراحة المجهرية أستراليا، ميدالية الشرف من جامعة نابولي، الميدالية الذهبية للاتحاد العالمي لجمعيات جراحة الأعصاب، لقب “جراح أعصاب القرن”، جائزة توبا، وسام الجمهورية التركية، جائزة فرانشيسكو دورانتي الدولية، ميدالية Puusepp الفخرية من جامعة تارتو-إستونيا، أول ميدالية ذهبية لأكاديمية جراحي الأعصاب العالمية، وسام الاستقلال من الدرجة الأولى لدولة الإمارات العربية المتحدة، جائزة الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا).
بالإضافة إلى حصوله على الدكتوراه الفخرية من العديد من الجامعات مثل جامعة أنقرة وجامعة إسطنبول جراح باشا وجامعة ليما في بيرو وجامعة هاجيتيبي وجامعة إزمير.
بهذه المسيرة المشرقة لأكثر من نصف قرن من العطاء الذي لا ينضب، استطاع البروفيسور محمود غازي ياشارغيل أن يؤسس علم جراحة الأعصاب الحديث، مجريًا آلاف العمليات لمرضى كان الطب قبله يائسًا من علاجهم، ناشرًا خبراته التي اكتسبها من خلال ما يزيد على 340 بحثًا علميًا وتدريبه لأكثر من 3000 جراح من القارات الخمسة.