أسهم العلماء المسلمون في تطور العلوم بشكل عام والفلك بشكل خاص لارتباطه الوثيق بالعبادات والشعائر وحاجتهم إلى تحديد مواقيت الصلاة واتجاه القبلة ومراقبة القمر لمعرفة بداية شهر الصيام ومواقيت الحج.
بالإضافة إلى حاجة المسلمين للفلك، فقد أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى ظواهر متعلقة بالأجرام السماوية والظواهر الكونية وسميت سور عديدة بالقرآن الكريم مثل سورة النجم وسورة القمر وسورة الشمس وغيرها من السور والآيات التي دفعت المسلمون للبحث والتفكّر.
من أعظم ما قامت به الحضارة الإسلامية في مجال الفلك هو وضع أسس هذا العلم، بنقله من الدجل والتنجيم الذي حرمه الإسلام إلى حيز العلم المبني على الرصد الفلكي، والدليل على ذلك عدد المراصد الكبيرة التي بناها الخلفاء والمنتشرة في مختلف المناطق، مثل جبل قاسيون في دمشق والشماسية في بغداد وسمرقند ومناطق أخرى غيرها.
بلغت إسهامات المسلمين في مجال الفلك أوج عطائها في عهد الخلفاء العباسيين، حيث وضع العلماء جداول الفلك التي عرفت بالجداول المأمونية نسبة إلى الخليفة المأمون، واستطاعوا معرفة قطر الأرض، وصنعوا أدوات مذهلة تساعدهم على الرصد وتسجيل النتائج بشكل دقيق، ولعل أشهرها الإسطرلاب الذي طورت نسخته المعقدة عالمة الفلك الشهيرة بمريم الإسطرلابي التي ولدت في سوريا مثل بطلة حكايتنا لهذا اليوم لكن قبل أحد عشر قرنًا.
حكايتنا اليوم عن عالمة الفيزياء السورية شادية رفاعي حبال التي نذرت حياتها للعلم ورصد الرياح الشمسية حتى حظيت بلقب سيدة الشمس.
ولدت شادية نعيم الرفاعي في مدينة حمص ضمن أسرة تضع العلم في أول اعتباراتها، والدها نعيم الرفاعي الرائد عربيًا في مجال الفلسفة وعلم النفس كان له التأثير الكبير على النزعة العلمية للعائلة.
كان لنشأة شادية المبكرة دور كبير في تحديد وجهتها مستقبلًا، فكانت دائمًا ما تطيل النظر إلى الأفق عبر شباك غرفتها متسائلة ماذا وراء ذلك الأفق؟ وهل هناك حدود للكون الذي نعرفه؟
بهذه التساؤلات التي راودت طفولتها وسير الناجحين الذين قرأت عنهم، أيقنت أن وسيلة الإجابة عن تساؤلاتها هي السير في طريق العلم، وبذلك أكملت مشوار دراستها الجامعية في تخصص علوم الفيزياء والرياضيات من جامعة دمشق لتلتحق بعدها بالجامعة الأمريكية في بيروت مع زوجها فواز حبال لتدرس الماجستير في الفيزياء النووية، ثم انتقلت بعدها إلى أمريكا للحصول على شهادة الدكتوراه في جامعة سنسناتي عام 1977.
بعد حصولها على الدكتوراه بعام، عملت الدكتورة شادية في هارفارد سميث سونيان للفيزياء الفلكية لعقدين (Harvard-Smithsonian Center for Astrophysics) ومنها انطلقت في أبحاثها المتخصصة في دراسة أصل وتطور الرياح الشمسية.
تأتي أهمية دراسة الرياح الشمسية Solar Wind نتيجة تأثيرها الكبير والمباشر على كوكبنا بمن فيه، لحسن الحظ فإن الغلاف الجوي المحيط بالأرض يحمينا من الرياح الشمسية، هذه الرياح هي التي تخلق الشفق القطبي المرئي بالقرب من المناطق القطبية للأرض، لكنها بالوقت ذاته تؤثر على مجال الأرض المغناطيسي، محدثة تأثير أو تعطيل للأقمار الاصطناعية الدائرة حول الأرض، وتقطع الإشارات التي تستخدمها السفن لمعرفة طريقها وتسبب قطع اتصالات الهواتف المحمولة التي نستخدمها وفشل شبكات الكهرباء الأرضية.
بتلك الأبحاث التي أجرتها الدكتورة شادية عن الرياح الشمسية التي تزيد على المئتي بحث، استطاعت أن تغير المفهوم السائد سابقًا عن مصدر الرياح الشمسية، واستطاعت التوصل إلى أن الرياح الشمسية تأتي من كل مكان في الشمس، هذا الاكتشاف لاقى جدلًا كبيرًا في الأوساط العلمية بين قبول ورفض وتشكيك، واستطاعت أن تحصل على تمويل لمجموعتها البحثية المسماة Solar Wind Sherpas من مؤسسة العلوم الوطنية ووكالة ناسا لمتابعة دراسة الهالة الشمسية التي لا يمكن رؤيتها إلا من الأرض خلال كسوف الشمس الكلي، ولمدة 15 عامًا راقبت الكسوف من بلدان عديدة مثل سوريا وليبيا والصومال.
بعد تلك الأبحاث التي توصلت إليها، أصبحت الدكتورة شادية أستاذة الفيزياء في ويلز عام 2000، وعملت محررة لمجلة فيزياء الفضاء وأبحاث الفيزياء الأرضية Journal of Geophysical Research من 2001 إلى 2005.
عام 2007 لعبت الأستاذة شادية دورًا رئيسًا في الإعداد لرحلة المسبار الشمسي لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا لجمع معلومات أكثر عن الشمس.
تستمر الدكتورة شادية إلى يومنا هذا في البحث والسفر لمراقبة ودراسة الرياح الشمسية مع فريقها بعد انضمامها إلى جامعة هاواي.
شادية حبال بكفاءتها العلمية استطاعت إذابة جميع المعيقات التي تقف أمام الطموح، وترسل رسالة للعالم أجمع مفادها أن العلم لا يشجع على التمييز ومتاح للجميع رجل كان أو امرأة.