“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى”.. تمثل هذه الآية الكريمة قاعدة عظيمة في أخلاقيات العطاء وأعمال البر، إذ تنهى عن كل أذى يمكن أن يرافق عملية تقديم الصدقة للفقير والمحتاج.
وخلال العقد الأخير، مع اشتعال الحروب في منطقتنا وتذرر النازحين وتشتت اللاجئين وتشييد المخيمات واستفحال الفقر، انتشرت الجمعيات الخيرية والمنظمات الإغاثية على امتداد الجغرافيا المنكوبة، تعتمد في الحشد لتمويل أنشطتها على شبكات التواصل الاجتماعي، تصور فعالياتها الخيرية وتماسها مع المحتاجين وتعرض صور أعضائها وهم يتفضلون على الفقراء وضحايا الأزمات في لحظة ضعفهم على الملأ، الأمر الذي فتح نقاشات وجدالات عن أخلاقيات العمل الإنساني وضوابط العاملين في حقول العطاء.
وقد مثلّت أنشطة توثيق توزيع الإغاثة أكبر خرق لأخلاقيات العمل الخيري، فباتت الكاميرا حاضرةً بكل فعالية إغاثية، لا تراعي خصوصية ولا تحترم ضعفًا، وإذا كان مفهوم في بعض الأحيان تصوير أنشطة توزيع الإغاثة لتوثيق العمل وضمان الشفافية، لتحتفظ المؤسسات بالصور كوثائق في أراشيفها أو تقدمها للجهات المانحة بشكل خاص، فإن ما يجري في كثير من الأحيان من استعراض مذّل للمحتاجين يمثل انتهاكًا جسيمًا لقيم العطاء وأخلاق المحسنين.
في هذا التقرير، نبحث “أخلاقيات العطاء”، ونحاول الإجابة على سؤال الخير في العمل الخيري والإنساني، محاولين تقديم تصور للمن والأذى الذي يرافق بعض أعمال الخير، لتجنبه، والإشارة لملامح الحالة الخيّرة في العطاء.
ما المسموح نشره عن العطاء؟
صارت مشاهد أعضاء الفرق ومنظمات يقدمون موادًا إغاثيةً بأشكالها المختلفة بطريقة فظة تتنافى والإحسان، لا بل إنها تهين المستفيدين، فيتم تصوير وجه المحتاج وهو يأخذ مبلغًا ماليًا أو طردًا من الطعام، فبالإضافة إلى فقره وحاجته يأتي من يريد إغاثته لإهانته بقصد أو ربما بغير قصد.
سألنا عبد الرزاق عوض المدير في منظمة “سيريا ريليف” العاملة في مناطق الشمال السوري، عن المسموح أخلاقيًا أن ينشره المانحون للفقراء أو المحتاجين فأجاب: “المسموح يختلف بطبيعة الداعم، هناك داعمون ليس لديهم حدود في نشر أي شيء والمهم أن يروا توثيق التبرعات التي قدموها، كما يوجد متبرعون لا يطلبون أي توثيقات وما يهمهم فقط أن يصل الدعم إلى مستحقيه، بالإضافة إلى وجود متبرعين لديهم قيود محددة تتعلق بكرامة المستفيد والحرص على شعوره وعدم إيذائه نفسيًا”.
يضيف عوض لـ”نون بوست”: “الأخلاقيات تفرض علينا أن نتعامل مع المحتاج وفق ما يحفظ كرامته وعزة نفسه، فلا نستطيع أن نعامله كسلعة وعرضها لنثبت أننا نعمل”.
حدود استخدام الكاميرا في التوثيق
محمد أبو الفوز نازح من ريف حماة إلى مخيمات الشمال السوري في منطقة أطمة، التي تعد أكبر تجمع للنازحين في سوريا كما يوجد بها مئات المخيمات، ولعلها القبلة الكبرى للداعمين والمانحين والمنظمات الخيرية والإنسانية، في حديثه لـ”نون بوست” يروي أنه في كثير من الأحيان تأتي الهيئات والمؤسسات لتوزيع بعض الحاجيات على سكان مخيمهم ويكون الإعلاميون وحاملو الكاميرات أكثر من عدد الموزعين.
يضيف أبو الفوز “هذا الأسلوب مهين جدًا في التعامل معنا كنازحين، لكننا أصبحنا نقول للمنظمات إذا أردتم تصويرنا فلن نأخذ منكم شيئًا، أنتم أتيتم لإعطائنا هذه المساعدة ولم تأتوا إلينا لإهانتنا”، وبالفعل يؤكد أبو الفوز أنهم لا يقبلون المساعدات من أحد يريد تصويرهم، خاصة أن هذه العوائل لولا تهجيرها ونزوحها لما كانت في حاجة وهنا يقول ضيفنا: “نحن أبناء عز ولم نمد يدنا يومًا لأحد، لكن الظرف الراهن تحكم بنا وجعلنا محتاجين”.
عن حدود استخدام الكاميرا بتوثيق الحالات الإغاثية توجهنا بالسؤال لسعد الوزان المتطوع في مشروع “نينوى أولًا” الإغاثي الذي يعمل في بعض المناطق العراقية ويجيب الوزان خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يجب استخدام الكاميرا من ظهر المستفيد، فيكون وجه الشخص العامل في الفريق أمام الكاميرا وظهر المستفيد على الكاميرا، أو مثلًا يتم توزيع الحاجيات ويكون المستفيد بجانب باب بيته بحيث لا يظهر وجهه”، يشير الوزان إلى وجود طرق أخرى للتوثيق الذي يحفظ كرامة الشخص المحتاج: “توجد طرق أخرى مثلًا طريقة التصوير بالطائرات المسيرة وهي بالأصل تصور من مكان عالٍ فلا يظهر وجه أحد ولا تظهر ملامح المستفيدين، لأننا نعتبر أن الشخص المستفيد لا يريد لأحد أن يرى أنه يتم مساعدته ويتم كسر خاطره”.
ويشير الوزان إلى أن التوزيع في المناطق المزدحمة التي تضم أعدادًا كبيرةً من المحتاجين يجب أن يتم في الليل، بحيث لا تظهر الملامح كاملة للأشخاص المستفيدين.
محددات منح الناس
كثيرًا ما تقع المنظمات والأشخاص المانحون في أخطاء مثل منح ناس دون غيرهم، وأحيانًا يُعطى من ليس بحاجة ويترك من هو بحاجة وعوز، فما المعايير التي تجعل المانحين يعطون شخصًا دون آخر، عن هذا السؤال أجابنا عبد الرزاق عوض فقال: “بشكل عام هي الحاجة من تجعلنا نمنح أناسًا دون غيرهم، تقدير الحاجة عند الناس حسب طبيعة الدعم المقدّم، يعني مثلًا يوجد دعم للأرامل ودعم للأيتام كما يوجد دعم مخصص لذوي الاحتياجات الخاصة، ودعم مخصص للفقراء بشكل عام، فحسب طبيعة الدعم ومعايير الاستهداف يكون التمييز بين الناس بالمنح”، ويشير إلى أن “المساعدات تتم على أساس احترام المبادئ الإنسانية التي تقتضي تقديم تلك المساعدات بشكل نزيه إلى الضحايا و المحتاجين وفق معيار الحاجة و دون انتقائية أو تمييز بينهم بحسب أصولهم أو معتقداتهم أو توجهاتهم السياسية أو غيرها من الاعتبارات.”.
يوافق سعد الوزان على ما قاله عوض عن معايير المنح ويروي تجربتهم في مشروعهم “نينوى أولًا” ويشير إلى أنهم “صمموا برنامجًا يعتمد على إدخال بيانات للعوائل المحتاجة وفي كل معلومة يتم إدخالها تزداد النقاط والأشخاص الأعلى نقاطًا يحصلون على المساعدات”، يشرح الوزان أكثر: “إذا كانت العائلة المحتاجة تضم أرملةً فيزيد عدد النقاط أو عدد الأطفال أو وجود شهيد، كما تلعب ملكية المنزل دورًا في تحديد الأمر إن مملوكًا أو إيجارًا، فالعائلة التي تدفع مبلغًا مقابل إيجار المنزل تكون نقاطها أعلى”.
يضيف الوزان أيضًا أنهم عبر برنامجهم يستطيعون تحديد شكل المساعدة فتكون إما نقدية وإما طبية وإما إغاثية، فلا تذهب المساعدات العينية إلى من يحتاج علاجًا، وهنا نستطيع الحديث عن أن موافقة الاحتياجات مع العطاء هي من أهم أخلاقيات العمل الخيري، وأتذكر هنا موقفًا لهيئات الأمم المتحدة العاملة في دمشق التي كانت تُدخل المواد الإغاثية للمناطق التي يحاصرها جيش بشار الأسد، فكانت تُدخل أشياء لا حاجة للناس المحاصرين بها، فمثلًا أدخلت “ناموسيات” وهي أقمشة تقي من لدغة البعوض لمدينة داريا التي لم تستطع أن تدخل إليها الطعام في أوج حاجتها إليه.
مما تقدم فإن للعطاء وأعمال الخير والمساعدة طرقًا لكي تكون منضبطة بأخلاقيات ومبادئ تجعلها تخدم الغرض المرجو منها، ولعلّ أهم هذه الضوابط هو احترام خصوصية المُحتاج وعدم امتهان كرامته بأي طريقة كانت، وهو الأمر الذي نصت عليه النصوص الشرعية ومواثيق الأعمال الإنسانية الدولية.