سنكتب أن الربيع العربي لم يُنتج ثورته الثقافية بعد، حتى نحتفظ بشيء من أمل أن لن نظل في النص السياسي اليومي المميت، حيث استولى الاهتمام السياسي على كل المشاغل، فأغلب ما يمرّ بنا منشور في الفضاء العام بكل أشكال النشر، مهموم بالسياسي، يتابَع بالتحليل مرة وبالتوجيه مرات، وهو ما منع في تقديرنا حدوث ثورة ثقافية مشابهة لتلك الموجة الخلّاقة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى في الثقافة العربية.
ويوشك القرن أن يكتمل في كامل منطقة الثقافة العربية، ونحن نعيش بعد على تلك البدايات التي انطلقت تحت الاستعمار المباشر، نثير هنا إشكالات بحث ولا ندّعي وضع إجابات عليمة.
ثورة ثقافية عربية تحت الاحتلال
لا نزعم هنا التأريخ للثقافة العربية الحديثة، فهو همّ يتجاوز قدرتنا، لكن عندما نسترجع ثورة 1919 في مصر، ونستعيد مرحلة نشأة الأحزاب والنقابات في تونس في العشرينيات (كمثالَين من كل المنطقة)، نجدُ أن بدايات عبقرية قد أعطت توجهات كبرى، وخرج منها أعلام في الأدب والشعر والموسيقى والغناء، فضلًا عن السياسة.
وتلك البدايات العبقرية لا تزال تؤثِّر وتوجِّه رغم تباعُد الزمن، حيث يكفي أن نقيس مكانة أم كلثوم في نفوس العرب بعد قرن لنقدّر أهمية مرحلة التأسيس.
في سياق هذه التأمّلات، كان يُنتظَر أن تقود الأنظمة التي تصدّت لبناء الدول الحديثة ثورة ثقافية ثانية، تمتلك من أسباب القوة أكثر ممّا ملك المؤسّسون تحت الاحتلال.
لكن تبدو لنا مرحلة الاستقلال السياسي مرحلة فقيرة ثقافيًّا، سيطرت عليها صِيَغ رسمية مملاة من الأنظمة، وتصدّرها مثقفون موالون تحكّموا في مساحات الحرية والإبداع، وجيّروا الفعل الثقافي لصالح الأنظمة، فلم يَعْدُ المنتج الثقافي موجات من الثقافة الدعائية المؤدلجة.
في هذه المرحلة وفدت تيارات فكرية وثقافية على منطقة الثقافة العربية، أهمها المرجعيات الثقافة اليسارية التي أنشأت لها منطقة نفوذ مستقلة عن ثقافة الدولة الرسمية، واتخذت في الغالب موقع المعارضة لثقافة الدولة، ومنحت لنفسها ولأعلامها مكانة فوق النقد، ثم حوّلت رموزها الثقافية إلى أوثان مقدسة.
انبنى وهيمن نتيجة لذلك وهمٌ كبير مفاده أن الثقافة الحقيقية هي الثقافة اليسارية التقدمية، وكل ما عداها لغو رجعي يؤبّد التخلف، وزاد في تأكيد حدود هذه الجزيرة الثقافية ظهور تيارات الإسلام السياسي بمرجعياتها القيمية المنغلقة ضد الثقافة الحديثة، والتي يسيطر فيها خطاب التحريم على خطاب الإبداع.
بنى الإسلاميون، خاصة بعد السبعينيات، جزيرة أخرى خالية من الثقافة، زادت في غرور سكان الجزيرة الثقافية اليسارية التي تمتّعت بتفوقها على مثقفي السلطة وعلى جماعات الإسلام السياسي المنكرة للتحديث الثقافي.
خريطة الثقافة العربية فجر الربيع العربي
يمكن القول إن الخريطة الثقافية صبيحة الربيع العربي كانت جامدة إبداعيًّا، وكانت تكرر نفسها كناعورة ثابتة تراكمت فيها المراجع دون أن تصل إلى خلق منتَج مشترَك، فظلّت الجزر الثقافية على حالها.
وحتى محاولات الإسلام السياسي الخروج من منطقة التحريم إلى منطقة الإبداع ظلت محكومة بمحددات أخلاقية جامدة، زادها جمودًا ظهور تيارات سلفية أشد انغلاقًا وعداءً للثقافة الحديثة التي استحوذ عليها يسار عربي بدأ بروليتاريًّا وانتهى برجوازيًّا، استعاد في مواقع كثيرة ثقافة المحتل القديم وروّج لها بصفتها عنوان التقدم ومعاداة الرجعية الدينية، أما الأنظمة الحاكمة فقد نسيت الفعل الثقافي وهمّشته، مكتفية بتمتين جهاز الرقابة على كل لسان وقلم.
كانت الثقافة العربية تستقبل موجات عابرة من الفعل الثقافي الكوني فلا تهضمها، لذلك لم تستقر بها أية موجة مثل موجة موسيقى الراب أو رقص البريك دانس أو الموسيقى الإيقاعية الصاخبة، في المجمل ثقافة لا تتجدد من داخلها ولا تتفاعل من موقع المؤثر على ما يفد عليها من تيارات في عالم ثقافي معولم.
استقرت الذائقة عند شعراء “أرباب” لا يُنقَدُون، وروائيون لا تُمَسُّ مواقعهم إلا بالتمجيد الأكاديمي، وظهرت موجات غناء لا يسمعها الناس مرّتَين، فكأن التطور التقني أدى إلى سرعة التخلي والتجاوز لكن دون خلق وابتكار يخلد ويدوم.
كأن مثقف السلطة قد تحول إلى مثقف بوليس، وتحول المثقف اليساري إلى مثقف سلفي تقدمي، بينما هرب المثقف الإسلامي من سجونه إلى منافٍ لا يتوفّر فيها الخبز، وكان الربيع العربي يدعو إلى ثورة ثقافية لم يحسن التعبير عنها في لحظة الثورة، حتى أن أهازيجه كانت إعادة توزيع أغانٍ قديمة بكلمات جديدة فاقدة للوزن.
هل ستحدث هذه الثورة يومًا؟
النكسات السياسية، خاصة في تونس ومصر، فرضت مرة أخرى هيمنة السياسي اليومي، وانشغل الناس بقراءة ما يجري وبالأحرى ما يدبَّر لهم من مكائد على يد الأنظمة العائدة بلا برنامج، سوى قمع شعوبها وتجويعها لتتحول إلى سوائم لاهثة وراء الأكل والدواء، لذلك إن انتظار ثورة ثقافية في مثل هذا الوضع هو نوع من الترف الفكري، إنه بمثابة طلب توفير التحلية دون توفير الوجبة الرئيسية.
لم يُسمَح للربيع العربي أن يتحول إلى محفّز ثقافي يكسر الجمود السائد، ويفتح الجزر الثقافية على بعضها، ويعيد ترتيب المرجعيات على أساس إبداعي، لذلك نستشعر عودة البكائيات والمراثي الشعرية التي يتقنها المثقف اليساري، والتي تدرّب عليها جيدًا بعد هزيمة 67، رغم أن هذا المثقف في الأعم المطلق انحاز لحركة الردة على الثورة، ودافع عن العسكر في نفس الوقت الذي يسوّق لخطابه المشفق على الفقراء، في نغمة مكررة فقدت قدرتها على التأثير والإقناع بصدقها.
في تونس، وهي ساحة أعرف كثيرًا من تفاصيلها، توجد موجة من الكتّاب الإسلاميين الذين أقرّوا لأنفسهم حقّ الكتابة، لكنها لا تزال موجة تندب حظها العاثر في ما يُسمّى بأدب السجون، ولم يخرج الكتّاب والشعراء من رثاء أنفسهم، أو تمجيد بطولاتهم في زمن القمع.
هذه ليست ثورة ثقافية ولا يمكن مقارنتها بثورة 1919 في مصر التي عمرت قرنًا ولا نزال نعيش بكرمها، هل تتأخر الثورات الثقافية وتأتي لاحقة للثورات السياسية؟ هذه إحدى مسلّمات الحقل الثقافي المتداولة، لكن الفصل بين الثقافي والسياسي يعطّل السياسي والثقافي معًا، ويجعل كل حراك قاصرًا بلا مضمون تغيير فعّال، وإنما مجرد تموج قشري لا ينفذ إلى بناء مشروع ثورة.
حتى اللحظة يأخذنا السياسي من الثقافي، وندخل مع اللاهثين وراء الخبز والدواء، فالردّة العربية على الربيع العربي عرفت قيمة الثقافي المؤسّس فقطعت عليه الطريق، ولعلّ في ذلك خير، فقد أخذت في طريقها سكان جزيرة اليسار الثقافي المتباكين على الفقراء على مائدة حكّام الردة العرب.