على مرّ التاريخ، لم يرتبط أي حاكم لمصر بالسودان مثلما ارتبط به محمد نجيب، واللافت أن نجيب كان الشخصية المصرية الوحيدة التي لاقت قبولًا واحترامًا عند غالبية القيادة السودانية، ولا يزال السودانيون يعدونه سودانيًّا أكثر من كونه مصريًّا.
وفي الوقت الذي شُطب فيه اسم نجيب من الذاكرة المصرية وكأنه لم يكن موجودًا، أطلق السودانيون اسمه على أكبر شوارع العاصمة الخرطوم.
العسكري غير النمطي
يعدّ الرئيس المصري محمد نجيب نموذجًا مصريًّا استثنائيًّا في فهم أزمات السودان وكيفية التعامل مع الجار الجنوبي، وفي الواقع لم يكن نجيب مجرد قائد في السودان يقوم بأداء مهامه العسكرية، بل كان محتكًّا بأحوال المجتمع السوداني وخبايا الحياة هناك، إذ كان دائم الطواف بين أنحاء السودان ومختلطًا بين مختلف طبقات السودانيين، الأمر الذي أكسبه تجربة ميدانية وخبرة بالسوادن وأهله.
أضف إلى ذلك، أن نجيب كان شغوفًا بالعلم ولديه بالفعل ثقافة واسعة، فقد حصل على 4 شهادات تعليمية، الحقوق والحربية والبوليس والتدريس، كما استكمل دراسته العليا في الاقتصاد السياسي والقانون، وكان قد بدأ في إعداد رسالة الدكتوراه، لكن رفاقه في مجلس الضباط الأحرار بعد ذلك وضعوه تحت الإقامة الجبرية ولم يسمحوا له باستكمال رسالة الدكتوراه التي كان قد بدأها بالفعل.
كتاب “رسالة عن السودان” لمحمد نجيب، كتبه عام 1943.
وحين كان نجيب ضابطًا برتبة البكباشي في سلاح الحدود، كتب كتابًا عام 1943 أسماه “رسالة عن السودان”، وقد تضمن 3 دراسات موجزة، هي “ماذا يجري في السودان؟” و”يد الاستعمار على حدود السودان” و”اللغة والأدب في جنوب الوادي”.
أراد نجيب من خلال دراساته الثلاث تعريف المجتمع المصري بأهمية ووضع السودان، فشرح الوضع الدولي في السودان وأطراف الصراع وأوضاع الزعامات الدينية والقَبَلية والتيارات السياسية المختلفة في السودان، والخلفية التاريخية للأحزاب السياسية السودانية، بجانب كشفه خطط الاحتلال الإنجليزي لتمزيق السودان، وموقف كل حزب من الوحدة مع مصر، كما قام بوضع اقتراحات للتنسيق مع القيادات السودانية من أجل الجهاد ضد الاحتلال البريطاني.
أيضًا تطرّق نجيب إلى الأدب والثقافة السودانيَّين، وفي لافتة غاية في الأهمية حاول نجيب تقصّي الأسباب التي قد توتر علاقة المصريين بالسودانيين، ولذا خصّص فصلًا كاملًا عنونه باسم “ما يأخذه علينا إخواننا السودانيون”، وقد كتبه بناءً على دراسة ميدانية قام بها.
في حقيقة الأمر، أراد نجيب توثيق عُرى الصلات الطبيعية والثقافية بين مصر والسودان، ولذلك حاول أن يفهم كل المشكلات التي قد تنشأ بين الشعبَين، وبعد النظر فيهما قام بوضع استنتاجاته التحليلية وقدّم مقترحاته وكيفية معالجة التوترات مستقبلًا.
الرئيس المصري محمد نجيب ضحية نظام يوليو 1952.
ويرى نجيب أن بريطانيا احتلت السودان للتحكم في مياه النيل، ونهب ثروات السودان الطبيعة كالذهب، والسيطرة على جنوب أفريقيا، ومنع انتشار الإسلام جنوبًا، فبحسب نجيب حرص الإنجليز على إرسال المنظمات التبشيرية إلى الجنوب وتقوية الجنوبيين من أجل إخضاع الشماليين عند اللزوم.
ويؤكد نجيب أن الإنجليز وضعوا قيودًا في الجنوب تمنع اختلاط الشماليين بالجنوبيين، وقد وجد بنفسه أن أهل جنوب السودان يميلون إلى الاستقلال عن الشمال بسبب السياسة التي يقوم بها الإنجليز، ويعقب:
“لو أتيح للإسلام ما أتيح للمسيحية من انتشار في جنوب السودان، لوحّد الإسلام صفوفهم، لكن لا بدَّ أن يصبح لانتشار الإرساليات التبشيرية المسيحية في الجنوب أثرها في جعل أهله أقرب إلى الخنوع والاستسلام للبريطانيين، وهذه الإرساليات تعمل لتحقيق سياسة الاستعمار أكثر من تبشيرها بالدين”، (ص 31).
كبار الشخصيات السودانية في بيت محمد نجيب بسراي القبة عام 1940.
تنبّه البريطانيون لنشاطات نجيب عن السودان وأهله، ومحاولاته الناجحة التي وحّد فيها السودانيين في صف واحد، بجانب إقامته صداقات وعلاقات ودّية مع كل القيادات السودانية، حتى مع من كانوا يختلفون معه في الرأي والهدف، وكان نجيب يستضيفهم في بيته بالقاهرة، ومعظم القيادات السودانية القادمة إلى مصر كانت تحرص على زيارة نجيب، بل أن بيت نجيب كان مفتوحًا لكل سوداني يفد إلى مصر.
وفد سوداني بمنزل نجيب محمد بسراي القبة ومن بينهم إسماعيل الأزهري رئيس أول حكومة منتخبة في السودان.
ويلاحَظ من كتابات نجيب عن السودان إدراكه لمخططات تقسيم السودان ودور المنظمات التبشيرية في جنوبه، كما وقف على مشاكل دارفور، وتنبّأ بانفصاله مستقبلًا إذا لم تتدارك مشاكله، ويرى نجيب أن انفصال البلدَين، السودان ومصر، هو تحقيق لمطامع الاحتلال الإنجليزي، وفي هذا يقول:
“إذا وصل السودان إلى عنفوان قوته وثروته، فلن يتركوه يصل إلى أوج مجده وعزته، وهم كي يستطيعون حكمه، لا بدَّ لهم من تقسيمه.. لا بدَّ لهم من فصل السودان عن مصر أولًا، ثم تمزيقه إربًا ليجعلوا منه هندًا ثانية، ثم إيقاع العداوة والبغضاء بين مصر والسودان، بل وبين أجزاء السودان المختلفة، وليس أسهل عليهم من إحداث الشقاق، فهم أساطين مذهب فرّق تسد الذين حرّضوا ولايات الإمبراطورية العثمانية على خليفة المسلمين”، (ص 18، 21).
جاء على رأس مقترحات نجيب التي قدمها إلى القيادة المصرية، دراسة شتى النواحي الثقافية والاقتصادية المشتركة بين البلدَين، ويلاحظ عنايته بالبُعد الاقتصادي والاجتماعي، إذ يقترح على الحكومة المصرية إنشاء خط سكة حديد يربط السودان بمصر.
كما يقترح نجيب ضرورة أن ترسل مصر بعثات إسلامية لمواجهة المدّ التبشيري في السودان، ويرى أن الإنجليز عملوا على خلق طبقة سودانية مثقفة، وصبغوهم على حد تعبيره بالصبغة البريطانية ليسخّروهم في تنفيذ مآربهم، ولذا اقترح إنشاء مؤسسات إعلامية ومستشفيات ومكتبات ومدارس ومعاهد علمية ومصانع في السودان لتقوية الروابط بين البلدَين، بجانب تأكيده على ضرورة تمثيل السودانيين في البرلمان المصري وإعطائهم وزارتَين في الحكومة، ويعقب نجيب:
“ومع أن لمصر مكاتب للسياحة في باريس ولندن وغيرهما من العواصم الأوروبية، فليس لها مكتب واحد للدعاية لها في السودان، أو هيئة واحدة في مصر لتنوير الأذهان عن شؤونه”، (ص 36).
عابَ نجيب على المصريين جمودهم في العلاقة مع السودانيين وإهمال تقوية الروابط معهم، كما يرى أن المصري يعرف عن أمريكا وأوروبا أكثر ممّا يعرف عن السودان وأهله، وبحسب نجيب نجحت بريطانيا في توتير علاقة السودانيين بالمصريين.
فعلى سبيل المثال، يذكر نجيب أن بريطانيا جنّدت جنودًا سودانيين لاستخدامهم خصيصًا في قمع المظاهرات في مصر، كذلك استخدمت بريطانيا جنودًا مصريين لمحاربة الثورة المهدية في السودان، ما ترك أسوأ الأثر في نفوس أبناء البلدَين، بل إن سياسة الإنجليز كانت تفرّق بين الطلبة المصريين والسودانيين بالمدارس والكليات، ومنع كل اختلاط بينهم حتى في الصلاة، ويقول نجيب في دراسته “ماذا يجري في السودان”:
“إننا في أشد الحاجة إلى تلقين أحوال السودان وشؤونه كجغرافيته وتاريخه واجتماعياته لأبناء مصر من طلبة العلم وعامة الشعب.. وبينما لا ينقطع سيل الزوار السودانيين لمصر طوال العام، فإنه يندر أن يفكر مصري في زيارة السودان أو حتى قراءة الصحف السودانية لمعرفة أحوله، مع ما لذلك من أثر عظيم في تقوية الروابط”، (ص 15).
وحين وقعت حرب فلسطين عام 1948، أصرَّ نجيب على أن يكون في الصفوف الأولى المقاتلة، وخاض 21 معركة، وعمل العديد من الضباط السودانيين تحت قيادته، ويبدو أن عُرى الصداقة والحب بينهم كانت قوية، إذ يذكر نجيب في مذكراته القصائد التي جادت بها قريحة الضباط السودانيين وإعجابه بها.
وقد أصيب نجيب في حرب 1948 ثلاث مرات، في أحدها أُصيب برصاصة عندما حاول أن ينقذ أحد جنوده، وحينما اختبأ خلف شجرة والدم ينزف من صدره، كتب وصيته ورغبته الأخيرة، والتي تمنّى فيها أن ينتقم من الهزيمة في فلسطين ويجاهد من أجل وحدة وادي النيل، مثلما يحكي في مذكراته الأخيرة “كنت رئيسًا لمصر”.
محمد نجيب بين ثلة من الضباط والجنود السودانيين المتطوعين ممّن كانوا تحت قيادته في حرب فلسطين عام 1948.
ورغم استقرار نجيب في القاهرة، فإن صلاتة وعواطفه بالسودان لم تنقطع يومًا، فقد نشأ وترعرع فيه جزء من حياته الأولى وعاد إليه بعد ذلك ضابطًا وسياسيًّا كبيرًا، ولم يعتبر السودان مجرد فصل في حياته فقط إنما فصلًا من حياة مصر، ولم ينظر أيضًا إلى السودان بثقافة الاستعلاء إنما بثقافة الإخاء والمحبة.
ويلاحظ أن السودان حاضرة بشكل أساسي في ذهن نجيب حتى في أيامه الأخيرة، فحين تكلم عن نفسه في مذكراته الأخيرة، استعرض تاريخ عائلته في السودان، وعندما أرسل نسخة من كتابه “كلمتي للتاريخ” للرئيس المخلوع حسني مبارك، كتب له في إهداء الكتاب: “أوصيك بالسودان خيرًا”.
واللافت أن نجيب أوصى بأن يدفَن جثمانه في السودان بجوار قبر والده اليوزباشي “يوسف نجيب”، لكن على الرغم من وصيته دُفن بمصر.
قبر محمد نجيب في القاهرة. (الصورة بعدسة الكاتب)
لا وحدة بلا نجيب
حين وقع انقلاب الضباط الأحرار في يوليو/ تموز 1952، فرح السودانيون وأظهروا تعاطفًا كبيرًا مع الضباط بسبب وجود محمد نجيب على رأسهم، وقد نجح نجيب ساعتها في توحيد أكثر من 6 فصائل سودانية في حزب واحد، وأُعلن قيام الحزب الوطني الاتحادي الذي أقام سياسته على الوحدة مع مصر، وجرت أول انتخابات ديمقراطية في السودان في ديسمبر/ كانون الأول 1953، واستطاع الحزب الوطني الاتحادي أن يفوز بهذه الانتخابات.
لكن التطورات السياسية التي حدثت في مصر بعد ذلك، وعزل الضباط الأحرار لمحمد نجيب من منصبه بطريقة مهينة ورميه في الإقامة الجبرية، كان لهما أثر سيّئ على غالبية الشعب السوداني الذي كان يميل إلى نجيب، المُدافع الأكبر عن وحدة وادي النيل والوجه المحبوب في السودان.
وبعد عزل نجيب في القاهرة، عمّت المظاهرات شوارع السودان وهتف المتظاهرون “لا وحدة بلا نجيب”، لكن لم يهتم أي أحد من مجلس الضباط بمصر بهذه المظاهرات ولا بما تعنيه، وبدلًا من الاستفادة من علاقة محمد نجيب الطيبة مع القيادة السودانية، حدث العكس تمامًا، وجرى التصرف بمنتهى الاستعلاء والعشوائية، ولذلك قال أحد شعراء السودان يرثي نجيب:
إن كان مثلك يا نجيب ** فما الضمان أن لا نضام ونقهرا
يقصد الشاعر أنه إذا تم التعامل بهذه الطريقة المهينة مع محمد نجيب، فما الضمان ألّا يتم إهانة الشعب السوداني الذي بدأ ساعتها في كره الوحدة مع مصر بسبب سياسة الضباط الأحرار الاستبدادية، وبالتالي رفض السودانيون الاتحاد مع مصر من منطلق أن النظام السياسي في مصر استبدادي، فلماذا يلحقون أنفسهم به؟
يبدو أن نجيب ظنَّ أن مجلس الضباط بمصر سيأخدون العلاقة الطيبة مع السودانيين بعين الاعتبار، ثم يتخلصون منه بعد أن تنتهي مسألة الوحدة مع السودان، لكن ما لم يدركه نجيب بطل الوقت الضائع وقتها، هو أن التمسُّك بكراسي الحكم في مصر كان أقوى من التمسُّك بالوحدة مع السودان، وعلى حد تعبير نجيب “فقد ضاع السودان وضاعت الديمقراطية”.