دخل الصراع في ليبيا دخل مرحلة جديدة بعد مغادرة القائد العسكري المنشق خليفة حفتر لمحادثات موسكو في 13 من يناير دون توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعه فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوفاق الوطني.
وبعدها استضافت ألمانيا محادثات جديدة في برلين بهدف دفع الأطراف المتحاربة في ليبيا إلى التوصل لاتفاق دائم لوقف إطلاق النار وفرض حظر على الأسلحة من أجل تشكيل قرار سياسي جديد يمكن أن يتفق عليه الطرفان، ولكن المؤشرات الأخيرة تشير إلى أن مخاطر فشل مخرجات برلين تبقى كبيرة، خاصة بعد تعرض مطار طرابلس يوم الأربعاء (22 من يناير/كانون ثاني) إلى هجوم من قوات حفتر.
وقبل ذلك، وتحديدًا في الـ2 من شهر يناير/كانون الثاني الماضي، أقر البرلمان التركي بأغلبية كبيرة مشروع قانون يسمح بنشر قوات عسكرية تركية في ليبيا لدعم حكومة الوفاق الوطني في طرابلس التي تعترف بها الأمم المتحدة، وذلك بناءً على طلب رسمي قدمته ليبيا للحصول على دعم عسكري من تركيا.
هذه الأحداث تشبه إلى حد بعيد ما حدث في اليمن عام 2015، عندما دعا الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي دول مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية إلى التدخل في بلده ومساعدة حكومته المعترف بها دوليًا على محاربة جماعة المتمردين الحوثيين، وبناءً على تلك الدعوة شكلت السعودية تحالفًا عربيًا وقادت تدخلًا عسكريًا كبيرًا في اليمن أُعلن رسميًا في الـ25 من شهر مارس 2015.
وبعد خمس سنوات من الحرب في اليمن، نستعرض هنا بعض الدروس المستفادة من تدخل قوات التحالف العربي في اليمن ليتمكن صناع القرار التركي من الاستفادة من تجارب الآخرين في الحرب في اليمن وتجاوز الأخطاء التي وقع فيها التحالف العربي.
دعم محدد زمنيًا
زعم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال مقابلة تليفزيونية مع قناة الإخبارية السعودية أن “المملكة العربية السعودية قادرة على هزيمة الحوثيين في غضون أيام قليلة”، ولكن بعد خمس سنوات من الحرب، يبدو أن ذلك الكلام كان نوعًا من أحلام اليقظة.
في اليمن، فَوَّض الرئيس اليمني المملكة العربية السعودية بالتدخل العسكري في اليمن بهدف دحر الحوثيين، ولكن هذا التفويض صاحبه الكثير من المشاكل القانونية، فقد تم اتخاذ هذا القرار بشكل شخصي للرئيس هادي دون استشارة البرلمان – التابع للشرعية – أو طلب الموافقة عليه، كما أن التفويض لم يحدد فترة زمنية معينة، مما أدى إلى تمادي بعض الدول المشاركة في التحالف العربي، وخاصة الإمارات، وسعيها نحو إطالة أمد الحرب بهدف تحقيق مصالحها الشخصية وتقويض وحدة اليمن.
وفي ليبيا، فقد حاولت القوى الوطنية منذ الإطاحة بالزعيم السابق معمر القذافي في أكتوبر 2011، إعادة بناء مؤسسات الدولة ولكن دون جدوى، ففي يوليو 2012، سلمت الحكومة الانتقالية في ليبيا السلطة إلى المؤتمر الوطني العام المنتخب، لكنه واجه العديد من التحديات على مدى العامين التاليين، بما في ذلك هجوم سبتمبر 2012 الذي شنه متشددون على القنصلية الأمريكية في بنغازي، وكذلك انتشار تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات المسلحة الأخرى في جميع أنحاء البلاد.
وبما أن تركيا قررت التدخل في ليبيا لمساندة حكومة الوفاق الوطني، فعليها أن تتنبه جيدًا لأهمية عامل الوقت في التدخلات بالشرق الأوسط، وأن تمتلك خطة زمنية واضحة لماهية التدخل وإلا قد ينتهي بها الحال إلى سنوات أخرى من الضياع في تلك البلاد الكبيرة.
تمكنت تركيا من دفع الأطراف المتحاربة إلى الجلوس في محادثات لوقف إطلاق النار بموسكو التي رفض فيها حفتر التوقيع على الاتفاقية، ثم تلاها بأسبوع واحد فقط مشاركة تركيا في مؤتمر برلين
يميل أمراء الحرب المحليين والدوليين – وهذه عادتهم – إلى كسب المزيد من الوقت باستخدام الأعذار الإنسانية أو الموافقة الخادعة على اتفاقيات هشة لوقف إطلاق النار أو الهروب من مواجهة الواقع إلى المشاركة في مؤتمرات تلو المؤتمرات بهدف إعادة ترتيب الأوضاع على الأرض، وخير مثال على ذلك العشرات من المؤتمرات الدولية الخاصة بسوريا واليمن.
وبالنظر إلى مواقف تركيا حيال الأزمة الليبية نجد أن تركيا مدركة تمامًا لأهمية عامل الوقت، ففي غضون أسابيع قليلة، دعت الحكومة التركية البرلمان إلى اجتماع استثنائي في الـ2 من يناير/كانون الثاني الماضي، تم فيه منح الشرعية القانونية المطلوبة للتدخل التركي، كما حدد البرلمان فترة عام واحد فقط – قابلة للتجديد بعد موافقة البرلمان مرة أخرى – كأقصى فترة زمنية للتدخل، كما تمكنت تركيا من دفع الأطراف المتحاربة إلى الجلوس في محادثات لوقف إطلاق النار في موسكو التي رفض فيها حفتر التوقيع على الاتفاقية، ثم تلاها بأسبوع واحد فقط مشاركة تركيا في مؤتمر برلين، وبنفس الطريقة شاهدنا رد تركيا السريع عقب الخلاف الخليجي بين قطر وثلاث من دول مجلس التعاون الخليجي عام 2017. كل تلك الشواهد تشير إلى فهم تركيا التام للعبة الوقت التي يتبعها أمراء الحرب، ولكن يجب عليها أن تبقى متيقظة لهذا العامل المهم في جميع تحركاتها على المستوى الدولي والمحلي داخل ليبيا.
تجنب الأزمات الإنسانية
كان لتدخل التحالف العربي في اليمن العديد من الآثار الجانبية، حيث تسبب في أزمة إنسانية هائلة وصفتها الأمم المتحدة بأنها “أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ”، مما دعا إلى التشكيك في طبيعة وهدف الشراكة بين الحكومة الشرعية في اليمن والتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية.
الوضع الإنساني الكارثي والعدد المتزايد من الغارات الجوية الخاطئة – كما يدعي التحالف – أتاح فرصة للشرعية لإعادة تشكيل طبيعة علاقتها مع التحالف من أجل منع أو تقليل تلك الآثار الجانبية، ولكن ذلك لم يتم بسبب تقاعس أو ارتهان الشرعية للقرار السعودي بشكل مخجل، بل كان يتم الالتفاف على تلك الأخطاء وتبريرها من خلال الدفع بالمزيد من الأموال المخصصة للمساعدات الإنسانية وتبرير الضربات الجوية الخاطئة من التحالف وشريكه الدولي، الولايات المتحدة، بالتأكيد أن تلك الأهداف كانت أهدافًا عسكرية مشروعة، وكانت الشرعية – مع الأسف – تقبل مثل تلك التبريرات الواهية.
في ليبيا، يتعين على تركيا أن توفر إطارًا واضحًا لمدى تدخلها ووضع رؤية واضحة بشأن كيفية الحد من احتمال أن يساهم دعمها العسكري والعمليات المشتركة المحتملة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في إلحاق أي أذى بالمدنيين أو التسبب في أزمة إنسانية.
وحتى في الحالات التي يمتلك فيها الشركاء المحليون والدوليون مصالح محددة وتصور واضح عن التهديدات المحتملة، فإن هذه الشراكة قد تشكل مكامن المخاطر المحتملة بسبب طبيعة البلد المتغيرة التي تتحول وتتبدل حسب المتغيرات السياسية الداخلية والخارجية وخاصة في دولة هشة مثل ليبيا، فإذا تُركت تلك المخاطر دون مراقبة مستمرة، فقد تنحدر بسرعة إلى نوع من المشكلات التي لا يمكن تجاهلها، وفي مثل هذه الحالات، من الأفضل ترك مساحة كافية للتكيف بناءً على تقييم مستمر للمخاطر المؤسسية والبيئية ووضع خطة إستراتيجية للخروج من تلك المشاكل يتم تنفيذها عند الضرورة.
حصر الدعم على الحكومة الشرعية
الدرس الثالث الذي يجب أن نتعلمه من الحرب في اليمن أن على الداعم الخارجي بذل المزيد من الجهود للتركيز على دعم ومساندة القوى الوطنية المعترف بها دوليًا فقط، وتدريبها وتشجيعها – بشكل مستمر – للمحافظة على الثوابت الوطنية وتلبية التوقعات الدولية بشأن حقوق الإنسان.
ففي اليمن، تم تجاهل هذه القضية تمامًا وخاصة في العاصمة المؤقتة عدن، حيث أطلقت معركة تحرير المدينة من يد الحوثيين العنان لعبث الميليشيات المحلية التي نشأت بعد معركة التحرير، فكما ساهمت كبرى القوى المحلية في المدينة بالتعاون مع دولة الإمارات العربية المتحدة في تحرير المدينة، تسببت في نفس الوقت في قتل وتعذيب العشرات من أبناء المدينة بصورة غير قانونية، وأدى التغاضي المتعمد من دولة الإمارات العربية المتحدة عن أخطاء شريكها المحلي إلى المزيد من الانتهاكات التي تسببت في حدوث ضرر غير متوقع على سمعة الإمارات في اليمن.
كما انتقلت الإمارات العربية المتحدة من دعم الحكومة الشرعية في اليمن إلى دعم الميليشيات المختلفة، مثل قوات الأحزمة الأمنية المختلفة وقوات النخبة الشبوانية والحضرمية وكتائب أبو العباس والعمالقة السلفية، وخططت ودعمت أيضًا محاولة انقلابية في عدن أواخر العام 2019، حيث استولت قوات المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم إماراتيًا، على القصر الرئاسي والمؤسسات العامة في أعقاب اشتباكات استمرت أربعة أيام في المدينة.
ينبغي على تركيا أن تتنبه للتضليل الممنهج الذي قد يمارس عليها من تلك الجهات الفاعلة، خاصة أن تحركات تلك المجاميع المحلية تخضع لمراقبة شديدة من المنظمات الدولية
ولكي تتجنب تركيا مثل هذه العواقب، عليها أن تحد من دعمها للقوات الشرعية في ليبيا أو تجعل دعمها مشروطًا بتحقيق أهداف معينة مع الحفاظ على خطة تقييم مستمر لتصرفات شريكها على الأرض وأن تستخدم الضغوط المناسبة لوقفها عند الحاجة.
في الشرق الأوسط، لا سيما في ليبيا، يزعم الكثير من القادة القبليين أن لديهم صلاحيات على الأرض وأنهم قادرون على التأثير على أبناء قبائلهم، وهذا صحيح ولكن بشكل محدود، لذلك ينبغي على تركيا أن تتنبه للتضليل الممنهج الذي قد يمارس عليها من تلك الجهات الفاعلة، خاصة أن تحركات تلك المجاميع المحلية تخضع لمراقبة شديدة من المنظمات الدولية، وعادة ما يلقي مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة باللوم على تلك المجاميع عند حدوث أي أعمال تخريبية في البلاد وبالتالي يقع اللوم على داعميهم الخارجيين أيضًا، لذلك من الحكمة أن تقصر تركيا دعمها على المؤسسات الشرعية فقط وألا تنظر أبدًا إلى أي مكان آخر.
باختصار، لا يمكن لأحد أن يتوقع متى ستنتهي الحرب في ليبيا، ولكن الناس يعرفون وبكل تأكيد أن أي استخدام للقوة العسكرية الخارجية سيترك آثارًا إيجابية وسلبية على البلاد لعدة سنوات، لذلك يتوجب على تركيا أن تحرص على ترك المزيد من الإنجازات البناءة في ليبيا، وبلا شك فقد تعلمت تركيا العديد من الدروس إثر تدخلها في سوريا، لكن الصراع في اليمن فيه من الدروس ما يستحق الاهتمام أيضًا.