نحن نتوقّع أنّ على الحبّ والزواج أن يكون أكبر مصدرٍ لأفراحنا وسعادتنا، لكننا نصطدم في لحظةٍ ما بحقيقةِ أنْ لا أحد بإمكانه أنْ يزعجنا أو يخيّب آمالنا بقدر ما يفعل الحبيب أو الزوج، هذا صحيح، لأنّنا لا نبني آمالنا ولا نرسم توقعاتنا على أحدٍ ما بقدر ما نرسمها ونبنيها على الزوج أو الحبيب، ولو نظرنا نظرةً شاملة لوجدنا أنه قد يجلب الحزن تمامًا كما قد يجلب السعادة.
تكمن المشكلة بأنّنا نعيش في عالمٍ يفرض على الفرد الكثير من التوقعات التي يتعامل معها وكأنها مقدسة يجب تحقيقها وإيجادها، دون النظر للواقع بما فيه من حقائق ومعلومات ومنطق. الكثير من قصص فشل العلاقات والطلاق التي تلج إلى آذاننا بشكلٍ دوريّ لا نعطيها أدنى اهتمام ونراها لا تمتّ لنا بصلة، فلا شيء يستطيع هز إيمانك بالحبّ وحبيبك، أليس كذلك؟
يولي العالم الرومانسيّ الذي نعيش فيه اهتمامًا كبيرًا للعاطفة، وربّما تفضيلًا على العقل والمنطق. فبات الكثيرون يجدون أنّ الشعور بالحبّ تجاه شخصٍ ما يُعدّ سببًا كافيًا ويجعل من ذلك الشخص مناسبًا وملائمًا للزواج. إلى جانب عزوفهم عن التفكير بالأسئلة والتساؤلات حول الزواج وتحليل أسبابه ومآله، فبات الإنسان الحديث يميل للتهرّب من تلك التساؤلات وإيجاد إجاباتها إيمانًا منه بأنّ “ألتفكير المفرط” بالموضوع ينزع رومانسيّته ويتلف المشاعر المتعلّقة به، فيبقى يتأرجح بين شِباك التوقعات والآمال.
ولو نظرنا لعالمنا العربيّ لوجدنا أنّ الكثير من حالات الزواج التي تحدث كانت نتيجةً لدقة قلبٍ أو ضخة أدرينالين، دون الالتفات للأسئلة المتعلقة بالزواج والعلاقات وماهية الحبّ وماذا يريده الفرد منّا منه ومن شريكه أصلًا، وبالتالي يصبح الزواج قائمًا على عددٍ كبير من التوقعات التي لا تمت للواقع بصلة.
قبل كل شيء، علينا أن ندرك أنّ فكرة أنْ تكون في حالةٍ من الحبّ المُطلق مع شخصٍ واحد لمدى العمر، وهو ما يمكن أنْ نسمّيه “الحبّ الرومانسيّ”، ما هي إلا فكرة جديدة ظهرت قبل 200 عام تقريبًا، فيما كان الأفراد قبل ذلك يعيشون معًا -بالطبع- لكن من غير الشكل الحديث للعلاقات الذي يُقام على توقعات عالية للسعادة المثالية والاستقرار الأبديّ.
لا يمكننا ببساطة مشاركة كل ما يمرّ من خلال عقولنا التي تحوي الكثير من المونولوجات الداخلية التي قد تكون في كثير من الأحيان عشوائية غير مفهومة
شخصية كلّ فرد منّا معقدة ومركّبة لحدٍ كبير، معظمنا مررنا سواء بمرحلة الطفولة أو المراهقة أو على مرّ السنين اللاحقة بكثير من المواقف والعوامل التي جعلت منّا غير جيّدين في التواصل، أو الوصول لدرجة من الصراحة والأصالة مع النفس، ومواجهة أفكارنا المحيّرة ومشاعرنا المتخبّطة.
كثير من التوقعات تأتي من واقع الأسرة التي عاش فيها كلّ من الطرفين، فعلى سبيل المثال قد يتوقع الرجل من زوجته أن تعتني بالبيت كما كانت تعتني به أمه، أو قد تنتظر المرأة من زوجها أن يتعامل مع الأمور المادية تمامًا كما كان يفعل والدها، الكثير يبحثون عن هذه التشابهات لأنها تعطيهم شعورًا بالأمن والاستقرار، وهذا ما يسعى إليه جميع الناس في العلاقات، لكنّ المشكلة تظهر حين يعجز الطرف الآخر عن تحقيق تلك التوقعات ويأتي بعكسها أو ما يخالفها.
جميعنا واجهنا صعوبات في تعريف أنفسنا وما نريده لذواتنا من الحياة والآخرين حولنا، سواء العائلة أو الأصدقاء أو الحبيب والزوج، فنحن فعليًا -غالبًا- ما نكون غير واعين لما نريد أن نكونه في حياتنا، وغير متأكدين من الدور الذي نرغب في لعبه وتأديته، لكن وفي ذات الآن يُجبرنا الزواج على تخيّل الشريك بشخصيات مختلفة يلعب أدوارًا عديدة معظمها غير قابلة للتطبيق؛ فتريده أن يكون الصديق الأفضل، والرفيق الجنسيّ، ورفيق الرحلات والمغامرات، وترغب بأن تراه مؤديًا دور الأبوّة إذ غالبًا ما تشعر نفسك وكأنّك طفل مسؤول منه، إلى جانب المهمات التي نعوّلها عليه لتسيير أمور العلاقة والبيت وبعض أمور الحياة الأخرى.
لا يمكننا ببساطة مشاركة كل ما يمرّ من خلال عقولنا التي تحوي الكثير من المونولوجات الداخلية التي قد تكون في كثير من الأحيان عشوائية غير مفهومة لتعقيدها ولعدم القدرة على ترتيبها وتحليلها، وبالتالي يصعب علينا تحويلها للغةٍ محكية ومونولوج خارجيّ مع الشريك، ومع ذلك “نتوقّع” منه أن يقرأ عقولنا ويفهمنا ويفهم احتياجاتنا ورغباتنا وأفكارنا.
وتمامًا كما ذكرنا في المقال السابق، يرتبط الزواج الرومانسي الحديث بأذهاننا بتوقعاتٍ عالية يحملها كلٌّ من الشريكين تجاه الآخر، تنصبّ معظمها في تحصيل تقدّم جيد وتطوّر آخذ بالاستمرار على وجه حسن في العلاقة وأسلوب المعيشة، وفي حين الاصطدام بعكس تلك التوقعات تنشأ الخلافات، ويبدأ كل طرفٍ بإلقاء اللوم على الآخر بأنه السبب مطالبًا إياه بالتغيير سواء بشكلٍ جزئيٍ صغير أو بشكلٍ يراه الآخر كبيرًا وغير معقول.
ومن هذه النظرة الرومانسية تتولّد لدينا القناعة المنصبّة على توقعات بأنّ الحبّ يعني فعليًّا تقبّل الآخر، بكلّ ما فيه الآن وما كان في الماضي وما سيكون في المستقبل، ووفقًا لذلك فإنّ أيّ محاولة للتغيير قد تأتي لاحقًا أو أيّ تلميح عنها قد يثير غضبنا أو انزعاجنا، وربّما نبدأ بالتفكير بكوننا اخترنا الشريك الخاطئ، وأنّ الحبّ ما هو إلا محض خيالٍ أو وهم.
واحدة من أكثر المشاكل التي ترتبط بمشكلة التوقعات وفشل العلاقات بشكلٍ واضح وصريح هي وفرة الخيارات. نحن نعيش في مجتمعٍ استهلاكيّ يولي تفضيلًا للذات على الآخر، وأصبح الكثيرون يبحثون عن شريك حياتهم .فتمامًا كما تبحث عن زواج الحذاء “المثاليّ”، وإذا لم يجدوا ما لا يعجبهم فيه، فليس أسهل من البحث عن البديل.
إذن فالمشكلة هي فائض الخيارات أمام الفرد والتي يساهم الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ في إبرازها وتعزيزها، فلا أسهل من أن تبدأ مقارنة شريكك بغيره ممن يظهر في تلك الوسائل، متوقعًا أنّ ما لم ينجح شريكك في تحقيقه سيقوم آخر في تحقيقه وإشباعه ومتناسيًا أنه من السذاجة توقع أن تكون العلاقات جيدة دائمًا دون مطبات أو مشاكل.
نحن نحاول أن نصل لدرجة طموحة للغاية في المُثل أو الأهداف الحديثة للعلاقات: الحبّ والمودة، والعواطف الإيجابية، ورعاية الأسرة وتسيير شؤونها، والاستقرار الوظيفي والوصول لمستوىً ماديّ كافٍ أو مرضٍ
الحلم بالحبّ والسعادة المطلقة سيبقى دائمًا يراودنا، لكنه سيخيب باستمرار، والحلّ المنطقي يكمن في التضحية ببعض ما تتوقعه وما تحلم به أو تطمح إليه، أي في قبول أنك لن تحصل على كل ما تريده من الحب أو العلاقات أو الزواج.
نحن نحاول أن نصل لدرجة طموحة للغاية في المُثل أو الأهداف الحديثة للعلاقات: الحبّ والمودة، والعواطف الإيجابية، ورعاية الأسرة وتسيير شؤونها، والاستقرار الوظيفي والوصول لمستوىً ماديّ كافٍ أو مرضٍ، وتجنب الخيانات العاطفية أو الجنسية، متناسين أننا -بطبيعة الحال- لن نحصل على كلّ هذا بسهولة، ومصمّمين على الدوران في دوامة التوقعات والآمال والأحلام.
أنْ تخوض تجربة الحبّ والعلاقات بشكلٍ صحيح -إلى درجةٍ ما- يعني أنْ تحافظ على قدرٍ جيّد من ازدواجية التفكير؛ أيْ أنْ تعتقد أنّ تجربتك لا تزال جيّدة حتى وإن كنت على وعيٍ تامّ بصعوباتها اليومية أو مشاكلها الحتميّة، وأن لا تعطي أية أهمية كبيرة لخيبات الأمل والتوقعات التي لا بدّ منها بالأصل، وتعمل على التخلص منها قدر المستطاع.