سافر إلى لندن ليحضر مؤتمرًا فانتهز الفرصة ليجري حوارًا تليفزيونيًا، جاءت خلاله كلماته تقطر أملًا ورجاءً لغد أفضل وتصبيرًا لكل متألم على أرض مصر. لا ينسى محبوه ولن ينسوا سؤال المذيع له: هل أنت متفائل.. رغم قسوة ما يجري في مصر؟
أما الإجابة فكانت واضحة: “نعم هذه السنوات بآثارها ستمر وستبقى مصر وجيشها العظيم، ليست المشكلة في الأولى ولا في الجيش، إنما في السيسي، وإنني أدعوه للتنحي عن الحكم بعد أن أثبت فشله، وأقول للجميع إن ذلك ممكن، وأطالب جميع الشباب والمسجونين والمطاردين، جميع من يعانون ألا ييأسوا فإن الفرج قريب”.
وفي موضع آخر قال: “وكذلك أهيب بأبنائي من الشباب ممن يتصدون بما يسمى بعمليات نوعية ضد الجيش أو مؤسسة من مؤسسات الدولة، أطالبهم بالتروي وألا يضيعوا مستقبلهم وأن يحافظوا على بلدهم”!
ولمّا سأله المذيع قرب نهاية الحوار: هل ستعود إلى مصر بعد هذه الكلمات؟! أجاب دون تفكير أو مجرد تمهل: نعم.. فشرف لي أن أكون في أحد سجونها في طرة من أن أكون في قصر خارجها!
إنه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، بقعة ضوء كانت باقية في ليل مصر الحالك.
لو أن الإخوان دفعوا بالدكتور أبو الفتوح، وأراد تعالى وقدر، فلربما نجح في إبقاء جذوة الثورة مشتعلة بفكره المنفتح الذي أيده حتى الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله
حواره مع “الجزيرة مباشر” في 12 من فبراير/شباط الماضي، وهو الحوار الذي اعتقل بسببه المرشح الرئاسي في انتخابات 2011، الانتخابات الحقيقية الوحيدة في تاريخ مصر التي حاز فيها أبو الفتوح أكثر من 4 ملايين صوت أو ما يزيد على 10% من نسبة الأصوات الصحيحة ضمن 13 مرشحًا بينهم الدكتور محمد مرسي والفريق أحمد شفيق، وخسر فيها أبو الفتوح بشرف؛ فلم تكن تدعمه جماعة كبرى مثل الإخوان، ولا مؤسسة شاهقة مثل الجيش، لثبت الأيام أن فوز أبو الفتوح كان أحد أبرز الاحتمالات أمانًا وسلامًا لمصر لو أن الله أراد وتعقلت جماعة الإخوان.
ولكن ما سبق لا يعني أن صاحب الكلمات يوافق على جميع مواقف الدكتور أبو الفتوح خاصة موقفه المؤيد لأحداث 30 من يونيو/حزيران 2013، وإن كان الرجل تبرأ من انقلاب 3 من يوليو/تموز من نفس العام، بل غاب عن المشهد؛ وإن كان الأمر شبه المؤكد أن عدم مناصرة الإخوان للرجل في الانتخابات الرئاسية في 2011 كما كان يأمل بل صرح، أوغرت صدره ضدهم، بالإضافة إلى فصله من الجماعة لترشحه للرئاسة مع أنها تقدمت بمرشح آخر فاز بعدها.
ولو أن الإخوان دفعوا بالدكتور أبو الفتوح، وأراد تعالى وقدر، فلربما نجح في إبقاء جذوة الثورة مشتعلة بفكره المنفتح الذي أيده حتى الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله، ولكن الأمور لم تجر بما يشتهي ربان السفن وخسر الإخوان رجلًا مناضلًا ذا ذكاء حاد وقدرة على الفهم السريع وتطور التفكير المناسب لإيجاد الحلول للمشكلات، وهو ـ قبل ذلك كله ـ ذو قدرة مذهلة على تحدي الظالمين.
كان شابًا يافعًا عندما واجه الرئيس الراحل محمد أنور السادات في جامعة القاهرة عام 1977 مطالبًا إياه بعدم تعيين المنافقين الذين يتقربون إليه وإعادة الشيخ الراحل محمد الغزالي إلى منبره بمسجد عمرو بن العاص المعروف بمصر القديمة، وأبو الفتوح مواليد 1951 أي أن عمره وقتها لم يكن تجاوز الـ26 عامًا، وكان وقتها يدرس الطب مع كونه رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة.
لم يكن أبو الفتوح يرضى بفكرة الترشح للرئاسة أمام السيسي، بل اعتذر عنها للملايين من محبيه، ولكن السيسي رأى أن الرجل يحيي آمالًا في نفوس المصريين
ثم كان أبو الفتوح أول مصري يحوز منصب أمين عام اتحاد الأطباء العرب، كما كان له دور بارز في مناصرة أهل غزة، بالإضافة إلى عضويته في اتحاد القوميين العرب. وكان وجوده خارج السجن منذ الانقلاب كفيلاً بأن يدوم لو أنه فقط صمت ولم يخرج على القناة المذكورة ليخاطب الملايين بأن الأمل موجود، وأن السيسي وحده الفاشل، ودافع الرجل حتى عن الجيش المصري كله.
لم يكن أبو الفتوح يرضى بفكرة الترشح للرئاسة أمام السيسي، بل اعتذر عنها للملايين من محبيه، ولكن السيسي رأى أن الرجل يحيي آمالًا في نفوس المصريين؛ ولكن الذي جأر وباح بكلمة الحق في مقتبل الشباب لم يكن ليمنعها بعد النضج وبلوغ أقصى درجات العقل، ولكن الرجل مع ذلك كان بالغ الشجاعة إذ عاد بقدميه إلى مصر، وهو يعرف جيدًا أن السيسي بشكل خاص لن يمررها له.
لم يكن السيسي بكاره بجهر أبو الفتوح لقوله كلمة الحق فحسب، بل بإحيائه الأمل الذي يحرص ونظامه على قتله في نفوس ملايين المصريين كي يقبلوا بقامته المتقزمة ونظامه الفاسد العفن المتبقي من نظام المخلوع حسني مبارك وبقايا عسكر 1952، ولتاريخ أبو الفتوح القوي السابق مع الإخوان رغم فصلهم له، ولا ننسى أن قائد الانقلاب وصف أبو الفتوح بـ”الشاذ فكريًا” في التسريبات للأجزاء المحذوفة من حواره المسجل مع الصحفي ياسر رزق في أكتوبر/تشرين الأول 2013 عندما كان وزيرًا للدفاع.
السيسي وصل بمصر إلى مرحلة بالغة القسوة عنوانها الفُجر في الخصومة
أما قمة الإجرام فلم يجئ باعتقال الدكتور أبو الفتوح في 14 من فبراير/شباط الماضي بعد ساعات من عودته إلى مصر، بل بتعمد قتله في محبسه حاليًا، فقد زاره أبناؤه في السجن منذ أسابيع قليلة، وفي محبسه وجدوه بملابس رثة ترفض إدارة السجن مجرد السماح له بتغييرها، بالإضافة إلى تعرضه لعدد من الأزمات القلبية التي كادت أن تنهي حياته بخاصة بعد رفض إدارة السجن إعطائه الدواء، مع إصابته بانزلاق غضروفي لارتطامه داخل سيارة الترحيلات بالأرض وهو مقيد اليدين.
إن السيسي وصل بمصر إلى مرحلة بالغة القسوة عنوانها الفُجر في الخصومة، ومحاولة قتل ووأد كل بارقة في قرب شعاع فجر يخلص البلاد والعباد من شروره وخطايا نظامه، وما تحقق ذلك على الله إن شاء بعزيز، ولا إتاحته، تعالى، للشرفاء من المصريين أسباب الانتصار وإعادة الكنانة إلى رونقها الاجتماعي ودورها الحضاري في نصرة إخوانها العرب والمسلمين منا وعنا ببعيد.
اللهم عجل فرج الرجال عبد المنعم أبو الفتوح وكل سجين من أجل خلاص وفرج مصر والأمتين العربية والإسلامية سواء في سجون مصر أم غيرها من الظالمين.