11 عامًا مرت على المذبحة الأكثر قسوة في التاريخ الحديث، راح ضحيتها مئات الأرواح من المدنيين في ميداني رابعة والنهضة على أيدي قوات الجيش والشرطة لمجرد التعبير عن آرائهم في الرفض المدني السلمي للانقلاب العسكري الذي تم على رئيسهم المنتخب محمد مرسي عام 2013.
استيقظ المصريون على تلك الجريمة المروعة التي حفرت في الذاكرة جراحًا من الصعب نسيانها، وحشية لم يعرفها العالم، جرت على مرأى ومسمع من المصريين، وعلى الهواء مباشرة، وبتحريض وتأييد من بعض الإعلاميين والساسة ورجال الدين.
تباينت التقديرات الرسمية وغير الرسمية بشأن عدد ضحايا المجزرة، فوفقًا للجنة تقصي الحقائق التي شكلتها الدولة قدر عددهم بـ 632 قتيلًا، بالإضافة إلى 668 آخرين قتلوا في أعمال عنف تالية لعملية الفض، مقارنة بـ1019 بحسب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فيما قدر موقع “ويكي ثورة” الحقوقي عدد الضحايا بـ1542 شخصًا، أما منظمة “هيومن رايتس ووتش” فكشفت عن 1150 ضحية جراء تلك المذبحة، في الوقت الذي أعلن فيه مستشفى رابعة العدوية في آخر بياناته أنه أحصى 2200 جثة، فيما ذكرت جماعة الإخوان المسلمين أن عدد من سقطوا في “رابعة” بلغ 2600 قتيل.
وأيًا كانت الأرقام الحقيقية، فإن تلك المذبحة بكل ما جسدته من معاني الوحشية والإجرام والعنصرية والتواطؤ والخذلان وانعدام الإنسانية، تمثل علامة فارقة في تاريخ هذا البلد، فما أعقبها لم يكن بأي حال من الأحوال كما كان قبلها، لتدخل بعدها الدولة المصرية في نفق مظلم من الانهيار والتهاوي على المستويات كافة، كأن بلدًا بأكمله، وشعبًا عن بكرة أبيه، قد أصيب بلعنة تلك الدماء التي أريقت بلا ذنب أو جريرة.
شهادة وفاة رسمية للمنظومة الحقوقية
ما حدث في رابعة والنهضة في 14 أغسطس/آب 2013 من انتهاكات فجة لحقوق المعتصمين المدنيين، واستخدام كل أشكال العنف والإجرام بالطائرات والقذائف والأسلحة المختلفة، فضلًا عن الحرق حيًا، كانت بمثابة شهادة وفاة رسمية لمنظومة حقوق الإنسان في مصر، وأي حديث بعد هذا التاريخ عن تلك المنظومة رفاهية أقرب للخيال المدجج بالسخرية، كونه يتنافى شكلًا ومضمونًا مع الواقع المعاش.
ساعات قليلة عاشها معتصمو رابعة والنهضة، كانت كفيلة أن تزيح مصر من الخريطة الحقوقية الدولية وتزج بها في ذيل القائمة العالمية، لتصبح العشرية الأخيرة الأسوأ في سجل حقوق الإنسان حسبما قال مؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، حسام بهجت، الذي وصف الوضع الحالي بأن شعب مصر بالكامل بات رهينة لدى النظام الحاكم.
ويبدو أن نظام ما بعد 3 يوليو/تموز بعد أحداث رابعة والنهضة وصل إلى مرحلة الذروة في التعامل مع المعارضة والمناوئين له، فليس بعد الكفر ذنب، حيث استهل النظام ولايته بالقتل المباشر والحرق والتجريف لكل من يفكر أن يغرد خارج السرب، فكيف يكون الوضع إذًا مع ما دون ذلك من جرائم الاعتقال والتنكيل وتضييق الخناق.
هذا التوجه لم يقتصر على المعارضة الإسلامية كما يتوهم البعض، بل تم سحبه على كل أنواع المعارضة السياسية، حتى التي دعمت مشهد 30 يونيو/حزيران 2013 وما بعدها، وهو ما أكدته المحامية المدافعة عن حقوق الإنسان ماهينور المصري، التي لفتت إلى أن اتهامات الإرهاب المعلبة باتت سوطًا يشهر في وجه حتى المنتقدين لغلاء المعيشة عبر مقاطع على منصات التواصل الاجتماعي.
وشهدت السنوات الماضية عشرات الأحداث والوقائع التي استُهدف فيها معارضون تابعون لأحزاب أو كيانات سياسية، إما بالتنكيل والضرب والاعتقال وإما بإلغاء الفعاليات والأنشطة، وأخيرًا سجن وحبس المعارضين وتلفيق التهم لهم، وإبعادهم عن المشهد بشكل كامل، كما حدث مع المعارض والمرشح السابق في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أحمد الطنطاوي.
اغتيال الأفق السياسي
بعثت مجزرة رابعة والنهضة رسالة مباشرة وواضحة لكل المهتمين بالشأن السياسي، سواء كانوا متابعين أم عاملين في هذا المضمار، مفادها أن كل من يفكر أن يغرد خارج السرب السلطوي فمصيره معروف للجميع، ولكم في ضحايا تلك المجزرة العبرة والمثل.
وفي حديثهم لـ”نون بوست” عبر كثير من الأعضاء داخل بعض الأحزاب السياسية المصنفة كـ”معارضة” حتى لو كانت شكلية، عن تخوفاتهم من ممارسة أي نشاط حزبي بعيدًا عن دائرة السلطة، حتى الفعاليات الاعتيادية المفترض أن تتم بمعزل عن أي إجراء أو تصريح ما عادت تتم بالشكل المطلوب إلا بعد تقديم تفاصيل بشأنها للجهات الأمنية والحصول على الإذن اللازم بحضور ممثل أمني وتسجيل كامل لتلك الفعاليات يتم إرساله للجهات المختصة لمراجعته.
وإن كان الأفق في عهد مبارك يعاني من الضيق وانخفاض السقف، فإنه في عهد السيسي، وبعد كارت الإرهاب الذي أشهره النظام الحالي مبكرًا في أغسطس 2013، بات والأرض سواء، فلا أفق يلوح ولا انفراجة متوقعة في ظل تلك القبضة التي لم تعرفها مصر حتى في أحلك فترات استعمارها الأجنبي.
واقتصر المشهد السياسي في مصر على حزب واحد فقط، “مستقبل وطن” الذي يعتبره البعض النموذج الأكثر قبحًا لـ”الحزب الوطني” المنحل، حيث الهيمنة المطلقة على مفاصل العملية السياسية كافة، وتوظيف المال السياسي والنفوذ لخدمة أجندته الداعمة بشكل مفرط للنظام والمناوئة لأي تحركات، مهما كانت ضعيفة، تستهدف العزف على أوتار مغايرة عن النغمة السلطوية.
وتحولت بقية الأحزاب إلى كيانات كرتونية، تجفيف شبه تام لكل منابع الحراك السياسي، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا حديث يتجاوز الخطوط الحمراء الموضوعة سلفًا، فالشعب غير مؤهل للديمقراطية بعد، وليس هناك أفهم للدولة ومصالحها من النظام الحالي وعلى رأسه السيسي.
تأميم للحريات والإعلام
كل من تجرأ على نقل حقيقة ما حدث في رابعة والنهضة كان مصيره إما القتل وإما الاعتقال، ومن كُتبت له النجاة فر هاربًا بروحه وحياته من هذا الوطن الرهين بأيدي سلطة لا تسمع إلا صوتها ولا ترى إلا بعين واحدة، وتعتبر كل من يسير عكس عقاربها السياسية خائنًا يستوجب الاستهداف.
وانعكس هذا الأمر بطبيعة الحال على خريطة الحريات الإعلامية والصحفية، لتنزلق مصر التي كانت تتصدر قائمة الدول الأكثر حرية في الصحافة بالمنطقة إلى مؤخرة الركب، حيث احتلت المرتبة 166 عالميًا في مؤشر حرية الصحافة الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود”.
وخلال السنوات العشرة الأخيرة تفنن النظام في ارتكاب كل أنواع الموبقات في التضييق الإعلامي وكبت الحريات الصحفية، حيث حجب عشرات المواقع الإخبارية، واعتقل قرابة 43 صحفيًا، بينهم 5 صحفيات، هذا بخلاف غلق الصحف والمواقع المعارضة، وتضييق الخناق على العاملين فيها من صحفيين وإداريين، بل محاكمة بعضهم دون تهم محددة.
وبالتزامن مع ذلك دشن النظام الحالي سلسلة من القوانين المكبلة للحريات الإعلامية والصحفية، منها قانون تداول المعلومات وقانون الصحافة المعدل وقانون الكيانات الإرهابية بتعديلاته الفضفاضة، والتي فرضت قيودًا مشددةً على الصحفيين الذين باتوا بين مطرقة الحريات وسندان الاعتقال.
ويبدو أن السيسي قد ترجم فعليًا حلمه في أن يحظى بإعلام كالذي حظي به سلفه الراحل جمال عبد الناصر، حيث تأميم الصحافة والإذاعة والتلفزيون، وتبني سردية واحدة، تلك التي يراها النظام، فلا مجال للمعارضة ولا لأي صوت يتجرأ وينتقد النظام، إذ إن الدولة – بحسب تلك الأنظمة ووفق نظرية المؤامرة المستديمة – في حالة حرب دائمة، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
مجتمع مقسم
خلقت مجزرة رابعة حالة من التفسخ المجتمعي، ما زالت تلقي بظلالها القاتمة على المشهد حتى اليوم، فكثير من أهالي الضحايا لا ينسون “شماتة” جيرانهم فيهم يوم أن تعرضوا لما تعرضوا له قبل 11 عامًا، كما جاء على لسان بعضهم.
شريف (45 عامًا) يقول: “شاركت وأخي في اعتصام رابعة كغيرنا من الشباب الذي كان يؤمل نفسه باستمرار التجربة الديمقراطية المدنية التي اكتسبناها من ثورة يناير، شاركنا بهدف الدفاع عن تلك التجربة التي طالما حلمنا بها سنوات طويلة، لكن بعد أيام قليلة من المجزرة داهمت قوة شرطية منزلنا واعتقلوني أمام أمي وابنتي التي لم تتم بعد عامها الثالث آنذاك”.
وتابع: “علمت بعد ذلك أن جارًا لي هو من أبلغ عني وذهب طواعية إلى قسم الشرطة ليبلغهم أني إخواني وأني من دعوت للمشاركة في هذا الاعتصام، رغم إيمانه بأني ما كنت يومًا منتميًا لأي كيان سياسي أو حزبي، وللأسف بسبب تلك الوشاية قضيت في السجن سنوات طويلة قبل أن يطلق سراحي قبل 3 أعوام”.
وأضاف “كنت أرى الشماتة في عيون الكثير من جيراني وزملائي في العمل، خاصة بعدما فصلوني من وظيفتي وأصبحت بلا عمل، ووصل الأمر إلى فرح بعضهم في دماء من ماتوا في رابعة، وسمعت بأذني من يقول: يستاهلوا في ستين داهية” متسائلًا: هل رأيت يومًا من يحرض على الدماء ويشمت في الموت؟”.
ويؤكد شريف وغيره أن تلك المجزرة زرعت الحقد والكراهية بين الكثير من أبناء المجتمع، وخلقت حالة من الاحتقان المجتمعي، ودشنت لمرحلة جديدة من التفتت والانهيار بين أفراد المجتمع من الصعب التئامها، مختتمًا حديثه قائلًا: “فعلًا هم شعب وإحنا شعب”.
مجتمع الغاب
حين يتم تنفيذ جريمة ومذبحة بتلك القسوة وهذا الكم الهائل من الضحايا بتلك الكيفية الدخيلة على المشهد المصري دون عقاب أو محاسبة لأي مسؤول، بدءًا من رئيس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية، مرورًا بالضباط المشاركين، وصولًا إلى الجنود الذين نفذوا أوامر الضرب والحرق والتنكيل، فالأمر يتجه صوب شرعنة “مجتمع الغاب” كسمة المرحلة وعنوانها الرئيسي.
وفتح الإفلات من العقاب إزاء تلك المذبحة الباب على مصراعيه أمام العنف بشتى أنواعه، هذا العنف الذي يدفع المجتمع ثمنه منذ 2013 وحتى اليوم، الأمر هنا لا يقتصر فقط على فئة الضباط والعسكر والمحصنين بشكل شبه كامل من أي عقاب مهما كان حجم الإجرام المرتكب بحق المواطنين، بل وصل إلى بقية فئات المجتمع من المدنيين، ترسيخًا لمقولة “إذا كان رب البيت بالدف ضارب فشيمة أهل البيت الرقص”.
وتشير التقديرات الرسمية إلى احتلال مصر المركز الـ18 على مستوى الدول الإفريقية في معدلات الجريمة بمعدل 47.3 على مؤشر الجريمة، والمرتبة الـ65 عالميًا، والثالثة عربيًا، بسبب تفشي ارتكاب الجرائم المختلفة، وفق مؤشر قياس الجريمة في قاعدة البيانات (نامبيو) خلال عام 2024.
وفي بيان مفصل لوزارة الداخلية المصرية في 2017 كشف عن تضاعف معدلات الجريمة في مصر خلال السنوات الأخيرة، حيث احتلت المركز الثالث عربيًا في تقرير مؤشر الجريمة العالمي لعام 2016، لافتة إلى ارتفاع جرائم القتل العمد بنسبة 130%، والسرقة بالإكراه بنسبة 350%، بينما ارتفعت سرقة السيارات إلى 500%.
وفي السياق ذاته ارتفع عدد المجرمين في مصر بنسبة 55% حيث وصلوا إلى 92 ألف مسجل خطر، فيما زادت جرائم الخطف من أجل الفدية قرابة أربعة أضعاف، كما ارتفعت معدلات السرقة أكثر من 400% من 5 آلاف سرقة إلى أكثر من 21 ألف حالة.
اقتصاد مرتجف
يقول الخبراء إن الاقتصاد جبان بطبيعته، يبحث عن الأمان الحقوقي والاستقرار المجتمعي، بمعنى أنه إذا ما تواجد القهر والتنكيل والظلم والانتهاكات فلا مكان إذًا للاقتصاد ورؤوس الأموال، فكيف يكون الحال مع مجزرة بحجم رابعة والنهضة؟
أحدثت تلك المجازر التي تمت برعاية ومباركة وتنفيذ السلطة ضد مدنيين عزل، دون محاسبة أو معاقبة المشاركين فيها، حالة من الصدمة للمشهد الاقتصادي الذي تأثر بطبيعة الحال بتلك الأجواء الطاردة جملة وتفصيلًا لأي استثمارات، ويمكن الوقوف على تداعيات مجزرة رابعة على الاقتصاد المصري من خلال بعض المؤشرات التي كان للمذبحة دور فيها بشكل أو بآخر:
– هروب الأموال الساخنة خلال الآونة الأخيرة والتي دخلت البلاد بهدف الربح في أوقات محددة، لكن سرعان ما لملمت ذيولها بعدما حققت الأرباح المطلوبة، فحسب تصريحات رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، خرجت الكثير من تلك الأموال التي تشكل قرابة 7 أو 8% من إجمالي الأموال الموجودة في السوق في ذلك الوقت.
– هروب المستثمرين المصريين والبحث عن أسواق أخرى خارج مصر، بحثًا عن الاستقرار والأمان، لا سيما بعد التصريحات المثيرة للجدل الصادرة عن السيسي وبعض وزرائه بشأن التعامل مع عدد من رجال الأعمال الرافضين للانصياع لشروط وإملاءات السلطة بالقسوة والتنكيل والاعتقال.
– تشير التقديرات إلى أن المستثمرين المصريين استحوذوا خلال الربع الأول من العام الجاري 2024 على 30% من إجمالي التراخيص الاستثمارية التي أصدرتها السعودية، محققين 950 ترخيصًا من أصل 3157، بحسب تقرير لبلومبرغ.
– ساعد على هذا الهروب استحواذ الجيش على الاقتصاد الوطني بنسبة تتجاوز 60% من حجم الاقتصاد المصري وفق بعض التقديرات، رغم النفي الرسمي لتلك النسبة الكبيرة، وهو ما دفع أباطرة الاستثمار في مصر لنقل استثماراتهم إلى الخارج على رأسهم رجل الأعمال الشهير، ناصف ساويرس، الذي نقل مكتب الاستثمار العائلي الخاص به، والمعروف بـ”مجموعة NNS” إلى العاصمة الإماراتية أبو ظبي.
– التهاوي الكبير في قيمة العملة الوطنية والارتفاع الجنوني في معدلات التضخم والبطالة والعجز في الموازنة وانهيار مدخرات المصريين وتراجع المستوى المعيشي لمعظمهم والزج بالملايين منهم في مستنقع الفقر الذي تجاوزت معدلاته بحسب البعض 60% من إجمالي عدد السكان.
– ورغم محاولات الحكومة تبني سياسات وبرامج الإصلاح الاقتصادي، لم ينعكس ذلك بالإيجاب على مؤشرات الحرية الاقتصادية لتظل أقل من المستوى العالمي، وكذلك منطقة الشرق الأوسط، حيث احتلت المرتبة الـ146 عالميًا على مؤشر الاقتصاديات الأكثر حرية اقتصاديًا الصادر عن مؤسسة التراث العالمية، من إجمالي 184 دولة حول العالم، كما احتلت المرتبة العاشرة من بين 14 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وحصلت على 49.7 درجة من المؤشر الذي يتم ترتيبه من صفر إلى 100 درجة، وهي أقل من المتوسطات العالمية والإقليمية، وفقًا لمؤشر 2024.
وفيما يتعلق بالمؤشرات الفرعية الـ12 لمؤشرات الحرية الاقتصادية، جاءت المؤشرات كالتالي (85 درجة في مؤشر “العبء الضريبي”، الإنفاق الحكومة بنحو 80 درجة، حرية التجارة 60 درجة، حرية الاستثمار 65 درجة، حرية القوى العاملة 35 درجة، حرية البيزنس 50 درجة، حقوق الإنسان 40 درجة، النزاهة الحكومية 25 درجة سيادة القانون 25 درجة، والصحة الجسدية 10 درجات).
دولة ملاحقة قضائيًا
رغم مرور 11 عامًا على تلك المذبحة، ما زالت تشكل صداعًا مزمنًا في رأس النظام والمتورطين فيها، إما بالمشاركة وإما التخطيط، وبينما توهمت السلطة ترسيخ أركان حكمها ما زال القلق يسيطر على عقلها الباطن وتحركاتها الداخلية.
وبينما تفكر الأنظمة والحكومات في تنمية بلدانها عبر الخطط التنموية المدروسة، كرس النظام الحاكم في مصر جل اهتماماته في تحصين نفسه من أي ملاحقات قضائية بسبب مذبحة رابعة، حيث شرع في تدشين منظومة تشريعية من القوانين التي تحمي رموزه من الملاحقة القضائية في الداخل والخارج.
البداية كانت مع التعديلات التي أدخلتها الحكومة على قانون المحكمة الدستورية، التي يمكنها من وقف تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة من محاكم ومنظمات وهيئات دولية ذات طبيعة سياسية أو قضائية في مواجهة الدولة المصرية، بحجة أنها تخالف القانون والدستور.
ويتم تطبيق تلك التعديلات في حال صدور أي حكم ضد مصر يلزمها بأداء مستحقات أو تعويضات، مادية كانت أو أدبية، أو توقيع عقوبات على رموزها بشأن الجرائم المرتكبة في رابعة وغيرها، حيث تتذرع الدولة وفق تلك التعديلات بعدم دستورية تلك الأحكام في محاولة لإجهاضها وحماية أبنائها المتورطين في المجزرة.
وجاء هذا التحرك من الدولة بعد إقدام عدد من النشطاء على رفع دعاوى قضائية أمام المحاكم البريطانية والأمريكية والدولية ضد شخصيات بعينها من المسؤولين المصريين بسبب الانتهاكات والجرائم المرتكبة بين عامي 2013 و2015.
تعززت سبل الحماية السلطوية من أي ملاحقات بسبب مذبحة رابعة بالقانون الذي أصدره السيسي في يوليو/تموز 2018 والذي ينص على معاملة كبار قادة القوات المسلحة معاملة استثنائية، ومنحهم حصانة نهائية من أي إجراءات قضائية بشأن أي جرائم وقعت منهم أو بمناسبة توليهم مناصبهم، وكذلك منحهم حصانة دبلوماسية تقيهم الملاحقة القانونية خارج مصر.
لعنة الدم تطارد الجميع
ما بني على باطل فهو باطل، والدولة الظالمة لن ترى خيرًا قط ولو كانت مؤمنة.. هكذا يصف البعض الحال في مصر حاليًا، إذ يميل أنصار هذا الرأي إلى أن ما يواجهه المصريون اليوم من أزمات تلو الأزمات، وفشل ذريع على كل المسارات، إنما هي لعنة الدماء التي سالت في رابعة والنهضة، والتي حرض عليها البعض وشمت فيها آخرون وغض الطرف عنها طرف ثالث.
فرغم عشرات البرامج الإصلاحية ومئات المليارات المقترضة خارجيًا، وسياسات التقشف القاسية المفروضة على الجميع، ورهن الدولة قرارها السياسي والاقتصادي بأيدي آخرين، مقابل حفنة من المال، فإن الوضع يسير من سيئ إلى أسوأ، وهو الانزلاق الذي تعتبره عائلات الضحايا ثمنًا منطقيًا للأرواح التي أزهقت على مرأى ومسمع من الجميع دون أن يحرك أحد ساكنًا.
وتحولت مصر من دولة جاذبة للجميع، فاتحة أبوابها لزائريها من كل حدب وصوب، إلى بؤرة طاردة حتى لأبنائها بعدما عشش الظلم في جنباتها، ما دفع شبابها وخيرة رجالها للرحيل، وبات النفي خارج البلاد حلمًا يداعب الغالبية من أبناء هذا الوطن، فلا أحد فيها بمأمن عن أي استهداف أو ملاحقة، بلد فيه القانون لا يطبق إلا على الضعفاء، أما الصفوة وأبناء السلطة فلهم قانونهم الخاص، قانون القوة والغاب.
وهكذا وبعد 11 عامًا على تلك المذبحة لا تزال رائحة الدماء التي خضبت تراب رابعة تزكم أنوف كل من يمر من هناك، ولا تزال أصداء تلك الجريمة كوابيس تطارد أحلام جلاديها، فيما لا يكل أهالي الضحايا ولا يملوا من الدعاء ورفع أكف الضراعة للسماء بأن يروا عدالة الله في كل من تورط بتلك المجزرة التي لن تُمحى من الذاكرة مهما مر الزمن وسُحب بساط العمر من تحت الأقدام، فمثل هذه جرائم تورث جيلًا بعد جيل.