بأي قانون يتم احتجازنا دون سبب؟ تساؤل يخفي وراءه صرخة ألم ومعاناة يعيشها الشاب أحمد الملقب بـ”أبو حنين”، في مركز الترحيل في ولاية أورفا التركية منذ شهر ونصف، بعد اعتقاله في قيصري عقب الأحداث العنصرية التي شهدتها بحقّ السوريين وترحيله من المدينة.
لم يتخيل أبو حنين، الأب لـ 3 أطفال، الذي يروي لـ”نون بوست” قصة معاناته منذ احتجازه بشكل مفاجئ في قيصري، أن حياته ستنقلب رأسًا على عقب في لحظة واحدة دون سبب أو مبرر واضح.
قصة أبو حنين تشبه عشرات القصص لسوريين تعرضوا إلى هجمات عنصرية في قيصري، قبل أن يجدوا أنفسهم في مراكز الترحيل دون أسباب واضحة، أما الذين نجوا من الاحتجاز بدأوا بالتفكير والبحث عن طريقة للخروج من تركيا إلى بلاد لجوء أخرى أو العودة إلى سوريا.
معاناة لا تنتهي
في 30 يونيو/ حزيران الماضي شهدت ولاية قيصري أعمال شغب استهدفت ممتلكات السوريين، بعد إقدام مواطنين أتراك على حرق محلات سوريين وتكسير سياراتهم إثر انتشار شائعات عن اعتداء سوري على طفلة تركية تبلغ من العمر 5 أعوام، قبل أن تؤكد ولاية قيصري في بيان لها عبر إكس أن الطفلة سورية، وهي قريبة الشاب الذي يعاني من مشكلات عقلية.
وبعد أسبوعين من الحادثة بدأت السلطات التركية حملة في الولاية ضد من تصفهم بالمخالفين من السوريين واحتجاز عائلات بأكملها بهدف الترحيل، كان أبو حنين واحد منهم حيث اُعتقل من أمام منزل أخيه مع ابنته التي تبلغ من العمر 8 سنوات، لتبقى عائلته في الخارج دون معيل.
مكث أبو حنين في مركز الترحيل بولاية قيصري 3 أيام، ليُنقل بعدها إلى ولاية أورفة مع 61 شخصًا آخر، جميعهم عائلات، كانوا قد اُعتقلوا بعد مرور حوالي أسبوع على أحداث قيصري.
يقول أبو حنين لـ”نون بوست” إن شقيقته مع ولديها الاثنين ووالدته التي تبلغ من العمر 70 عامًا اُحتجزوا أيضًا، رغم عدم وجود أي شكوى أو مخالفة بحقهم.
وأضاف أن شقيقته تعاني من مرض التصلب اللويحي وتحتاج إلى العلاج، ورغم وجود تقرير طبي لم يحضروا لها الأدوية، مؤكدًا أن “سعر العلاج تقريبًا يصل إلى 8 آلاف ليرة تركية، وليس لدينا القدرة على شرائه، صحة شقيقتي متدهورة ولا يوجد أي استجابة لنا”.
وبعد شهر ونصف من تواجد أبو حنين في مراكز الترحيل، لم يعد يكترث لترحيله وإرساله إلى الشمال السوري، فالهامّ لديه أن يخرج من مركز الترحيل الذي تختلف المعاملة فيه باختلاف الحارس، فبعض الأحيان تكون جيدة وأحيانًا سيئة جدًا، حسب قوله، مؤكدًا أن “الطعام والماء متوفران”.
ويؤكد عدم وجود أي مخالفة بحقه، ولا بصمة أو محكمة، ويقيم منذ حوالي 9 سنوات في قيصري بشكل قانوني، لكن حسب ما قيل له إنه جاء إلى مركز الترحيل مع عدد من العائلات عن طريق الخطأ.
وأشار إلى أنه سأل مرارًا عن مصيره ومصير العائلات الموجودة في مركز الترحيل، ليجيب مدير المركز في كل مرة بأنه لا قرار إلى الآن بحقهم، لكن لم يتم ترحيلهم إلى سوريا. مشيرًا إلى عدم سبب توكيله محامٍ لمعرفة سبب احتجازه، إلا أن العديد من الأشخاص المتواجدين معه في المركز قاموا بتوكيل محامين وتعرضوا للنصب.
لا يختلف حال أبو حنين كثيرًا عن حال الشاب زكي المحتجز منذ حوالي شهر في مركز الترحيل بقيصري، حسب ما قالت زوجته لـ”نون بوست”، التي قالت إنها “عجزت عن إيجاد حل للمصيبة التي حلّت بهم”.
تؤكد زوجة زكي أن زوجها اُعتقل مرتين في اليوم نفسه، الاعتقال الأول كان صباحًا من الشارع، وبعد تفييش اسمه أخبروه أنه بإمكانه الذهاب لعدم وجود أي شي بحقه، لكن في اليوم ذاته تم اعتقاله من منزله في المساء.
وتخشى الزوجة أن يتم ترحيل زوجها إلى سوريا وبقاءها مع أطفالها الثلاثة في تركيا، مؤكدة أن “الحياة في تركيا باتت صعبة بسبب الهجمات العنصرية بشكل متكرر من جهة، والتضييق الأمني من جهة أخرى”، كما أنها باتت تخشى الخروج من منزلها لتأمين مستلزمات أطفالها.
لا تعلم زوجة زكي ماذا تفعل، والحامل في شهرها الثامن دون وجود أي معيل لها في الولاية، وبعد أن فقدت الأمل من خروج زوجها، قررت بيع أثاث منزلها والعودة إلى سوريا مع أطفالها، حيث تقيم عائلتها في مدينة إدلب، بعد أن أمضت 6 سنوات في تركيا.
لماذا الاعتقال؟
عضو مؤسس في جمعية أنصار السوريين في قيصري، طلب عدم الكشف عن اسمه، قال لـ”نون بوست” إن “أسباب الاعتقال لدى الغالبية كانت دعاوى أو شكاوى قديمة بحقهم، وبعض الأشخاص كانت ضدهم شكاوى بالاعتداءات الجنسية، وأثناء المحاكمة ظهرت براءتهم لكن مع الأسف تم احتجازهم”.
وأضاف أن هناك عائلات اُحتجزت لأسباب غير منطقية، مشيرًا إلى أن امرأة سورية تقدمت بشكوى بسبب تعرضها للتحرش، فتم احتجازها، إضافة إلى عائلة كانت ابنتها البالغة من العمر 15 عامًا تتلقى العلاج عند أطباء نفسيين، فتم احتجاز العائلة لكنهم تمكنوا من إخراجها، بحسب قوله.
وأشار إلى أن بعض العائلات السورية لديهم جيران أتراك يُعرَفون بإثارة المشاكل، حسب وصفه، فتمّ احتجاز هذه العائلات (تحت ذريعة حمايتها) وإرسالها إلى مركز الترحيل في قيصري، ثم نُقلت بعدها إلى مركز الترحيل في منطقة حران في أورفا التركية.
وأكد عضو الجمعية أنه بعد نقل العائلات من قيصري يصعب التدخل لمساعدتها، لافتًا إلى وجود عائلات طلبت من مديرية الهجرة العودة إلى سوريا، لكن بعد أخذها إلى مراكز الترحيل صدر قرار بعدم الموافقة، “لذلك بقيت هناك ونحن نعمل على إخراجها”.
وتابع: “هناك عائلات لا ذنب لها بكل تأكيد، لكن بعد احتجازها في مراكز الترحيل يصبح الأمر صعبًا إلا عن طريق محامٍ، ونحن نحاول إخراج من يمكننا دون الحاجة إلى محامٍ لكن مع الأسف بعد هذه اللحظة يجب تدخل محامين”، مشيرًا إلى أن عدد العائلات الموجودة في مركز الترحيل في قيصري يتراوح بين 10 و15 عائلة.
إعادة ترتيب الأوراق
أعطت حادثة قيصري دافعًا للسوريين لإعادة ترتيب أوراقهم، إذ بات الكثير منهم يعيش تحت وطأة هواجس الترحيل أو الهجمات العنصرية أو الاحتجاز، ما دفع كثيرين للتفكير والبحث عن طريقة للخروج من تركيا إلى بلاد لجوء أخرى أو العودة إلى سوريا.
وفضّلت الكثير من العائلات العودة إلى سوريا رغم المخاطر التي قد تواجهها، بينما فضّل البعض الآخر خوض رحلة مليئة بالمخاطر والسفر نحو أوروبا بحثًا عن الاستقرار.
“عفش منزل كامل للبيع بدواعي السفر للمهتمين الرجاء التواصل خاص”، هذه العبارة تجدها يوميًا في العديد من المجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة فيسبوك، التي امتلأت بمنشورات لبيع الأثاث المنزلي مذيّلةً بعبارة بدواعي السفر.
وبرر عدد من السوريين في ولاية قيصري الذين عرضوا أثاث منزلهم للبيع، بأن المدينة “لم تعد آمنة كما كانت بالنسبة لهم”، واتخذوا قرارًا بتركها.
عائلة إسراء قررت بيع أثاث المنزل والاستعداد للذهاب إلى أوروبا، قائلة: “لا نريد أن نرحَّل إلى سوريا، ولم تعد لدينا طاقة لتحمّل الهجمات العنصرية المتكررة، وأرى أن لا مستقبل لأولادي هنا”.
وتضيف إسراء لـ”نون بوست”: “نعيش هنا في سجن، فاستخراج إذن السفر بات صعبًا جدًا وغالبًا ما يتم رفضه، ومن ناحية أخرى صعوبة استئجار منزل في حال أراد المالك منزله، وزادت الصعوبة بعد الحادثة، فالكثير من الأتراك باتوا يرفضون تأجير السوريين، بالإضافة إلى حظر الكثير من المناطق أمامهم”.
وأشارت إلى أنه خلال السنوات الماضية حصلت عدة حوادث في قيصري، لكنهم لم يفكروا في السفر على أمل عدم تكرار هذه الحوادث، وأن تولي الدولة اهتمامًا أكثر بمعاقبة من يتهجّم على السوريين، “لكن بعد أن رأينا كيف أحرقوا سيارتنا أمام أعيننا، قررنا بيع أثاث المنزل والاستعداد للسفر رغم معرفتنا بالمخاطر التي سنواجهها”.
أما عمر (56 عامًا) الذي باع جميع أملاكه في ريف حلب في 2016 وافتتح سوبر ماركت في قيصري، لم يكن يعلم أن يتحول كل تعبه إلى سدى خلال لحظات بعد احتراق محله، ما دفعه إلى اتخاذ قرار العودة إلى سوريا، كون السفر إلى أوروبا يحتاج إلى مبالغ كبيرة.
يقيم عمر مع زوجته وأطفاله الثلاثة حاليًا في مدينة سلقين، لكنه يجد صعوبة في إيجاد عمل، كما أنه غير قادر على القيام بأعمال تتطلب مجهودًا كبيرًا بسبب ضعف بنيته الجسدية.
ويعاني الشمال السوري من البطالة وغياب فرص العمل، بالإضافة إلى تدني أجور العمال التي لا تتجاوز 100 ليرة تركية يوميًا.
وخلال الأشهر الماضية ازدادت أعداد السوريين المرحّلين من تركيا إلى الشمال السوري، وهو ما كشفه مدير المكتب الإعلامي لمعبر باب الهوى، مازن علوش، عن عدد العائدين والمرحلين.
وقال لـ”نون بوست” إن عدد العائدين من تركيا إلى الشمال السوري عبر المعبر منذ مطلع العام الحالي حتى 1 أغسطس/ آب بلغ 29 ألفًا و359 مواطنًا موزعين على 14 ألفًا و859 عودة طوعية، 14 ألفًا و500 ترحيل قسري، بينهم 5 آلاف و25 شخصًا في تموز/ يوليو الماضي فقط، منهم 2886 عودة طوعية و2139 ترحيلًا قسريًا.