رغم فرض نظام الأسد سيطرته العسكرية على مناطق وسط وجنوب سوريا منذ 2018، ضمن اتفاقيات التسوية التي رعتها روسيا مع الفصائل، إلا أن هذه المناطق ما زالت تشهد بين الحين والآخر توترات أمنية وتعزيزات عسكرية من قبل النظام.
وكان آخر هذه التوترات، الأسبوع الماضي، عندما وجهت قوات نظام الأسد تعزيزات عسكرية نحو مدينة تلبيسة الواقعة في ريف حمص الشمالي، ومدينة زاكية الواقعة في ريف دمشق الجنوبي، وهما منطقتان خاضعتان لاتفاقيات 2018 وأفضت بخروج من يرغب إلى الشمال السوري، وتسليم السلاح وإجراء تسوية لمن يريد البقاء في منطقته.
ومع السعي المستمر لقوات الأسد إلى تشديد قبضتها الأمنية على هذه المناطق، شكل ذلك رعبًا للأهالي الذين يحاولون مواجهة الحواجز الأمنية وانتشار واسع لتجارة المخدرات التي ترعاها الميليشيات إلى جانب عمليات الخطف والاغتيالات التي تسجل ضد مجهول، وسط أوضاع اقتصادية وسياسية مرهقة تعاني منها البلاد.
لوقا في تلبيسة
أولى هذه المناطق كانت تلبيسة في شمال مدينة حمص، حيث أرسلت قوات الأسد دوريات عسكرية وأمنية بهدف دخول المدينة، بعدما أقدم شبان من أهال المدينة على طرد رتل عسكري حاول وضع حواجز أمنية على مداخلها، ما تسبب في إحداث توترات أمنية.
ويعود التوتر إلى تنفيذ النظام حملة تفتيش ضمن أحياء مدينة تلبيسة بهدف البحث عن مطلوبين والانسحاب الفوري منها بوساطة وجهاء المدينة وإشراف مباشر من قبل رئيس فرع المخابرات العامة حسام لوقا.
ورغم الاتفاق على الانسحاب، إلا أن الرتل العسكري حاول نصب حواجز على مداخل المدينة، مما أثار مخاوف الأهالي الذين تظاهروا وطالبوا بانسحاب الحواجز لأنها تقيد حركة المدنيين وتخالف الشروط المتفق عليها.
وتعود أسباب التصعيد في تلبيسة إلى تكرار عمليات قطع الطريق الدولي M5 من قبل شبان المدينة، بهدف المطالبة بالإفراج عن شخصَين اعتقلتهما الأجهزة الأمنية قبل شهرَين، ما دفع وجهاء المدينة إلى التدخل بهدف فتح الطريق وتقديم وعود بالإفراج عن المعتقلين.
قوات نظام الأسد تفتش أحياء مدينة تلبيسة بريف حمصودفع تكرار حادثة قطع الطريق الدولي رئيس المخابرات العامة في نظام الأسد حسام لوقا، إلى الاجتماع مع وجهاء تلبيسة في 22 أغسطس/ آب الماضي، وأمر بإجراء حملة تفتيش لكن مع وعود عدم التعرض لأي شخص خضع للتسوية ويحمل بطاقة صادرة عن مركز التسويات، فضلًا عن إعادة فرز العناصر المنشقين عن الجيش للفرقة 25 والفرقة الرابعة.
وذكر بيان صادر عن مجلس عوائل تلبيسة، أن اللواء حسام لوقا منح أهال تلبيسة مهلة أسبوع تنتهي في 29 أغسطس/ آب، لتسليم المطلوبين للأجهزة الأمنية قبل الشروع في ملاحقتهم، مؤكدًا في البيان أن “الدولة غير راغبة بالعمل الأمني، لكن استمرار بعض الأشخاص في رفض التسوية وعدم تسليم السلاح واستمرار عمليات الخطف.. يدفع الدولة للتدخل“.
من جانبه اعتبر المحلل العسكري العقيد إسماعيل أيوب، أن ما يجري في تلبيسة ناجم عن خلافات وصراع على النفوذ وفرض للسيطرة على المدينة كونها تعد بوابةً لتجارة المخدرات وحبوب الكبتاغون نحو البادية، مشيرًا إلى أن الخلافات تتركز بين المجموعات والميليشيات المسلحة التي يتبع كل منها لأحد الأجهزة الأمنية.
وأوضح أيوب لـ”نون بوست” أن نظام الأسد يخلق الفوضى الأمنية بين الميليشيات بهدف القضاء على أشخاص وأفراد يشكلون تهديدًا له، بينما يفسح المجال أمام مجموعات وشخصيات أخرى تفرض سيطرتها.
ويسعى نظام الأسد إلى فرض السيطرة على المدينة المقسمة بين 3 مجموعات، أولها محسوبة على الميليشيات التي ترعاها روسيا، وثانيها تابعة للميليشيات الإيرانية، وثالثها مقاتلون ومنشقون عن النظام رفضوا تسليم أنفسهم ومغادرة البلاد، ويتهمهم نظام الأسد بأنهم سبب الانفلات الأمني، إلا أن العديد من المصادر أشارت إلى أن حوادث الخطف وتجارة المخدرات ترعاها ميليشيات محلية تابعة للنظام.
زاكية.. النظام يحاصر المدينة
من وسط سوريا إلى الجنوب الغربي من العاصمة دمشق، حيث استقدمت الفرقة الرابعة التابعة لجيش النظام تعزيزات عسكرية إلى مدينة زاكية، على مدى أيام السبت والأحد الماضيين، وانتشرت معظم هذه القوات على الطرقات المؤدية إلى المدينة بهدف حصارها وفرض طوق أمني على سكانها، وسط تهديدات باقتحامها.
وضمت التعزيزات عربات مدرعة ورشاشات ثقيلة وعشرات العناصر التي انتشرت على الطرق المؤدية لمدينة زاكية قرب قرية الدرخبية، فيما نصبت حاجزًا بالقرب من مناهل المياه الواقعة في الجهة الشرقية المؤدية إلى بلدة المقيليبةن حسب ما ذكر موقع “تلفزيون سوريا”.
وتشهد بلدة زاكية توترات أمنية متواصلة وسط مساعي نظام الأسد لفرض سيطرته عليها، عبر اعتقال الأشخاص المطلوبين للأجهزة الأمنية بينهم مقاتلين سابقين في صفوف المعارضة ومنشقين عن نظام الأسد ومتخلفين عن الخدمة العسكرية، إلا أن رفضهم في تسليم أنفسهم للنظام تسبّب في لجوء الأخير إلى تنفيذ عمليات اغتيال واسعة طالت العديد من الشبان عبر الخلايا النائمة، ما تسبّب في حالة احتقان شديدة بين الأهالي.
ومع استمرار التوترات الأمنية، سيطرت مجموعات محلية على المدينة خلال العام الماضي، بعد طرد ميليشيات الفرقة الرابعة منها، وذلك على خلفية اغتيال أحد أبرز وجوه المعارضين المسلحين فيها، إلا أن ذلك لم يمنع الفرقة من اغتيال آخر بعد شهرَين فقط.
كما أدى حصار المدينة إلى استنفار القوى الثورية في ريف درعا وثوار مدينة جاسم وثوار مدينة نوى، التي أصدرت بيانات تهدد نظام الأسد معتبرة أن حصار نظام الأسد للمدينة بمثابة إعلان حرب في درعا.
وجاء في البيان الصادر عن ثوار مدينة نوى بريف درعا الغربي أن “جلب التعزيزات العسكرية هو بمنزلة إعلان حرب على درعا”، وأكد البيان “أن أول طلقة تُطلق على زاكية ستستهدف بعدها المقار العسكرية في نوى ومحيطها”.
ولا يزال النظام يحاصر المدينة لليوم التاسع على التوالي وسط خشية الأهالي من استخدام نظام الأسد القوة العسكرية، في حين تستمر الوساطات المحلية من قبل بعض الوجهاء لإجراء مفاوضات مع النظام لتفادي مزيد من التصعيد.
لماذا يغيب الاستقرار؟
يرى المحلل العسكري النقيب عبد السلام عبد الرزاق، أن المناطق التي سيطر عليها نظام الأسد خلال عمليات التسوية التي رعتها روسيا خلال العام 2018، لا تخضع لسيطرة النظام بشكل مباشر لذلك تشهد توترات أمنية متواصلة.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن نظام الأسد يسعى لفرض قبضة أمنية مباشرة من خلال اعتقال المعارضين ومصادرة الأسلحة، فضلًا عن توجيه الاتهامات لمعارضيه بالعصابات والفساد، رغم أن أذرعه من الميليشيات والشبيحة التي تقف خلفه”.
وأضاف: “يحاول نظام الأسد السيطرة بالحلول الأمنية على المناطق منذ اتفاقيات التسوية، حتى لا يشعل حربًا داخل مناطق سيطرته وإعادة التهديدات الأمنية”، مؤكدًا أن محاولات نظام الأسد في السيطرة على المنطقة غير مجدية، لأن تعدد الجهات وتبعيتها المباشرة لحلفائه يزيدان من حالة الانفلات الأمني ويمنعانه من أحكام السيطرة، بينما يحاول إلقاء التهم على المعارضين الذين اكتفوا البقاء في منازلهم.
بينما يرى المحلل العسكري إسماعيل أيوب، أن النظام قادر على السيطرة لكنه لا يريد ذلك ليس خوفًا من أحد، إنما السيطرة الكلية تحتاج إلى استخدام الأسلحة الثقيلة والطيران والبطش، وهذا يخرق اتفاق التسوية ويضعه في موقف محرج أمام الدول الراعية للاتفاق.
وقال أيوب خلال حديثه لـ”نون بوست” إن “النظام لديه أجندة تعمل على تنفيذ عمليات الاغتيال والتصفيات وفق جدول زمني، وحالة تلبيسة وريف درعا الجنوبي وغيرهما تتجدد لأنها ممرات تجارية إجبارية لتهريب المخدرات، لذلك نلاحظ استمرار التوترات الأمنية فيها”.
وأضاف أن الانفلات الأمني من مصلحة النظام، لأن ذلك يمنحه إمكانية التدخل وابتزاز الأهالي، وتنفيذ عمليات الاعتقال والتصفية، لكن الأشخاص المنطوين على أنفسهم ولم يتدخلوا في العمليات الأخيرة لا أحد يقترب منهم، بينما يصفّى الأشخاص الذين لديهم تحركات.
وأوضح العقيد العسكري أن استمرار التوترات الأمنية في مناطق التسويات يكون في المناطق التي تتعدد الجهات المسيطرة عليها، بينما المناطق التي تكون تحت سيطرة جهة واحدة تقلّ فيها، وضرب لذلك مثالًا أن مدينة القصير تسيطر عليها ميليشيا “حزب الله”، وتعيش حالة استقرار، بينما باقي المناطق هناك صراع فعلي بين المجموعات العسكرية والأجهزة الأمنية التي تنشط في عمليات تهريب المخدرات، ويتبع كل منها لجهاز أو جهة ما.
حملات اعتقال متفرقة
بالتوازي مع التهديدات بالحل العسكري والأمني في تلبيسة وزاكية، تنشط الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد في تنفيذ حملات دهم واعتقالات بشكل متكرر، في مناطق متفرقة تطال أشخاصًا معارضين للنظام، ومقاتلين سابقين كانوا في صفوف المعارضة السورية، وآخرين متخلفين عن الخدمة العسكرية.
واعتقلت قوات نظام الأسد الأسبوع الماضي 5 أشخاص لأسباب مجهولة خلال حملة أمنية استهدفت ريف القنيطرة الجنوبي. وحسب تجمع أحرار حوران، فإن دورية مكونة من 5 سيارات عسكرية مزودة برشاشات ثقيلة وسيارات تقلّ عناصر من فرع الأمن العسكري والفرقة الرابعة، داهمت عدة قرى بينها قرية عين زيوان، ونقل المعتقلون إلى فرع سعسع التابع للأمن العسكري.
كما اعتقلت قوات نظام الأسد الشابَّين حسام وحسن هندية، اللذين ينحدران من بلدة كفير الزيت الواقعة في منطقة وادي بردى في ريف العاصمة دمشق، أثناء مرورهما على نقاط التفتيش التابعة للأمن السياسي في بلدة مضايا دون وجود مذكرة اعتقال، حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وداهمت دورية الأمن العسكري التابعة لقوات نظام الأسد منزل أحد سكان بلدة التواني الواقعة في منطقة القلمون بريف دمشق، واقتادت صاحب المنزل إلى فرع المنطقة، بينما في أواخر يوليو/ تموز الماضي اعتقلت الأجهزة الأمنية نحو 50 شابًّا من بلدة ببيلا الواقعة في ريف دمشق الجنوبية، بذريعة تخلفهم عن الخدمة العسكرية.
وتستهدف حملات الاعتقال المتكررة التي تنفّذها الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد، مدنيين من مختلف الفئات العمرية، لا سيما الشباب، بهدف تعزيز القبضة الأمنية ومنع النشاطات المعارضة ضدّه، وسط تفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية في مناطق سيطرته.
ويتعرض المعتقلون للاعتقال العشوائي دون مذكرات قضائية، فضلًا عن الاختفاء القسري لأنه لا يسمح لأُسرهم بمعرفة أماكن احتجازهم وتوجيه تهم واضحة إليهم، ما يضاعف معاناة ذويهم في البحث عنهم.
ووثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان نحو 113 حالة اعتقال واحتجاز قسري نفّذتها الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد خلال شهر أغسطس/ آب الماضي، بينما وثقت خلال شهر يونيو/ تموز الماضي نحو ما لا يقل عن 209 حالات اعتقال تعسفي واحتجاز في سوريا، بينها 14 طفلًا و3 سيدات، وتحوَّل 157 منها إلى حالات اختفاء قسري.