طالما شكّلت العلاقة بين الحركات الأيديولوجية — وعلى رأسها الحركات الإسلامية — والبيئات السياسية التي تنشط فيها، موضوعًا غنيًا للتفسير والنقاش في حقل العلوم السياسية والدراسات الدولية. فقد تنوّعت المقاربات التي سعت لفهم ديناميكيات هذه العلاقة: فبعضها ركّز على الفرص السياسية المتاحة لهذه الحركات وكيفية استثمارها، فيما انطلقت مقاربات أخرى من فرضية “الاعتدال والتشدد”، معتبرةً أن سلوك الحركات يتأثر مباشرة بطبيعة تعامل السلطة الحاكمة معها؛ فكلما ازداد القمع والتضييق، ازداد التشدد، والعكس.
لكن هذه الفرضية لا تحظى بإجماع، إذ تشير تجارب معينة- كـ”مراجعات الجماعة الإسلامية” في مصر خلال تسعينيات القرن الماضي – إلى نتائج معكوسة، حيث أدى القمع إلى مراجعات فكرية ومسارات اعتدال. كما تذهب دراسات أخرى إلى أن الانخراط في العملية السياسية، حتى ضمن بيئات معادية، يدفع بالحركات الأيديولوجية نحو الواقعية السياسية، سواء كانت إسلامية، يسارية، أو قومية. فالفعل السياسي، بما يفرضه من تعقيدات وتوازنات، غالبًا ما يُعيد تشكيل الخطاب والممارسة، ويُخضع الراديكالية لمقتضيات اللحظة.
هذا المقال يسعى إلى تفكيك هذه الفرضيات في ضوء التجربة الفلسطينية، وتحديدًا من خلال قراءة تحوّلات حركة حماس ومحاولاتها المتعددة للتموضع السياسي ضمن مقاربات الواقعية السياسية، ودور السلطة الفلسطينية في هذه التحولات.
إفشال واقعية حماس السياسية
في السياق الفلسطيني، تعاملت السلطة الفلسطينية مع حركة حماس عبر مقاربتين رئيسيتين متناقضتين شكلاً، متكاملتين مضمونًا: إما من خلال الإخضاع عبر أدوات أمنية وإدارية متعددة، أو عبر الترويض السياسي، أي احتوائها ضمن الإطار الذي تتحكم فيه السلطة وشروطها. وبين هذين الخيارين، غفلت السلطة عن أحد أبرز التحولات التي بدأت تتشكل داخل حماس هو التحول نحو الواقعية السياسية.
منذ تولّيه رئاسة السلطة في عام 2005، سعى محمود عباس إلى ترسيخ شرعيته السياسية والشعبية عبر تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية، لم تتكرر منذ ذلك الحين. كان الهدف المعلن هو تجديد الشرعية، لكن الأهداف الضمنية كانت مزدوجة: أولًا، إعادة إنتاج موقعه القيادي كوريث رمزي لتاريخ ياسر عرفات النضالي، وثانيًا، إدماج المعارضة، بما في ذلك حماس داخل الإطار السياسي لاتفاق أوسلو، من خلال صهرها في المجلس التشريعي وتحت مظلة السلطة القائمة.
مفارقة تلك اللحظة أن حماس، وإن لم تدعم محمود عباس صراحة، ساهمت ضمنيًا في وصوله للرئاسة عبر “الحياد الفعال”؛ فهي لم تدفع بمرشح منافس، ولم تؤيد أحدًا آخر، تاركة المجال مفتوحًا أمامه لتولي رئاسة السلطة ومنظمة التحرير، وهو الموقع الذي لا يزال يحتفظ به حتى اللحظة.
غير أن نتائج الانتخابات التشريعية التي تلت ذلك عام 2006، جاءت خارج حسابات السلطة، بل وخارج توقعات حماس ذاتها. فقد كان هدف الانتخابات لتكون إحدى أدوات الإخضاع الضمنية، حيث لا تحصل حماس على أغلبية برلمانية، وهو ما لم يتحقق. بل جاءت النتيجة بمثابة زلزال سياسي أطاح بترتيبات مسبقة، وفتح فصلًا جديدًا من الصراع على التمثيل والشرعية داخل النظام السياسي الفلسطيني، حيث تحوّلت محاولة الترويض إلى لحظة تعزيز غير مقصودة لحماس، لم تكن السلطة مستعدة للتعامل معها بغير أدوات الإقصاء.
بعيدًا عن الجدل المطوّل حول أسباب الانقسام الذي أعقب الانتخابات التشريعية في عام 2006، فإن ما بات واضحًا هو أن محمود عباس تبنّى سياسة مواجهة حادة تجاه حركة حماس. وعلى الرغم من أن سيطرة حماس على قطاع غزة، وتصاعد قوتها المسلحة، وارتفاع شعبيتها في أوساط الفلسطينيين في الداخل والخارج، شكلت جميعها دوافع حقيقية للقلق لدى عباس، إلا أن التهديد الأعمق وربما الأخطر تمثّل في بوادر تحوّل حماس نحو الواقعية السياسية، وانخراطها التدريجي في مفردات ومحددات النظام الدولي في التعامل مع القضية الفلسطينية.
ويتجلّى هذا التوجه بشكل لافت في وثيقة “المبادئ والسياسات العامة” التي أصدرتها الحركة عام 2017. ففي هذه الوثيقة، وعلى خلاف ميثاق 1988، تُبدي حماس انفتاحًا على إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967، دون أن تعترف رسميًا بإسرائيل، لكنها تؤسس بذلك لخطاب سياسي براغماتي يعكس مرونة تكتيكية يمكن قراءتها كاقتراب تدريجي من شروط “الرباعية الدولية”، أو على الأقل تفاديًا للتصادم المباشر معها.
كما ترافقت هذه الوثيقة مع تحولات لافتة في خطاب قيادة الحركة، سواء عبر التصريحات التي أطلقها خالد مشعل أو إسماعيل هنية، والتي أكدت على “القبول بالحل المرحلي”، وعلى “العمل ضمن الإطار العربي والدولي”، مع التأكيد المتكرر على “احترام التوافق الوطني” و”المشاركة السياسية.
هذه الوثائق والخطابات، وإن لم تصل إلى مستوى التحوّل الجذري في بنية الخطاب الحمساوي، إلا أنها عكست ميلًا نحو الواقعية، وهو ما فُهم ضمن دوائر السلطة الفلسطينية – وخصوصًا من طرف عباس – كتحول استراتيجي خطير قد يُعزز شرعية حماس دوليًا، ويُعيد خلط الأوراق في الداخل الفلسطيني، ويُهدد احتكار حركة فتح للتمثيل السياسي والدبلوماسي أمام المجتمع الدولي.
مبررات خشية السلطة من واقعية وبراغماتية حماس
إن مخاوف محمود عباس من تحوّل حركة حماس نحو خطاب سياسي واقعي لا تنبع فقط من الحسابات الأمنية أو التنافس الفصائلي، بل من إدراك عميق بأن هذا التحوّل قد يُحدث تغييرًا جوهريًا في المشهد السياسي الفلسطيني، ويقوّض أسس الهيمنة الرمزية التي بنتها حركة فتح والسلطة الفلسطينية منذ نشأتهما. وتتجلّى هذه المخاوف في عدة مستويات متداخلة:
أولًا: أزمة التمثيل الفلسطيني وتاريخ الصراع على “الشرعية السياسية”
من أبرز التهديدات التي تثير قلق القيادة الفتحاوية هي إمكانية تعاطي المجتمع الدولي مع حركة حماس كفاعل شرعي وممثل سياسي للفلسطينيين، ولو بصورة جزئية أو ظرفية. فحركة فتح، ومنذ تأسيسها، لم تخرج تمامًا من مأزق التمثيل الأحادي الذي ظل محل نزاع داخلي، خصوصًا في لحظات الصعود السياسي لقوى محلية أو جيلية خارج أطر القيادة التاريخية.
وأشار عدد من المؤرخين السياسيين إلى أن اتفاق أوسلو نفسه، لم يكن فقط تسوية سياسية مع إسرائيل، بل محاولة داخلية من قيادة فتح (في الخارج آنذاك) لـ”احتكار التمثيل” وقطع الطريق على قوى ناشئة داخل الأرض المحتلة — بما في ذلك تيارات داخل فتح نفسها — كانت تمتلك حضورًا اجتماعيًا وسياسيًا آخذًا في التوسع.
من هنا، فإن دخول حماس على خط الواقعية السياسية، من خلال خطاب منظم ووثائق سياسية “دولانية الطابع”، يُعيد إنتاج الأزمة نفسها، لكن بأدوات وأسماء جديدة.
ثانيًا: معادلة “المقاومة المنضبطة” في غزة – نموذج بديل
في السنوات التي تلت سيطرة حماس على قطاع غزة، استطاعت الحركة أن تنتج نموذجًا مزدوجًا يجمع بين خطاب المقاومة المسلحة، وضبط إيقاع الاشتباك المسلح ضمن أهداف سياسية محددة.
هذه الثنائية، رغم هشاشتها البنيوية، قدّمت نموذجًا مختلفًا عن التجربة الفتحاوية في سنواتها الأخيرة، إذ بدا أن حماس تسعى لتوظيف الفعل العسكري كأداة تكتيكية، لا كغاية أيديولوجية.
بمعنى آخر، بدأ يتشكل نوع من “العسكرية السياسية” التي تحكمها حسابات داخلية، وإيقاع تفاوضي غير مباشر مع إسرائيل (عبر الوسطاء)، دون التخلي عن خطاب المقاومة الرمزي. هذه المعادلة، لو أُعطيت وقتًا أطول، واحتضانا مؤسساتيا من السلطة والمنظمة، أو أُدمجت في إطار سياسي وطني جامع، لكانت قد تحولت لمقاربة جديدة تلجم الاحتلال، وفي نفس اللحظة تخضع للإجماع الوطني الفلسطيني. لكن هذه المعادلة ما كان للسلطة أن تستوعبها، ولا أن تسمح لها بفرض نفسها على إدارة العلاقة مع الاحتلال.
ثالثًا: الترويض كاستراتيجية – وصراع على احتكار “التأهيل السياسي”
سعت فتح، بوصفها الحزب الحاكم، إلى أن تُقدّم نفسها كـ”الطرف الفعال القادر على ترويض حماس”، سواء من خلال الضربات الأمنية المتواصلة في الضفة الغربية، أو من خلال إدماجها في بنية السلطة ذات المرجعية الأوسلوية.
هذه المقاربة الترويضية لم تكن تعني فقط إخضاع حماس أمنيًا، بل إلحاقها رمزيًا داخل خطاب السلطة، كما يظهر جليًا في الإصرار المتكرر على مطالبتها بالاعتراف بـ”شروط الرباعية الدولية” — بما يشمل الاعتراف بإسرائيل، ونبذ “الإرهاب”، والالتزام بالاتفاقات السابقة، وعلى رأسها التنسيق الأمني، الذي يشكل أحد خطوط التماس الأكثر حساسية في العلاقة بين الطرفين.
إن مطالبة حماس باعتراف “كريستالي”، كما يُصطلح عليه فتحاويًا، لا تقتصر على مضمون التصريحات، بل تمثل اختبارًا سياسيًا لمدى استعداد الحركة لتخليها عن هويتها النضالية – وهو ما لم تقبل به حماس حتى الآن.
رابعًا: سيطرة حماس على غزة – من الهامش إلى فرض الواقع
منذ عام 2007، شكّلت سيطرة حماس على قطاع غزة نقطة تحول حاسمة في المشهد الفلسطيني. فمع مرور الوقت، لم تُعد هذه السيطرة مجرد واقع، بل تطورت إلى مدخل لممارسة سلطة سياسية موازية، قادرة على إدارة الحصار، التفاوض مع أطراف دولية، بل والمشاركة الرمزية في المعادلات الإقليمية.
ولعل أحد أسباب تشدد السلطة الفلسطينية في حصار غزة في مراحل معينة يعود إلى هذا الإدراك: أن بقاء حماس في غزة يُكرّس نوعًا من “السلطة غير الرسمية” أو “السلطة البديلة”، التي تهدد تصور السلطة المركزية في رام الله حول وحدانية التمثيل.
جهل الخصم السياسي
لم تنجح السلطة الفلسطينية في بلورة استراتيجية فعّالة للتعامل مع حماس، إذ بدا أنها تتخبّط بين أنماط قديمة من الضبط السياسي، وبين استلهام نماذج قمعية مستوردة تجاه الحركات الإسلامية، دون أن تدرك خصوصية الحالة الفلسطينية وتعقيداتها. فسياسة “العصا والجزرة” التي استخدمتها قيادة فتح تقليديًا في احتواء الخصوم، أظهرت محدودية قدرتها أمام حماس التي لم تكن خصمًا سياسيًا تقليديًا، بل حركة أيديولوجية-اجتماعية تمتلك بنية تنظيمية متماسكة، وخطابًا عقائديًا يتغذى من مواجهة الاحتلال.
والمفارقة الأكثر دلالة أن الحركة، وعلى الرغم من سنوات الحصار المشدد، والاستهداف الأمني والسياسي، والحروب المدمرة المتكررة في قطاع غزة، ظلت تشهد نموًا عضويًا في صفوفها، سواء على مستوى التنظيم أو على مستوى الانتماء الجماهيري. وهذا ما جعلها — بصورة غير مسبوقة في التاريخ السياسي الفلسطيني — الحركة الوحيدة التي حافظت على منحنى تصاعدي متواصل في عدد أنصارها ومؤيديها طيلة ما يزيد عن 38 عاماً من التأسيس، دون أن تمر بمنحنيات انحدار دراماتيكية كما حصل مع معظم الفصائل الفلسطينية الأخرى.
التشدد مقابل البراغماتية
في جولات المصالحة المتكررة، أبدت حماس مرونة في تسليم إدارة الشأن الحكومي، مع تمسكها بخط أحمر أساسي، وهو عدم المساس بالسلاح، وهو ما اعتبرته السلطة تناقضًا بنيويًا مع منطقها.
ومع تولّي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة عام 2016، وطرحه لما عُرف إعلاميًا بـ”صفقة القرن” — التي مثلت تهديدًا مباشرًا لتصورات الحد الأدنى من الحق الفلسطيني — دخلت العلاقة بين حركتي حماس وفتح مرحلة جديدة من التقارب التكتيكي.
ووجدت حماس، في خطاب محمود عباس الرافض للصفقة، أرضية مشتركة يمكن البناء عليها، فانخرطت في موقف داعم ضمنيًا للسلطة، تجاوز الخطاب الفصائلي المعتاد، ولامس حدّ التموضع خلف القيادة الرسمية لمواجهة التحدي الأميركي-الإسرائيلي المشترك.
هذا التقارب تُوّج، عام 2021، باتفاق تاريخي بين حماس وفتح والفصائل الأخرى على إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، للمرة الأولى منذ 15 عامًا من الانقسام. غير أن المثير في هذا السياق ليس فقط الاتفاق بحد ذاته، بل المرونة الاستثنائية التي أبدتها حماس في شروطها ومواقفها، ما يعكس تحوّلًا عميقًا في مقاربتها السياسية، يقوم على البراغماتية والواقعية الحذرة.
فالحركة وافقت، دون اعتراض فعلي، على تبنّي نظام الانتخابات المعتمد على النظام التمثيل النسبي الكامل، رغم إدراكها أن هذا النظام سيحد من فرصها في تحقيق أغلبية صريحة، خاصة في ظل ضعف بنية تنظيمها في الضفة الغربية، نتيجة حملات القمع الأمنية من السلطة والاحتلال.
كما أبدت حماس استعدادًا واضحًا لتجاوز معضلة القيادة، حين فتحت الطريق عمليًا أمام فوز محمود عباس بالرئاسة مرة أخرى دون منافسة حقيقية، وتجنّبت الدخول في سباق قد يُعيد إنتاج حالة الانقسام.
بل إن الحركة ذهبت أبعد من ذلك، حين وافقت ضمنيًا على إقرار مرجعية القرارات الدولية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وعلى أن لا تتصدر تشكيل الحكومة بعد الانتخابات، حتى لو جاءت نتائج التصويت لصالحها. كل ذلك يعكس تحولًا براغماتيًا ناجمًا عن مراجعة لتجربة الحكم في غزة، التي رغم ما وفّرته من نفوذ، أثقلت كاهل الحركة إداريًا وإنسانيًا وسياسيًا، وقلّصت من مساحات المناورة لديها،
لكن المفاجأة جاءت هذه المرة من داخل حركة فتح نفسها، حين قرر تيار واسع مدعوما من عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الأسير مروان البرغوثي، تشكيل قائمة انتخابية مستقلة، ما شكّل تهديدًا مباشرًا لموقع محمود عباس في المعادلة القادمة.
أمام هذا التحدي الداخلي، فضّل عباس إلغاء الانتخابات بصورة أحادية، متذرعًا بموقف الاحتلال من إجرائها في القدس. لكن القراءة السياسية لم تكن تخفى على أحد: لم يكن قرار الإلغاء مرتبطًا بالقدس، بل بالخوف من تفكك هيمنته.
لكن هذه البراغماتية التي قدمتها حركة حماس، التي وصلت حدّ قبول إعادة تموضع الحركة ضمن مؤسسات السلطة، وبحجم تمثيلي أقل من حجمها الحقيقي، لم تجد مقابلًا جادًا من قيادة السلطة الفلسطينية. فإلغاء الانتخابات نسف مسارًا نادرًا لتوافق سياسي شامل كان يمكن أن يعيد تشكيل البيت الفلسطيني، ضمن صيغة توافقية تُخضع جميع القوى لشرعية الصندوق، بما في ذلك بحث موقع المقاومة المسلحة داخل الإطار الوطني.
بعد أيام فقط، اندلعت هبة القدس إثر تهديدات التهجير في حي الشيخ جراح، وتحوّلت إلى نموذج مصغر لما كان يمكن أن يحدث لو أُعيد ترتيب الحالة الفلسطينية: وحدة ميدانية، غضب جماهيري، ومركزية للقدس. لكن السلطة وقفت حينها موقفًا سلبيًا، واكتفت بالمراقبة، وهو ما عزّز الهوة بينها وبين شعبها، وزاد من تآكل شرعيتها الرمزية. وفي نفس الوقت حملت هبة القدس أيضا تحذيرا ضمنيا لحدود استخدام القوة العسكرية نتيجة انغلاق الأفق السياسي الداخلي.
وبذلك، لم تُهدر السلطة فقط فرصة ترتيب البرنامج الوطني، بل فرصة نادرة لأن تقود حركة فتح نفسها الحالة الفلسطينية بموافقة ضمنية من حماس، ولعلّها كانت المرة الأولى منذ الانقسام التي تظهر فيها مثل هذه الإمكانية.
هذا الفشل ترك أثرًا عميقًا في المزاج الفلسطيني العام، حيث تعمّقت مشاعر الإحباط من السلطة نتيجة عدميتها السياسية، سواء بين المجتمع الفلسطيني أو داخل الفصائل الفلسطينية. وكانت حماس أول من تلقّى صدمة هذا الإجهاض، إذ بدا أن الواقعية السياسية التي راهنت عليها، وقبلت بموجبها تقديم تنازلات على مستوى السلطة، بل وحتى على مستوى البرنامج الوطني نفسه لصالح برنامج منظمة التحرير، لم تُقابل بشيء سوى المراوغة والتشدد من قبل السلطة.
بناءً على هذه التجربة، أعادت الحركة النظر في رهاناتها السياسية، وخلصت إلى أن المراهنة على الواقعية السياسية، دون شريك وطني موثوق أو ضمانات حقيقية، لم تعد خيارًا مجديًا؛ فمالت مجددًا نحو تفعيل أوراق القوة التي لا تزال تملكها — وفي مقدّمتها السلاح — باعتباره وسيلة ضغط يمكن أن تحدث خرقاً في الأفق السياسي.
كيف أُهدرت اللقاءات الوطنية قبل السابع من أكتوبر 2023؟
التقت الفصائل الفلسطينية قبل السابع من أكتوبر في العديد من المناسبات، كان أبرزها لقاء الجزائر في منتصف أكتوبر 2022، وفي أنقرة في 26 يوليو 2023، والعلمين في مصر في أواخر يوليو 2023. ورغم الزخم الذي رافق اللقاءات الوطنية بين الفصائل الفلسطينية قبل السابع من أكتوبر 2023، فإنها لم تُفضِ إلى نتائج ملموسة، وبدل من تشكل اللقاءات الوطنية الفلسطينية آلية للتقارب وانهاء الانقسام، أصبحت محطات مكثفة للإهدار السياسي.
ففي إعلان الجزائر، تم الاتفاق على إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني في الداخل والخارج خلال عام من توقيع الاتفاق، أي في أكتوبر 2023، وهو نفس الشهر الذي شهد انطلاق عملية “طوفان الأقصى”. غير أن هذا الاتفاق لم يترجم إلى أي خطوات إجرائية، ما يكشف عن خلل في الإرادة السياسية للسلطة الفلسطينية.
خلال لقاءات أنقرة والعلمين، عرضت حركة حماس مطالبات انطلقت من إعادة تقييم الواقع، الذي يشير إلى التصعيد الإسرائيلي وتراجع أولويات القضية الفلسطينية على الأجندات الإقليمية والدولية، وفشل خيار أوسلو، وتجاوز التطبيع العربي القضية الفلسطينية، من هذا المنطلق طالبت حماس مع العديد من الفصائل على ضرورة إعداد برنامج وطني يعيد الزخم للقضية الفلسطينية، وضرورة الانفتاح على كافة الخيارات النضالية لمواجهة الاحتلال، وأهمية ترتيب البيت الفلسطيني.
في اللقاءات الثلاثة سعت حماس لتحقيق توازن بين مشروعها ومبادئها والانخراط في النظام السياسي الفلسطيني. هذه النقطة تُبرز استيعاب الحركة للواقع الفلسطيني الذي لا يمكن فيه الاستمرار بالمقاومة العسكرية فقط، بل يتطلب مشاركة سياسية أيضًا لتحقيق أهداف وطنية أوسع، وإعادة تفعيل حركات التضامن مع فلسطين.
أبدت السلطة انفتاحًا رسميًا على اللقاءات، لكنها تعاملت معها كإطار دعائي أكثر من كونه ملزمًا. وذلك لسعيها لاحتواء الضغوط الجزائرية والمصرية الداعية للتوافق الفلسطيني. ولم تبادر إلى خطوات عملية لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، خاصة فيما يتعلق بإصلاح منظمة التحرير أو تنفيذ الانتخابات. وأصرت على إلزام الفصائل بالتزامات السلطة تجاه أوسلو كشرط لأي شراكة مستقبلية. ولم يظهر تجاوب فعلي مع اقتراحات الفصائل بشأن إعادة بناء المنظمة على أسس جديدة تراعي مستجدات الواقع وانقضاض اليمين الصهيوني على حلم الدولة الفلسطينية.
التكلفة السياسية للجمود: تشدد السلطة بعد طوفان الأقصى
بعد السابع من أكتوبر، دخل المشهد الفلسطيني مرحلة جديدة، ترافقت مع إبادة للمجتمع الفلسطيني في غزة، وموجة تضامن دولي وشعبي واسعة. كان بمقدور السلطة الفلسطينية، في تلك اللحظة المفصلية، أن تعيد تعريف دورها الوطني والسياسي، وأن تسحب فعليًا الذرائع التي يستخدمها الاحتلال لتبرير إبادته.
وقد كان بإمكانها أن تتحرك على مسارين متكاملين:
- تعزيز الجبهة الداخلية الفلسطينية، عبر خطاب وحدوي جامع، وبرنامج وطني متماسك يُعيد بناء الثقة الشعبية ويواجه مشروع الإبادة.
- التحرك الدبلوماسي والقانوني المكثّف، لتقديم إسرائيل كدولة مارقة أمام القانون الدولي، بما في ذلك تفعيل الملفات المجمدة، والانخراط الجاد في آليات المساءلة.
لكن السلطة وضمن المنطق المقلوب، اعتبرت هذين المسارين من هو يعطي مبرر للاحتلال للانقضاض على السلطة، وأهدرت لقاء بكين الذي جمع الفصائل الفلسطينية في 23 يوليو 2024 وتجنبت تنفيذ مخرجاته، وعلى نفس المسار في أعقاب تفاقم العدوان على غزة، طرحت مصر مبادرة لتشكيل لجنة إدارية تُدير القطاع، تتبع إداريًا للسلطة في رام الله.
هذه المبادرة، التي وافقت عليها حركة حماس، كانت فرصة نادرة لإعادة حضور السلطة في غزة عبر بوابة سياسية توافقية. غير أن السلطة رفضت المقترح، لتفقد بذلك فرصة في استعادة شرعية سياسية أمام المجتمع الدولي، وتوفير أرضية توافقية كانت ستقيد الاحتلال في تنفيذ مشروعه بتفتيت وحدة الجغرافيا والقرار الفلسطيني، فالأولوية للسلطة هنا انهاك حماس لا إعادة تأهيلها.
بعد إعلان وقف إطلاق النار في 19 يناير الماضي، فجأة انشغلت وقلقت السلطة الفلسطينية بسبب لقاءات قادة حركة حماس مع المبعوث الأمريكي لشؤون الأسرى، آدم بوهلر، وقد سارعت الرئاسة الفلسطينية، في بيان رسمي في 11 مارس الماضي، إلى انتقاد حماس بسبب ما وصفته بـ”إجراء مفاوضات واتصالات مع جهات أجنبية دون تفويض وطني”.
لكن هذا التصعيد السياسي يكشف عن مفارقة واضحة في خطاب السلطة. فبينما ترى في لقاءات حماس مع مسؤولين أمريكيين مساسًا بـ”الشرعية”، كانت قد غضّت الطرف عن تواصل حماس المستمر مع عدد من الأطراف الإقليمية والدولية، وحتى عن مشاركتها غير المباشرة في صيغ تفاوضية بوساطة أطراف خارجية خلال سنوات سابقة.
في جوهر الموقف، لا يتعلق الأمر فقط بالاعتراض على شكل الاتصال، بل بالخوف من أن تكون حماس نجحت، بعد الحرب، في ترسيخ موقعها كفاعل سياسي لا يمكن تجاهله، حتى من قبل الولايات المتحدة ذاتها. وخاصة بعدما جربت حركة حماس المعادلات الدولية الناشئة بعد السابع من أكتوبر، والتي فاجأتها وكانت على خلاف ما توقعت. خشيت السلطة أن يكون عند حماس ما تقايض به الإدارة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب. وهذا ما أثار القلق الحقيقي لدى السلطة، والأولوية كانت لها تقييد حماس سياسيًا أكثر من مواجهة الاحتلال ذاته.
ختاما:
في المحصلة، لم تكن العوائق أمام تحوّل حماس نحو الواقعية السياسية نابعة من بنيتها الأيديولوجية، ولا من جناحها العسكري، ولا من افتقارها إلى الخبرة السياسية، بل جاءت من خارجها، وتحديدًا من موقف قيادة السلطة الفلسطينية التي اختارت، في كل محطة تقريبًا، أن تواجه مرونة حماس بتصلّب، وأن تقابل التنازلات بالرفض.
وعليه، يمكن القول أن التفسيرات التي تم الإشارة لها في بداية المقال حول علاقة تشدد السلطة على اعتدال/تشدد حماس أصبحت معكوسة هنا، وإن ما بدا من أن اعتدال السلطة يشكّل كابحًا لتشدد حماس، قد انقلب واقعيًا إلى معادلة عكسية، فكلما أبدت حماس انفتاحًا سياسيًا، واجتهادًا في مقاربة المشهد وفق توازنات جديدة، قابلتها السلطة بمزيد من التشدد والانغلاق، وكأن منطق الصراع مع حركة حماس أولى من منطق التفاهم معها على إدارة الصراع مع الاحتلال.