يحل عيد الأضحى بالنسبة للمغاربة هذه السنة بلا خرفان تعج بها الأسواق، ولا سكاكين تُشحذ في الساحات، ولا أكوام من الفحم في الأزقة، وذلك في بلدٍ ارتبط “العيد الكبير” فيه بطقوس متجذرة في الوجدان الشعبي، فقد أعلن أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أن الملك محمد السادس أهاب بالمغاربة عدم القيام بشعيرة ذبح أضحية العيد هذه السنة.
وذلك للمرة الرابعة في تاريخ البلاد، في ظل تداعيات مواسم الجفاف المتلاحقة التي أربكت السوق الوطنية للحوم الحمراء، وهو القرار الذي قوبل بردود فعل متباينة لكنها على خلاف المرات السابقة، خلت من الغضب الشعبي المعتاد، بل سُجل فيها بعض الارتياح، خاصة في ظل الارتفاع المهول للأسعار بما في ذلك أسعار الأضاحي.
تاريخ الإلغاء: بين حرب الرمال والسنين العجاف
ليست هذه المرة الأولى التي تُلغى فيها شعيرة ذبح أضحية العيد بالمغرب، ففي عام 1963 كانت البلاد قد خرجت لتوّها من “حرب الرمال” مع الجزائر، وهي مواجهة حدودية قصيرة لكنها استنزفت موارد الدولة الفتية، التي كانت في طور البناء بعد الاستقلال، وأربكت توازنها السياسي والاجتماعي، مما دفع الملك الراحل الحسن الثاني حينها إلى إعلان إلغاء الأضحية نظراً لـ”الظروف القاهرة”، وتوجيه الموارد المتاحة نحو إعادة بناء الاقتصاد الوطني وتخفيف الأعباء عن المواطنين.
ثم في سنتي 1981 و1996، عرفت البلاد موجتين عنيفتين من الجفاف، استدعتا قرارات مشابهة بتعليق الذبح خلال عيد الأضحى، تفاديا لانهيار القطيع الوطني وضمانا لاستقرار السوق وتخفيفا للعبء الاقتصادي على المواطنين.
كما جرى تبرير القرار حينذاك. وهو ما خلّف ردود فعل ساخطة تراوحت بين الغضب الشعبي والامتعاض الصامت، خصوصا في القرى، تحديدا في سنة 1981 التي تزامن فيها قرار الإلغاء مع تصاعد الاحتجاجات خاصة في مدينة الدار البيضاء التي شهدت “انتفاضة يونيو 1981″، نتيجة تفاقم الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار المواد الأساسية.
حين يصبح الإلغاء نعمة
لقد تسببت سبع سنوات من الجفاف المتتالي في تدهور المراعي الطبيعية في المغرب، ما أثّر بشكل مباشر على تغذية الماشية وأدى إلى تراجع إنتاج اللحوم داخل المغرب، وبالتالي انعكس على السوق بارتفاع حاد في أسعار اللحوم الحمراء، واضطرار المملكة إلى زيادة وارداتها من المواشي واللحوم المستوردة. وبحسب المعطيات الرسمية، انخفض عدد رؤوس الماشية بحوالي 38% مقارنة بما كانت عليه قبل تسع سنوات.
وفي محاولة لسد النقص وضبط الأسعار، استورد المغرب خلال العام الجاري 124 ألف رأس من الأغنام، و21 ألف رأس من الأبقار، إلى جانب 704 طن من اللحوم الحمراء، وفق تصريحات سابقة لوزير الفلاحة أحمد البواري.
كما تضمنت ميزانية 2025 إجراءات استثنائية لتعليق الرسوم الجمركية وضريبة القيمة المضافة على واردات الماشية والأغنام والإبل واللحوم الحمراء، بهدف الحد من تقلبات السوق.
وربط الملك محمد السادس عدم أداء شعيرة أضحية العيد لهذه السنة بـ”تحدّيات مناخية واقتصادية، أدّت إلى تسجيل تراجع كبير في أعداد الماشية”، واعتبر أن القيام بها في هذه الظروف الصعبة سيلحق ضررا بفئات كبيرة من أبناء الشعب، خاصة ذوي الدخل المحدود منهم.
وكانت أسعار الأضاحي في عيد الأضحى الماضي قد بلغت مستويات قياسية، وهو ما جعل من قرار الإلغاء هذه السنة، خِلافا للمرات السابقة، وبسبب السياق النفسي والاقتصادي حيث المواطن مثقلٌ بتداعيات غلاء الأسعار وعجز القدرة الشرائية؛ قرارا مريحا وجد فيه كثيرون رفعا للحرج عن الأسر المغربية، لكنه يمس وجدان المغاربة.
الأضحية في الوجدان المغربي
لا يعتبر عيد الأضحى، أو “العيد الكبير” كما يسميه المغاربة، مجرد شعيرة دينية هدفها التقرب إلى الله، وإنما يتجاوز ذلك ليُشكّل لحظة اجتماع أسري ومناسبة لإدخال الفرح على قلوب الأطفال، ومؤشرا على “الرجولة الاجتماعية”.
ولى مر التاريخ، امتزجت شعيرة النحر في السياق المغربي ببعد اجتماعي احتفالي راسخ في نمط الحياة القبَلي الذي يتسم بالتضامني، حيث كان العيد مناسبة لتقاسم الفرح والخير بين الفقراء والأغنياء. وهو ما تتمسك به بعض فئات المجتمع إلى اليوم، محافِظة بذلك على تقليد تقاسم الفرح واللحم مع من لا يملكون القدرة على اقتناء الأضحية.
في كثير من المدن والقرى، يحرص أفراد وجمعيات مدنية، على شراء الأضاحي وتوزيعها على الأسر المعوزة، ويكمن خلف هذا السلوك إدراك ضمني بأن القيمة الدينية للشعيرة لا تكتمل إلا إذا اقترنت بالعدالة الاجتماعية، وأن بهجة العيد تصبح ناقصة حين تُختزل في طقس الاستهلاك والتباهي.
وفي السنوات الأخيرة بدأ هذا البُعد الجماعي التضامني في التآكل لصالح نمط فرداني غيّر من نظرة الأفراد إلى الدين ذاته، حيث لم تعد الأضحية عند كثيرين وسيلةً للتقرب إلى الله وللتضامن بين فئات المجتمع، وإنما أصبحت أداةً لتأكيد المكانة الاجتماعية، وهو ما حوّلها من شعيرة دينية إلى عبء اقتصادي ونفسي، فالعجز عن شراء الأضحية صار يُفهم كفشل اجتماعي، لا كمبرر للإعفاء الديني، بل إن البعض يلجأ إلى تبريرات اجتماعية مثل “من أجل الأولاد” أو “لا يمكن أن نُحرم من العيد”، في سياق يفرض الامتثال الرمزي أكثر مما يستدعي الفهم الصحيح للشريعة.
هذا التحول أدّى إلى ما يشبه الانفصال بين المقصد الديني والواقع المعاش، حيث أُفرغت هذه الشعيرة من معناها الأصلي، فلم يعد العيد لحظة روحية بقدر ما صار اختبارا للقدرة الشرائية ومكانة الأسرة في سُلَّم التراتب الاجتماعي، مما حوّل العيد لدى كثيرين إلى محنة اجتماعية تضغط على الأسر وتجعل من المناسبة عبئا أكثر منها مناسبة للفرح والتقرب إلى الله، فحتى الأسر التي تعجز عن الذبح تعيش إحساسا بالعار، ما يدفعها للاستدانة لتجنّب الحرج أمام الجيران والأقارب.
هذا الضغط المجتمعي لا يُمارَس فقط على الكبار، بل يمتدّ إلى الأطفال الذين قد يشعرون بالنقص إذا لم يشاهدوا أضحية في بيتهم، وفي كثير من الأحياء يتحوّل العيد إلى ساحة للمنافسة بين الأسر على نوعية الأضحية وثمنها، ما يعزز منطق التفاخر بدل روح التقرب.
كما أن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم صارت تلعب دورا كبيرا في تكريس هذا التوجه، حيث يتم استعراض أنماط حياة لا تعكس الواقع الاقتصادي، بل تُغذّي هوس التظاهر والنجاح الظاهري، ما يزيد من الفجوة بين القدرة الشرائية للمواطنين ورغباتهم، ويعمّق من الضغوط النفسية لدى الفئات الأقل دخلا، التي تجد نفسها مُلزمة بالمشاركة في “العيد الجماعي” حتى لو كان ذلك على حساب استقرارها المالي.
عموما، وعلى الرغم من أن الأضحية في أصلها سُنّة تُؤدى ممن استطاع إليها سبيلا، إلا أن السياق المغربي منحها طابعا إلزاميا، وصل إلى درجة أن كثيرين يضطرون إلى الاقتراض أو تحمّل أعباء مالية تفوق طاقتهم، ذلك أن عيد الأضحى في المغرب لم يعد مجرد مناسبة تعبدية، بل صار طقسًا اجتماعيا تُقاس من خلاله الرجولة والكرم و”هيبة البيت”، وهو ما يجعله فعلا مُركبا تتداخل فيه القيم الدينية مع العُرف الثقافي والضغط الرمزي.
وهكذا، تحوّلت شعيرة يُفترض أن تكون اختيارية إلى واجب غير مُعلن، في ظل تراجع فهم مقاصد الدين لدى شريحة واسعة من المجتمع، واختفاء جزء كبير من الأبعاد التضامنية التي كانت تميز هذه المناسبة في الوجدان الشعبي، ليأتي في النهاية قرار منعها هذه السنة، بسبب الجفاف الذي تعرفه البلاد، كلحظة اختبار تكشف مغزى الشعائر في مجتمع تغيّر فيه العيد بين الأمس اليوم، من مناسبة للتضامن إلى مناسبة للاستعراض.