رغم الأهمية الاقتصادية القصوى للمنافذ الحدودية في العراق، بوصفها شريان التجارة الحيوي، إلا أن الواقع يكشف عن نزيف مستمر للأموال عبر هذه البوابات، إذ يحذر خبراء الاقتصاد من تحوّل هذه المنافذ إلى ثغرات تُهدر من خلالها عشرات مليارات الدولارات سنويًا دون فائدة فعلية للدولة أو المواطن، وسط مطالبات بضرورة مكافحة الفساد المالي في النظام الجمركي.
خسائر فادحة
في ظل ما يُوصف بـ”الانفلات الجمركي”، تكشف البيانات الرسمية عن خسائر مالية كبيرة تكبّدها العراق خلال السنوات الماضية نتيجة ضعف الرقابة، واستشراء الفساد في المنافذ.
في إطار ذلك، كشف الخبير الاقتصادي منار العبيدي، في 10 يونيو/ حزيران 2025، أن العراق فقد خلال الفترة من 2019 إلى 2024 أكثر من 20 تريليون دينار عراقي (نحو 15 مليار دولار) بسبب فساد النظام الجمركي، وتحويلات مالية للاستيراد لم تخضع لأي رقابة.
وبحسب بيانات البنك المركزي، بلغ إجمالي التحويلات الرسمية للاستيراد نحو 314 مليار دولار، بينما لم تحصل الدولة سوى على 6.4 مليار دولار كعوائد جمركية، أي 2% فقط من الإجمالي.
تشير التقديرات إلى أن التعرفة الجمركية المتوسطة يفترض أن تبلغ 7%، وهو ما كان سيحقق نحو 29 تريليون دينار (22 مليار دولار) كعوائد، لكن الفاقد الفعلي تجاوز 21 تريليون دينار (16 مليار دولار).
وأشار العبيدي إلى أن هذا الفاقد لا يُفسر بالإعفاءات فقط، بل بوجود ثغرات هيكلية، مثل تحويل بعض المستوردين مسارات الشحن نحو منافذ كردستان، حيث تُجبى الرسوم محليًا ولا تُحوّل إلى الخزينة الاتحادية.
كما نوّه إلى انتشار الاستيرادات الوهمية، وتحايل المستوردين عبر تزوير الفواتير وتقليل قيمة الشحنات، إضافة إلى التهريب عبر منافذ غير رسمية لا تخضع لأي رقابة مركزية، محذرًا من أن استمرار هذا النزيف سيُبقي العراق في عجز دائم، ويمنح القوى المتنفذة مزيدًا من السيطرة على موارد الدولة.
ثقب أسود
من جانبه، قال الكاتب والباحث السياسي وقاص القاضي، إن الفساد في المنافذ الحدودية العراقية يُوصف بـ”الثقب الأسود” الذي تُبتلع فيه مليارات الدولارات سنويًا، في ظل صعوبة تتبع مصيرها بسبب الغطاء السياسي الذي توفره جهات متنفذة لوكلائها داخل المعابر.
وأشار القاضي، في حديثه لـ”نون بوست”، إلى حادثة مروعة تؤكد خطورة هذا الملف، حيث جرى اغتيال أحد منتسبي الشرطة، ورُميت جثته في حوض وقود (كاز) عقب كشفه معلومات عن تهريب النفط في منافذ البصرة.
وأوضح القاضي أن حجم الأرباح التي تحصدها بعض الجهات السياسية عبر بواباتها الاقتصادية داخل المنافذ يُعد مهولًا، في ظل غياب رقابة فعالة، رغم إدخال نظام “الاكسيودا” لأتمتة العمل في بعض المواقع.
وفي قراءة فنية للأرقام الرسمية، يسلط الخبير الاقتصادي أحمد صدام الضوء على الفجوة الكبيرة بين الإيرادات المتوقعة والفعلية للمنافذ الحدودية، ويؤكد صدام، في حديثه لـ”نون بوست”، أن المنافذ الحدودية في العراق تُعد واحدة من أبرز مصادر الهدر المالي، بسبب صفقات غير شرعية تُبرم بين بعض الموظفين والتجار، تشمل تمرير البضائع وتخفيض الرسوم الجمركية عبر التلاعب بالمناشئ ونوعيات السلع.
وبيّن صدام أن الإيرادات الجمركية لعام 2024 لم تتجاوز 1.6 مليار دولار، في حين يُفترض أن تبلغ 3 مليارات دولار على الأقل، استنادًا إلى متوسط استيرادات يبلغ 60 مليار دولار، وتعرفة جمركية تقديرية لا تقل عن 5%، ما يعني أن أكثر من 45% من العائدات المفترضة قد تلاشت بفعل الفساد.
فيما يخص الإصلاح، دعا صدام إلى أتمتة العمليات الجمركية بالكامل، وتقليص التعامل الورقي للحد من التلاعب، إضافة إلى إعادة هيكلة الكوادر، وتدوير الموظفين بين المنافذ، معتبرًا أن فرض ضريبة على التحويلات المالية بدلًا من السيطرة على البضائع الفعلية يُعد إجراءً اقتصاديًا خاطئًا، إذ يطال حتى الأموال غير المخصصة للاستيراد.
كما حذر الخبير الاقتصادي من أن استمرار هذه التجاوزات يُضعف الإيرادات غير النفطية، ويؤدي إلى ارتفاع الأسعار في السوق المحلية، نتيجة تحميل تكاليف الفساد على كاهل المواطن.
اتهامات وإجراءات
كان من المفترض أن تُوحَّد إدارة المنافذ العراقية لضمان العدالة في التحصيل، إلا أن الواقع يعكس انقسامًا واضحًا بين المركز والإقليم، وسط اتهامات متبادلة، ومحاولات إصلاح متأخرة.
تواجه هيئة المنافذ العراقية تحديًا سياسيًا وإداريًا؛ إذ اتهمتها مديرية الجمارك في إقليم كردستان، في بيان، بأنها هيئة “غير قانونية” أُنشئت للتغطية على الفساد، معتبرة أن هجماتها على الإقليم تحركات سياسية لصرف الأنظار عن إخفاق المؤسسات الفيدرالية.
وأكد بيان جمارك الإقليم، الصادر في 4 يونيو/ حزيران الجاري، أن معابر كردستان تعمل بنظام شفاف، بعكس ما يشهده باقي العراق من فساد وسوء تنظيم. في المقابل، أصدرت هيئة المنافذ الحدودية، في 6 يونيو/ حزيران، توصيات تهدف لتعزيز الرقابة وتعظيم الإيرادات، عبر جباية الرسوم الفعلية، ومنع التلاعب، وتفعيل الحوكمة الإلكترونية، وتدقيق الفواتير وربطها بالجهات المالية والرقابية للكشف عن الشركات المشبوهة، مع إحالتها إلى مكتب مكافحة غسل الأموال.
كما شددت الهيئة على ضرورة تطبيق قرارات الحكومة الاتحادية على منافذ كردستان، لضمان توحيد الرسوم، وتفعيل خلايا استخبارية داخل المنافذ لرصد مظاهر الفساد. وأكد رئيس الهيئة، اللواء عمر الوائلي، على تقييم الموظفين واستبعاد من تحوم حولهم الشبهات، إلى جانب تحسين الخدمات في المنافذ مثل الشلامجة وسفوان.
لكن، ورغم هذه الخطوات، تظل المشكلة الأكبر في غياب السيطرة الكاملة على بعض المنافذ، والتي، وفقًا لتصريحات عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية، النائب كاظم الشمري، في فبراير/ شباط الماضي، فإنها تخضع لهيمنة قوى سياسية وحزبية داخل مجلس النواب، ما يجعل الإصلاح الحقيقي أمرًا بالغ الصعوبة في ظل تضارب المصالح وتعدد مراكز النفوذ.
وحول ذلك، بيّن الصحفي وقاص القاضي أن العراق يمتلك 22 منفذًا رسميًا بريًا وبحريًا، كان يُفترض أن تُشكل ركيزة رئيسية للإيرادات غير النفطية، إلا أنها تحولت إلى منابع تمويل لأحزاب وقوى سياسية، وسط عجز حكومي عن كبح جماح الفساد بسبب التوافقات الحزبية.
ونقل القاضي عن رئيس لجنة الأمن والدفاع النيابية، كريم عليوي، قوله إن “فساد المنافذ مذهل ومخزٍ”، مضيفًا أن بعض الجهات تحصل على عوائد كاملة من هذه المرافق بنسبة تصل إلى 100%.
وتحدث القاضي عن إقليم كردستان، بوصفه حالة خاصة في هذا الملف، مشيرًا إلى وجود 7 منافذ رسمية معلنة، وعدد غير معلوم من المنافذ غير الشرعية، تُستخدم لإدخال البضائع دون رقابة الحكومة الاتحادية.
ونوّه إلى أن الخلاف بين بغداد وأربيل بشأن المعابر لا يخلو من أبعاد سياسية، إذ تسعى قوى “الإطار التنسيقي” لاستخدام الملف كورقة ضغط ضد الأحزاب الكردية وتحجيم تحالفاتها الانتخابية، في حين يرى آخرون أن طهران تضغط في هذا الاتجاه بسبب وجود مقرات للمعارضة الإيرانية في الإقليم، فضلًا عن رفض أربيل الخضوع لمطالب مرتبطة بملف الغاز والعقود الأوروبية.
يكشف واقع المنافذ الحدودية في العراق عن منظومة مختلة، تتقاطع فيها المصالح السياسية مع الفساد الإداري، ما يهدد الأمن المالي للبلاد، ويقوض فرص الإصلاح الحقيقي. وبين الأرقام الصادمة والتصريحات المتضاربة، يبقى الرهان على إرادة سياسية جادة تعيد ضبط هذا الملف الحيوي، وتحوله من بوابة للهدر إلى مورد فعلي لدعم اقتصاد البلاد.