ترجمة وتحرير نون بوست
في 11 تموز/يوليو 2003، انتشرت في شوارع سراييفو ملصقات كبيرة تُظهر شابة تحدّق مباشرة في الكاميرا، وقد كُتبت بخط اليد باللغة الإنجليزية على الصورة العبارات التالية: لا أسنان…؟ شارب…؟ رائحتها نتنة…؟ فتاة بوسنية! وفي أسفل الصورة توضيح: “كتابة جرافيتي لجندي هولندي مجهول على جدار ثكنة عسكرية في بوتشاري، سربرنيتسا، 1994/1995. كانت قوات الجيش الملكي الهولندي ضمن قوات الحماية التابعة للأمم المتحدة في البوسنة والهرسك من 1992 إلى 1995 المسؤولةً عن منطقة سربرنيتسا الآمنة”.
نال هذا العمل شهرةً دوليّةً بعدما عُرض في معارض حول العالم، وهو من إبداع الفنانة المقيمة في سراييفو شيلا كاميريتش، التي استعانت بصورة التقطها المصوّر المحلي طارق ساماره في بوتشاري بعد سنة 2001. واليوم بعد مرور ثلاثة عقود، أسمع مجددًا دعواتٍ لنشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في غزة وأجزاء أخرى من فلسطين. لكن يصعب عليّ أن أرى أي جدوى حقيقية قد يجلبها ذلك لمن يعيشون تحت الاحتلال، محرومين حتى من أبسط حقوقهم بما في ذلك الحق في الحياة.
خيانة الأمم المتحدة
قبل ثماني سنوات من إنجاز كاميريتش عملها الفني، وتحديدًا صباح الثالث من تموز/يوليو 1995، دخلت القوات العسكرية والشرطة بقيادة مجرم الحرب المدان راتكو ملاديتش مدينة سربرنيتسا. بعد أكثر من ثلاث سنوات من الحصار، فرّ عشرات الآلاف من السكان هربًا من الموت. توجهوا نحو قاعدة الأمم المتحدة في بوتشاري متمسّكين بأمل الحماية التي يمكن أن يوفّرها لهم مئات جنود حفظ السلام الهولنديين المتمركزين هناك منذ سنة 1993. سرعان ما اكتظ مجمع الأمم المتحدة بأكثر من ستة آلاف شخص فيما لجأ نحو عشرين ألفًا آخرين إلى مبانٍ قريبة.
في 11 تموز/يوليو 1995، بدأت قوات ملاديتش بفصل الرجال عن النساء والأطفال وكبار السن. وصلت حافلات لنقل نحو 25 ألف شخص من سربرنيتسا إلى مناطق خارج سيطرة ملاديتش. أما الرجال الباقون – أكثر من 8 آلاف – فقد أُخذوا بعيدًا، ولم يُرَ معظمهم أحياء مرة أخرى. أما من عُثر على رفاتهم، وأحيانًا على عظمة واحدة فقط منهم، فقد وُوروا الثرى في مركز النصب التذكاري في موقع قاعدة الأمم المتحدة السابقة.
من المقرّر هذه السنة في 11 تموز/يوليو دفن سبع عظام مُعرّف عليها بعد مرور ثلاثين عامًا على الإبادة الجماعية. ولا يزال الآلاف المفقودين مجهولي المصير حتى اليوم. بالنسبة للبوسنيين، في ذلك اليوم القائظ من تموز/يوليو 1995 مات حتى مفهوم “الحماية الأممية” في بوتشاري. لقد ارتُكبت الإبادة الجماعية في سربرنيتسا على مرأى من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، التي لم تفشل فقط في منعها بل لم تحاول حتى إيقافها. كان الشاغل الرئيسي للأمم المتحدة والمجتمع الدولي حينها هو كيفية إجلاء الجنود الهولنديين والموظفين الدوليين من سربرنيتسا.
لم يطلبوا تعزيزات رغم قدرتهم على ذلك. ولم يستخدموا أسلحتهم لحماية المدنيين. واكتفوا بالمشاهدة بينما يُفصل الناس ويُقتلون ويُهجّرون ويُغتصبون ويُسلبون. لسنوات بعد ذلك الصيف، لم يدخل أحد إلى قاعدة الأمم المتحدة في بوتشاري. وعندما تمكن الناس من الدخول أخيرًا سنة 2001، وجدوا كتابات جرافيتي تركها الجنود الهولنديون ومنها تلك التي استُخدمت في عمل كاميريتش الفني.
من غير المعروف بالتحديد متى كُتبت عبارات الغرافيتي، لكنها تكشف لنا كيف كان الجنود الهولنديون ينظرون إلى النساء اللواتي كنّ – مثل جميع من في سربرنيتسا – محاصرات في مدينة تحت الحصار متشبّثات بحياتهنّ الهشة.
في تشرين الأول/أكتوبر 1995، نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش أول تقرير لها عن سربرنيتسا ودور الأمم المتحدة هناك. وقد خلص التقرير إلى أنّه “رغم كون المناطق الآمنة ربما أُنشئت بنوايا حسنة، إلا أنها تحولت في الواقع إلى غيتوهات عرقية تديرها الأمم المتحدة”.
مناطق غير آمنة
بعد انتهاء الحرب بتوقيع اتفاقية السلام في كانون الأول/ديسمبر 1995، بدأ الناجون من سربرنيتسا مسيرتهم الطويلة نحو العدالة. طالبوا وما زالوا يطالبون بالعثور على جثامين جميع المفقودين والتعرف إليها، ومحاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم. كان جزء من هذا النضال، الذي قادته بالأساس جمعيات نساء ناجيات، يركز على تحميل الأمم المتحدة والكتيبة الهولندية المسؤولية.
بادر البعض حتى برفع دعاوى قضائية في هولندا. وفي واحدة من القضايا الأولى، اتهم 11 مدعيًا هولندا والأمم المتحدة بالفشل في منع الإبادة الجماعية. لكن في تموز/ يوليو 2008، رفضت محكمة هولندية القضية مؤكدةً عدم اختصاصها بالنظر في قضايا ضد الأمم المتحدة بحجة تمتع المنظمة بالحصانة من الملاحقة القضائية عن الجرائم المرتكبة أثناء المهمات.
عقب هذا الحكم، رفع عدد من الناجين دعوى قضائية جديدة هذه المرة ضد الحكومة الهولندية نفسها. وقد جادلوا بأنّه رغم كون الجنود جزءًا من مهمة أممية إلا أن الحكومة الهولندية كانت تملك السيطرة الفعلية على قواتها في سربرنيتسا. لكن المحاكم الهولندية رفضت هذه الدعوى أيضًا في البداية، معتبرةً أن أفراد الكتيبة الهولندية لحفظ السلام كانوا يعملون بتفويض من الأمم المتحدة، وبالتالي لا تتحمل الدولة الهولندية مسؤوليتهم — في معادلة قانونية تُبقي العدالة بعيدة المنال.
وأخيرًا، بعد سنوات من المعارك القانونية والعديد من الأحكام القضائية، قضت المحكمة العليا الهولندية في سنة 2019 بأن الدولة تتحمل مسؤولية جزئية ولكن فقط عن عشرة بالمئة من وفيات 350 رجلًا بوسنيًا طُردوا من مجمّع الأمم المتحدة. وبرّرت المحكمة قرارها بأن فرصة الجنود الهولنديين في منع عمليات القتل لو تصرفوا بطريقة مختلفة كانت لا تتجاوز “10 بالمئة”.
خلال حرب البوسنة، أعلن مجلس الأمن الدولي ست مدن من بينها سربرنيتسا وسراييفو حيث أعيش على أنها “مناطق آمنة”. نُشرت قوات حفظ السلام فيها، لكن من دون تفويض واضح، بما في ذلك ما إذا كان يُسمح للجنود باستخدام القوة لحماية المدنيين. وما تعلمناه نحن المدنيين حينها هو أنهم لن يفعلوا أو بالأحرى، أن ذلك يعتمد على قرار القادة الأفراد.و بينما كنّا نموت، كان مسؤولو الأمم المتحدة يعقدون الاجتماعات بلا نهاية، ويطلقون الوعود، ويُبدون صدمتهم ودهشتهم من دون أن يفعلوا شيئًا لوقف الجرائم.
لطالما ارتبطت بعثات حفظ السلام الأممية بالجدل في كل مكان نُشرت فيه. ومن بين أخطر القضايا المستمرة استغلال النساء جنسيًا من قبل بعض أفراد قوات حفظ السلام. فقوات حفظ السلام الأممية هي قوات مسلحة تُستقدم من دول متعددة، ويُطلب منها الالتزام بسياسات دولها الأصلية. وغالبًا لا يعرف الجنود شيئًا عن الشعوب أو الأماكن التي يُرسلون إليها. وفي الوقت نفسه، يُطلب منهم ألّا يتدخلوا في السكان المحليين ما يخلق، كما تقول الباحثة في النزاعات سيفيرين أوتيسير في كتابها “أرض السلام“، “فارق قوة مستمرًا بين المتدخلين والمستفيدين المفترضين”.
وفوق ذلك، فإن بعثات حفظ السلام تُعدّ باهظة التكاليف ونادرًا ما تصل أموالها إلى المجتمعات المحلية.
في سراييفو، التي أُعلنت أيضًا “منطقة آمنة” خلال التسعينيات، كان جنود الأمم المتحدة من القوة الدولية لحماية المدنيين دائمي الحضور- دبابات بيضاء، خوذ زرقاء، ومعدات حماية كاملة. كانوا مسلحين ولديهم الغذاء وما يكفي من الماء للشرب والاستحمام – رفاهية بالنسبة لنا – وكانوا مرئيين في الشوارع. كنا نراهم غالبًا يقودون مركباتهم أو يقفون جانبًا، يشاهدوننا ونحن نركض للنجاة بأرواحنا أو نُقتل.
في مرحلة ما، بدأوا بوضع حواجز مؤقتة حول المدينة لتكون وسيلة حماية بصرية من قناصي العدو. بدا ذلك الحد الأقصى لما كانوا مستعدين لفعله. وكانت كل حاويةٍ من تلك الحواجز تحمل لافتة سوداء كبيرة كُتب عليها “الأمم المتحدة” – في تذكير صارخ بأنه حتى حين تختفي الحماية الحقيقية، تبقى صورة المنظمة حاضرة. لاحقًا، كتب شخص ما كلمة “غفرنا لكم” بالطلاء الأحمر أسفلها – وهو تعليق مؤلم سيظل حاضرًا في الذاكرة.
وهم الحماية
ظل دور الأمم المتحدة وقواتها لحفظ السلام إشكاليًا حتى اليوم، ولا أرى سببًا يدعوني للاعتقاد بأن الأمر سيكون مختلفًا في حالة الفلسطينيين. فهذا الدور يتجاهل عقودًا من الاستعمار الاستيطاني، والفصل العنصري، وسرقة الأراضي، والاعتقالات، والعنف، والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان. وبدلًا من معالجة هذه الانتهاكات الواسعة، يغطيها عليها.
هناك مقترحات أخرى، مثل الاستعانة بشركات أمن خاصة وهو خيار أسوأ وأقل خضوعًا للمحاسبة، كما رأينا في أماكن مثل أفغانستان والعراق. يوحي نشر قوات حفظ السلام بوجود “تناظر زائف”، أي أن هناك طرفين في حالة حرب ويجب الفصل بينهما. لكن الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون، المستمرة منذ عقود وباتت اليوم في أشد صورها، تتطلب حلولًا من نوع آخر.
إذا تأملنا الماضي القريب، فعلينا أن نعترف بأن المجتمع الدولي لم يجد حلًا حتى الآن. فكل تدخل خارجي حتى اليوم جلب مزيدًا من البؤس للشعوب المحلية ومزيدًا من الأرباح لمن يتدخلون. تتطلب الحلول الحقيقية طريقة جديدة للنظر إلى الصراع والعسكرة، مستندة إلى دروس الماضي، ومنها تجربة البوسنة. والأهم من ذلك، يجب أن تأتي من الناجين أنفسهم، بناءً على معارفهم وتجاربهم الحية.
لكن لا يمكن لأي حل أن يتحقق دون الخطوة الأولى: وقف إطلاق نار شامل. وحتى يتحقق ذلك فإن الحديث عن قوات حفظ السلام أو مقترحات مشابهة ليس سوى تشتيت للانتباه وطريقة لإطالة أمد العنف بدلًا من إنهائه. وهي ستساهم أيضًا في توسيع الإذن الممنوح من الغرب للاحتلال بارتكاب المزيد من القتل. في الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية في سربرنيتسا، لنتذكر: السلام يولد من الحرية، لا من الأمم المتحدة.
المصدر: ميدل ايست آي