لطالما كانت إيران لاعبًا رئيسيًا في المشهد الإقليمي للشرق الأوسط، مستخدمةً مجموعة متنوعة من الأدوات لتعزيز نفوذها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية، من بينها توظيف المقاتلين الأجانب، وخاصة الأفغان، كعنصر حاسم في حروبها وصراعاتها بالوكالة على مدى العقود الماضية. وظهر هذا النهج جليًا في الحرب السورية، حيث لعبوا دورًا محوريًا في دعم نظام بشار الأسد.
ومع ذلك، ومع انحسار نفوذها في بعض المناطق وتغير الديناميكيات الإقليمية والدولية في السنوات الأخيرة، طرأت تحولات كبيرة على هذه السياسة القائمة على التجنيد والاستغلال، وبدأت تظهر بدلًا منها ملامح سياسة جديدة يمكن وصفها بـ”التخلي” عن هؤلاء المقاتلين الذين خدموا مصالحها، ما يثير تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراءها، والآثار المترتبة على ذلك.
من ضيافة اللاجئين إلى استغلالهم
مع كل حرب عرفتها بلادهم، يلجأ الأفغان إلى دول الجوار كإيران وباكستان. وتعود جذور الوجود الأفغاني في إيران إلى عقود مضت، وتحديدًا مع بدء الاحتلال السوفيتي لأفغانستان في عام 1979، والذي تزامن مع قيام الثورة الإيرانية.
وغادر حينها نحو مليوني أفغاني إلى إيران، لكن بعض التقديرات تشير الآن إلى نحو 6 ملايين أفغاني، بين شرعي وغير شرعي، يقيمون في إيران، نصفهم دخلوا الأراضي الإيرانية خلال عام 2021، هربًا من حكومة طالبان، ومعظمهم لا يملكون أي وثائق ثبوتية.
معظم الأفغان في إيران يعيشون كلاجئين ومهاجرين غير شرعيين في القرى النائية، بعيدًا عن رقابة القانون، ويعملون في وظائف منخفضة الأجر بمواقع البناء أو المتاجر الصغيرة أو المزارع والمصانع. ولا يملكون عقود عمل أو تأمينًا صحيًا، وجعلتهم حاجتهم الملحَّة للعمل ووضعهم القانوني غير المستقر عرضةً للاستغلال في الكثير من الأحيان.
هذا الوجود الأفغاني الكبير وفَّر خزانًا بشريًا لإيران استغلته لأغراض استراتيجية وعقائدية، ففي كثير من الحالات، تم إغراء الكثيرين منهم للانضمام إلى القتال بوعود الحصول على رواتب شهرية تراوحت تقديراتها بين 400 و1000 دولار أمريكي، وتصاريح إقامة قانونية لهم ولعائلاتهم، وحتى الجنسية الإيرانية في بعض الحالات، بالإضافة إلى توفير خدمات تعليمية وصحية لأسرهم.
وأحيانًا كان يُلوّح بتخفيف أو إسقاط الأحكام القضائية الصادرة بحق بعضهم أو العفو عنهم. كانت هذه الامتيازات المنقوصة بمثابة طوق نجاة لمشاكل التهميش والفقر والبطالة التي يعاني منها الكثير من الشباب الأفغان في إيران.
واعتمدت طهران بشكل واسع على توظيفٍ ممنهجٍ ومخططٍ لهؤلاء المقاتلين، وتحويلهم إلى أدوات عسكرية وطائفية، خاصةً أن بعضهم يمتلكون خبرةً قتاليةً سابقة من صراعاتٍ في أفغانستان، مما جعلهم أصولًا قيّمةً لإيران، ليس فقط في سوريا، بل أيضًا في صراعاتٍ أخرى في العراق واليمن وأفغانستان، وحتى لبنان، كجزء من استراتيجية توسيع نفوذها الإقليمي.
لاجئين في ساحات القتال
تعددت الدوافع التي حرَّكت سياسة الاستغلال الإيراني للاجئين في ساحات الحرب المختلفة، ويأتي في مقدمتها استراتيجية “الحرب بالوكالة”، حيث طوَّرت إيران نموذجًا متقدمًا لتعزيز نفوذها الإقليمي، لا يعتمد فقط على دعم جماعات محلية (كحزب الله)، بل يمتد لدعم وتجنيد جماعات غير نظامية من جنسيات مختلفة، مثل لواء فاطميون (أفغان)، ولواء زينبيون (باكستانيون شيعة)، وكتائب الحشد الشعبي (العراق)، والحوثيين (اليمن)، مما يتيح لها بناء شبكة مقاتلين عبر الحدود خاضعة لإمرة “فيلق القدس”.
وكانت هذه الاستراتيجية تعتمد على استخدام هؤلاء المقاتلين كقوة قتالية فعالة ومنخفضة التكلفة يمكن الاعتماد عليها لتحقيق هذه الأهداف، مما يجنب إيران مواجهة خصومها دون تورط قواتها النظامية أو مواجهة دولية مباشرة، ويقلل من تكبدها خسائر بشرية كبيرة. كما أن وجود المقاتلين الأفغان ساعد إيران على إبقاء التكاليف المالية والسياسية لتدخلاتها منخفضة نسبيًا.
لم يكن توظيف المقاتلين الأفغان لدعم نظام بشار الأسد والميليشيات الأخرى المدعومة من إيران، بل كان مدخلًا لاستراتيجية أوسع تتمثل في الحفاظ على “محور المقاومة” ضد القوى الغربية و”إسرائيل”، وبناء ممر بري يربط طهران ببيروت مرورًا ببغداد ودمشق (ما يسمى بـ”الهلال الشيعي”)، مما يسهل نقل السلاح والمقاتلين، ويعزز نفوذها اللوجستي والعسكري في المنطقة.
كما استغلت إيران، التي تعتبر نفسها حامية للمسلمين الشيعة في جميع أنحاء العالم، البُعد الديني والطائفي لتجنيد المقاتلين، حيث تم تصوير القتال كـ”دفاع عن المقدسات”. ففي سوريا، كان الدفاع عن المراقد الشيعية المقدسة، مثل مقام السيدة زينب، الدافع المعلن لتجنيد العديد من المقاتلين الأفغان، وغالبيتهم من طائفة الشيعة الهزارة، مما أضفى شرعية دينية على تدخلاتها، وجعل الانضمام للقتال أكثر قبولًا لدى بعض الشرائح.
وتعكس أسماء الألوية، مثل “زينبيون” و”فاطميون” – الذي يُعد أبرز تجليات سياسة التوظيف الإيرانية – هذا التوجه العقائدي الذي يوظف المشاعر الدينية العابرة للحدود، ويبرر التوسع الإيراني بأنه دفاع عن “الحق والمظلومين”، في حين يمنح التصوير الإعلامي لهم كـ”أبطال المقاومة” غطاءً ناعمًا لسياسات التدخل الإيرانية، ويُظهرها كحامية للشيعة عالميًا.
لم تخلُ هذه السياسات من مظاهر الإكراه والضغط، إذ وثَّقت تقارير حقوقية حالات تجنيدٍ قسري، حيث أُجبر بعض اللاجئين على الانضمام إلى جماعاتٍ مسلحة تحت تهديد الترحيل في حال الرفض. بل سُجّلت حالات لتجنيد أطفالٍ أفغان لا تتجاوز أعمارهم 14 عامًا للقتال ضمن صفوف “لواء فاطميون”، مقابل وعودٍ مالية وتسهيلاتٍ قانونية، في استغلالٍ واضحٍ لظروفهم المعيشية الصعبة، الأمر الذي يشكّل خرقًا للقوانين الدولية.
سياسة التخلي.. إبعاد دون ضجيج
مع تغير المشهد الإقليمي وتراجع وتيرة الصراعات التي شاركت فيها إيران في عدد من الساحات، تضاءلت الحاجة إلى الأعداد الكبيرة من المقاتلين الأجانب، خصوصًا أولئك الذين جرى تجنيدهم ضمن ما يُعرف بـ”محور المقاومة”، وبدأت ملامح سياسة التخلي عن هؤلاء المقاتلين تتضح، حيث تحوّل المقاتلون الأفغان من ورقةٍ استراتيجية إلى عبءٍ متزايد على طهران.
هذه السياسة تجلّت في عدة مظاهر، وبلغت ذروتها في موجات الترحيل القسري الأخيرة. فمنذ مطلع عام 2025، شهدت إيران تصعيدًا غير مسبوق في عمليات ترحيل اللاجئين الأفغان، بعد انتهاء المهلة التي حدّدتها السلطات الإيرانية في العاشر من مارس/ آذار الماضي لمغادرتهم أراضيها، لكنها تظل مجرد مهلة في أزمنةٍ أفغانيةٍ من المحن.
وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن المهلة التي منحتها الحكومة الإيرانية دفعت أكثر من 640 ألف أفغاني إلى العودة من إيران، منهم نحو 366 ألف شخص تم ترحيلهم قسرًا، ومنهم أشخاص في أوضاع مشابهة لوضع اللاجئين، وذلك مقارنةً بالشهور السابقة التي كانت فيها العودة مقتصرة على شبابٍ أعزب.
ومنذ الصراع الإيراني الإسرائيلي الأخير، ازداد بشكلٍ ملحوظ عدد العائدين إلى أفغانستان من إيران، بمن فيهم أولئك الذين قاتلوا في سوريا. فوفقًا للتقديرات، عاد ما يقرب من نصف مليون أفغاني إلى بلادهم منذ بداية يونيو/ حزيران الماضي حتى الخامس من يوليو/ تموز الجاري، بمعدل ترحيل أكثر من 10 آلاف شخص يوميًا، وفق وكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة، ما يعكس تصاعدًا ملحوظًا في وتيرة عمليات الترحيل خلال الأسابيع الأخيرة.
في وقت تشير فيه تقارير ميدانية إلى أن بعض الأيام شهدت عبور 40 ألف شخص نحو الحدود الغربية لأفغانستان من معبر “إسلام قلعة” الحدودي بولاية هيرات غربي أفغانستان، بل وبلغ الرقم المسجَّل للعبور منه 300 ألف أفغاني في 12 يومًا فقط، فيما بلغ عدد الذين غادروا إيران منذ بداية هذا العام مليون شخص. وتشير بعض التقديرات إلى 1.4 مليون مُرحَّل.
هذا الترحيل يتم غالبًا دون استعدادٍ مسبق، مما يفاقم المعاناة الإنسانية في بلدٍ يواجه بالفعل أزمةَ عائدين مزمنة، ويعاني بالفعل من عدم استقرارٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ، خاصةً بعد سيطرة طالبان، وأزمةٍ إنسانيةٍ حادة، وصعوبةٍ بالغة في استيعاب هذه الأعداد الضخمة من العائدين، مع نقصٍ حادٍّ في الموارد والتمويل اللازم لتلبية احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والمأوى والرعاية الصحية.
عقد قاري دين محمد حنيف، وزير الاقتصاد ورئيس لجنة جذب المساعدات للاجئين والعائدين، اجتماعًا مع رؤساء ومسؤولي وكالات الأمم المتحدة في أفغانستان.
وقالت وزارة الاقتصاد إن الاجتماع ناقش سبل معالجة التحديات والاحتياجات العاجلة للعائدين الأفغان من إيران، ولا سيما في ولايتي هرات ونيمروز.… pic.twitter.com/jycX22XlUb
— نوراحمد خادم Noorahmad l (@Noor_ahmad_kh) July 1, 2025
ملامح سياسة تصفية ناعمة
بالإضافة إلى حملات الترحيل القسري، توقفت إيران عن الوفاء بوعودها المتعلقة بالجنسية أو الدعم المالي أو الرعاية الصحية لأسرهم، بما في ذلك إسقاط الامتيازات ووقف الرواتب التي كانت تُدفع لهم مقابل القتال، وسحب تصاريح الإقامة ممن كانوا قد حصلوا عليها كجزءٍ من حوافز التجنيد، أو تم رفض تجديدها، مما ترك العديد منهم في أوضاعٍ هشّة دون حمايةٍ رسمية، وجعلهم عرضةً للترحيل.
وتتجلى ملامح سياسة “التخلي” أيضًا في مواجهة العديد من المقاتلين الأفغان الطردَ والظروفَ القاسية في ساحات القتال، وتعرّضهم للتهميش داخل إيران بعد انتهاء الحاجة إليهم في ساحات القتال، ليواجهوا مصيرهم بمفردهم، ما يعكس سياسة التخلي عنهم بعد انتهاء الحاجة إليهم.
كما بدأت السلطات الأمنية الإيرانية بمراقبة واعتقال بعض المقاتلين السابقين بتهم “الإخلال بالنظام” و”الانتماء لمجموعاتٍ مسلحةٍ غير مصرح بها”، وبعضهم سُجن بسبب بقائهم في إيران دون أوراق إقامة، رغم خوضهم معارك لصالحها، وآخرون منهم عادوا إلى بلدهم محمَّلين بالندوب الجسدية والنفسية.
وتحدث مقاتلون سابقون في مقابلاتٍ مع وسائل إعلام دولية عن تلقيهم إشاراتٍ واضحة بعد انتهاء مهامهم، مثل: “عودوا إلى بلادكم، انتهى دوركم”، “لا يمكننا مساعدتكم أكثر”. ووفق شهادة مقاتلٍ سابق في “فاطميون”: “بعد الحرب، لم نعد نُعامل كمجاهدين، بل كمهاجرين غير مرغوبٍ فيهم”.
وهناك تقارير تشير إلى إهمال إيران لعائلات المقاتلين الذين قُتلوا أو جُرحوا في ساحات القتال، وخاصةً سوريا، إذ لم تتلقَّ أي دعمٍ ماديٍّ منتظم، أو رعايةٍ صحية، أو ضماناتٍ تعليمية لأبنائهم، مما يزيد من مأساتهم. في المقابل، حصل مقاتلو حزب الله اللبناني على امتيازاتٍ واسعة، مما عكس سياسةَ تمييزٍ بين الميليشيات الأجنبية.
وبعدما رُوّج لهم كـ”مدافعين عن الأماكن المقدسة والمذهب الشيعي” في الإعلام الإيراني خلال الحرب، اختفت أي إشاراتٍ لمقاتلي “فاطميون” و”زينبيون” من التغطيات الرسمية، والاحتفالات العسكرية، والمناسبات الدينية المرتبطة بـ”المقاومة”. ويشير هذا التهميش الإعلامي إلى نبذهم، ونزع الشرعية الرمزية عنهم، وأنهم لم يعودوا مرغوبًا فيهم.
نقطة تحوّل.. النفوذ يتقلّص والسياسة تتبدّل
تعكس سياسة إيران تجاه المقاتلين الذين فقدوا حياتهم في سبيل تحقيق أهدافها تحوّلًا ملحوظًا، من استغلالهم بكثافة في مشاريعها العسكرية والاقتصادية، إلى التخلي عنهم فور انتهاء دورهم أو تحوّلهم إلى عبء، ويجسِّد هذا التوجّه بُعدًا براغماتيًا في التعامل مع الأفراد كوسائلَ لخدمة مصالحَ سياسية، دون اكتراثٍ يُذكر بالعواقب الإنسانية المترتبة على ذلك.
وتتعدد الأسباب وراء ذلك، وتشمل في مقدّمتها تغيّر الأولويات الإقليمية. فبعد سنواتٍ من التوسّع العسكري في سوريا والعراق واليمن ولبنان، بدأت إيران في إعادة تقييم استراتيجياتها في المنطقة، واتباع سياسةٍ أكثر براغماتية تركز على الاقتصاد والتطبيع (نسبيًا) مع بعض الدول العربية، مثل السعودية، بدلًا من الاعتماد على القوة العسكرية المباشرة، مما أثّر على دور المقاتلين الأجانب في خططها المستقبلية.
في سوريا مثلًا، وبعد انتهاء مهمّات الكثير من المقاتلين، وتقليص الدور العسكري نتيجة تراجع حدّة الصراع وسقوط نظام الأسد، أصبحت طهران تواجه تحدياتٍ جديدة، بما في ذلك تراجع نفوذها العسكري والاقتصادي، وانخفضت حاجتها إلى أعدادٍ كبيرة من المقاتلين الأجانب، مما دفع إلى التخلي عنهم.
وتعاني إيران من ضغوطٍ اقتصاديةٍ وعقوباتٍ دوليةٍ شديدة، تجعلها غير قادرة على الاستمرار في تمويل ودعم أعدادٍ كبيرة من المقاتلين الأجانب بنفس الوتيرة السابقة، خاصةً أنهم يكلّفون الدولة أموالًا ودعمًا لوجستيًا بات عبئًا في ظلّ العقوبات الاقتصادية القاسية، مما دفعها إلى تخفيض الرواتب والامتيازات المقدّمة للمقاتلين، وفي النهاية، التخلي عنهم.
على الرغم من أن إيران لا تقدّم مساعداتٍ مباشرة للاجئين، إلا أن التقديرات الرسمية تتحدث عن أعباءٍ تتحمّلها الخزانة الإيرانية تصل إلى 10 مليارات دولار سنويًا، وذلك نتيجة استفادتهم من السلع المدعومة حكوميًا، وتسجيلهم في المدارس والجامعات، وتلقّيهم العلاج في المستشفيات الحكومية.
في ظلّ التوترات السياسية الإقليمية، خاصةً النزاع العسكري الذي استمر 12 يومًا بين إيران و”إسرائيل”، وجّهت إيران اتهاماتٍ علنية لبعض الأفغان بالتجسس، وألقت الأجهزة الأمنية باللائمة على عددٍ من المهاجرين الأفغان في أعمال التخريب والعمليات السرية، وهو ما أدّى إلى إلقاء القبض على الكثيرين منهم، ووضعهم في معسكراتٍ للاعتقال حصلوا فيها على قدرٍ ضئيل من الطعام والماء، كما صودرت منهم هواتفهم المحمولة، وفُرضت عليهم رسومٌ باهظةٌ للنقل عبر الحدود.
وأكّدت السلطات القضائية الإيرانية ضرورة ترحيل الأجانب الذين لا يحملون وثائق قانونية، خاصةً الأفغان، من الأراضي الإيرانية، في أعقاب الهجمات الإسرائيلية، ما أدى إلى ارتفاع عدد الأفغان العائدين يوميًا من حوالي 5 آلاف إلى ما يقرب من 30 ألف شخص، وفقًا لممثل مفوضية اللاجئين في أفغانستان، عرفات جمال، ما يشير، وفق “فايننشال تايمز”، إلى استخدام هاجس التجسس كذريعةٍ لتبرير حملة الترحيل الجماعي، وتصوير الأفغان كتهديدٍ أمني.
وتواجه إيران انتقاداتٍ وضغوطًا دوليةً متزايدة بشأن تجنيد الأطفال والانتهاكات الحقوقية، بالإضافة إلى ضغوطٍ داخليةٍ متزايدة بسبب استخدام مواطنيها في حروبٍ خارجية، مما دفعها للاعتماد بشكلٍ أكبر على المقاتلين الأجانب. ومع تزايد أعداد القتلى والجرحى، أصبحت هذه السياسة تثير استياءً دوليًا ومنظماتِ حقوقِ الإنسان.
يُضاف إلى ما سبق وجودُ مشاكلَ داخليةٍ في أوساط هذه الميليشيات، التي انضم إليها الكثيرون لدوافعَ ماديةٍ فقط، ما يجعل ولاءهم لإيران هشًّا، فضلًا عن تورّطهم بجرائمَ وانتهاكاتٍ بحقّ المدنيين، ما أحرج إيران أمام حلفائها، أو حتى بين قواعدها الشعبية، وصعوبة دمجهم في حال استقرار الصراع، ما يجعل وجودهم عبئًا أمنيًا، ويتركهم عرضةً للبطالة والفقر، وقد يدفعهم تعثّر دمجهم ضمن القوات النظامية إلى الانضمام إلى جماعاتٍ مسلحةٍ أخرى، أو الانخراط في أنشطةٍ غير مشروعة.
مستقبل غامض لضيوف الأمس
للسياسة الإيرانية في التخلي عن المقاتلين الأفغان تداعياتٌ خطيرة على المستويين الإنساني والأمني، فقد تسببت موجاتُ الترحيلِ القسري في معاناةٍ إنسانيةٍ هائلةٍ للأفغان، الذين يجدون أنفسهم في ظروفٍ صعبةٍ عند عودتهم إلى أفغانستان، التي تعاني أصلًا من أزماتٍ متعددة، وتفتقر إلى البنية التحتية اللازمة لاستيعابهم.
وتثير هذه السياسة تساؤلاتٍ جدية حول الأخلاقيات السياسية والدولية لتوظيف القوات بالوكالة، ومسؤولية الدول تجاه من يقاتلون في صفوفها، وتساؤلاتٍ أخرى حول مستقبل العلاقات بين إيران وأفغانستان، ومصير آلاف المقاتلين الذين ضحّوا بحياتهم من أجل أجندة طهران، والذين سيضطرون إلى رسم رزنامة مستقبلٍ بألوانٍ ليست زاهية، لكنها قابلةٌ للتغيير مع الوقت.
وعلى المستوى الأمني، حذّرت الأمم المتحدة من أن حملات الترحيل القسري قد تؤدي إلى تفاقم حالةِ عدمِ الاستقرار في المنطقة، خاصةً مع وجود مخاوفَ أمنيةٍ من أن يصبح بعضُ هؤلاء المقاتلين وقودًا لصراعاتٍ جديدة، أو ينضمّوا إلى جماعاتٍ متطرفة، يقابلها مخاوفُ إيرانيةٌ مماثلة من عودةِ المقاتلين الأفغان المدرّبين وذوي الخبرة القتالية إلى إيران، مما قد يشكل تهديدًا أمنيًا داخليًا في المستقبل.
ومع ذلك، لا يبدو أن إيران تتخلى كليًا عن المقاتلين الأجانب، لكنها تعيد ترتيب أوراقها، والهدف هو الحفاظ على نفوذها الإقليمي بتكلفةٍ أقل، وبدون ضغوطٍ خارجيةٍ مفرطة. لذا، نراها تنسحب تدريجيًا من بعض الساحات، أو تعيد تموضع هذه الجماعات، أو تقلّص دعمها لها.
من غير المرجّح أن تتخلى إيران عن لواء “فاطميون” بشكلٍ كامل، بل قد يُعاد تشكيله كميليشيا احتياطية أو وحدة تدخلٍ سريع تخدم في النزاعات القادمة، أو قد يُعاد تأهيلهم ليكونوا جزءًا من كياناتٍ سياسيةٍ أو اجتماعية داخل أفغانستان نفسها، إن سمح الوضع بذلك، لتوسيع نفوذها هناك، مما يهدد الاستقرار في دولٍ مثل أفغانستان وباكستان، في حين ترى دول الخليج، وخاصةً السعودية والإمارات، في هذه التشكيلات تهديدًا وجوديًا يعبر عن قدرة إيران على “تصدير” الحرب الطائفية إلى الجوار.
ووسط مخاوفَ أن تتحول هذه المجموعات إلى أدواتٍ للابتزاز السياسي، يبقى مصيرُ هؤلاء المقاتلين الذين خدموا إيران تذكيرًا صارخًا بالثمن الباهظ الذي يدفعه الأفراد في صراعاتِ القوى الإقليمية، وتأثيرِها المدمّر على الفئات الأكثر ضعفًا، وضرورةِ مساءلةِ الدول عن سياساتها التي تستغلّ البشر لتحقيق مكاسبَ سياسيةٍ أو عسكرية.