تشهد الساحة الداخلية في قطاع غزة، منذ وقف إطلاق النار الأخير، حالة توتر غير مسبوقة، بعد اندلاع مواجهات مسلّحة بين حركة المقاومة الفلسطينية “حماس” وعدد من العائلات والمجموعات المحلية المسلحة، في ما تصفه الحركة بـ “الحملة الأمنية ضد عملاء الاحتلال والميليشيات المتعاونة مع إسرائيل”.
تكشف هذه التطورات الميدانية عن تعقيدات المشهد الغزّي في مرحلة ما بعد الحرب، حيث تتداخل الحسابات الأمنية مع محاولات الاستقرار وتثبيت التهدئة، وسط تزايد مؤشرات الانقسام الداخلي وضعف السيطرة الأمنية في بعض المناطق. خلال الأيام الماضية، برز اسم مجموعة “أبو شباب” كأحد أبرز التشكيلات المسلحة التي تتهمها حماس بالتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي وأجهزته الأمنية والاستخباراتية، متهمةً إياها بتنفيذ أنشطة تستهدف المقاومة والجبهة الداخلية في غزة.
ازداد المشهد سخونة بعد إقرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في تصريحات سابقة، بأن حكومته سلّحت مجموعات عشائرية فلسطينية معارضة لحماس، في محاولة لتشكيل بديل محلي لسلطة الحركة داخل القطاع، خطوة فسّرها مراقبون بأنها محاولة لإعادة رسم المشهد الأمني في غزة من الداخل عبر أدوات فلسطينية.
اللافت أن مجموعة “أبو شباب” لا تُعد حالة معزولة يمكن التعامل معها في إطار محدود، بل تمثل حلقة في شبكة أوسع من الميليشيات المحلية التي تقول المقاومة إنها تتلقى دعمًا وتسليحًا مباشرًا من تل أبيب، بما يخدم الأجندة الإسرائيلية على حساب تماسك الجبهة الداخلية وحقوق الشعب الفلسطيني.
في منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، أصدرت الأجهزة الأمنية التابعة للمقاومة تحذيرًا شديد اللهجة من التعامل مع عدد من الأشخاص الذين قالت إنهم عملاء يتلقون تعليمات مباشرة من ضباط استخبارات الاحتلال، محددةً خمسة أسماء بارزة منهم، أشرف محمد محمود المنسي، أحمد عبد الكريم السماعنة، رامي عدنان محمد حلس، أحمد مسعود صابر جندية، وحسام عبد المجيد أحمد الأسطل.
وأوضح التحذير أن هؤلاء يستدرجون المواطنين بأساليب متعددة، من بينها ادعاء تقديم المساعدات أو الانتماء للسلطة الفلسطينية، وأنهم ينشطون ضمن شبكات منظمة تعمل لصالح الاحتلال، مستخدمين أساليب احتيالية للإيقاع بأبناء القطاع.
في هذا التقرير، نستعرض ملامح شبكة الميليشيات المسلحة داخل غزة – من كيانات وأفراد وعائلات- ونبحث في كيف تحولت هذه المجموعات إلى أداة بيد الإسرائيليين، تُستخدم لتحقيق أهداف فشل الاحتلال في بلوغها عبر المواجهة العسكرية المباشرة مع المقاومة الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة.
ياسر أبو شباب
يعد ياسر جهاد منصور أبو شباب، المولود في 27 فبراير 1990، والذي ينتمي لقبيلة “الترابين” أبرز الأسماء المطروحة على الساحة في قائمة عملاء الاحتلال داخل قطاع غزة، فهو قائد ما يُسمى بـ”القوات الشعبية”، والذي يتخذ من شرق رفح مركزًا لنفوذه، ويعتبر العراب الأبرز لهذه المجموعات، حيث ينسق مع شبكة من الميليشيات الأخرى المنتشرة في مناطق مختلفة من قطاع غزة.
كان أبو شباب فاشل منذ نعومة أظفاره، فهو لا يجيد القراءة أو الكتابة، إذ ترك الدراسة مبكرًا، ليغوص في عالم الجريمة المنظمة، مستهلا حياته الإجرامية في تجارة المخدرات، خاصة الحشيش والحبوب المؤثرة عقلياً، اعتقلته الأجهزة الأمنية الفلسطينية قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023 بتهم السرقة والمخدرات، لكنه تمكن من الفرار من السجن بعد استهدافه بقصف إسرائيلي.
عقب هروبه، استغل أبو شباب حالة الفوضى لتأسيس مجموعة مسلحة تعمل بشكل مباشر بالتنسيق مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، تمركزت المجموعة بشكل خاص في مناطق السيطرة العسكرية شرق رفح، بالقرب من معبر كرم أبو سالم.
تضم ميليشيا أبو شباب ما يقرب من 100 مسلح، كثير منهم هاربون من سجون الأمن الفلسطيني، وتستفيد المجموعة من حماية مباشرة يوفرها جيش الاحتلال، مما يضمن عدم استهدافها بالضربات الجوية، ومع الاجتياح الإسرائيلي لرفح في مايو/أيار 2025، تعزز نفوذ عصابته والتي بدأت في تنفيذ عمليات منظمة لنهب شاحنات المساعدات الإنسانية، ما أدى إلى اشتباكات عنيفة مع الأجهزة الأمنية.
كشفت مصادر إسرائيلية موثوقة أن قرار تسليح مجموعة أبو شباب لم يكن عشوائياً، بل جاء بموافقة وتخطيط من أعلى المستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية، برعاية جهاز الأمن العام الإسرائيلي (“الشاباك”)، بالتعاون مع جيش الاحتلال، وهما الجهتان اللتان توليتا مسؤولية تسليح وتدريب المجموعة، بهدف إنشاء كيان مسلح بديل للسلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة داخل قطاع غزة، لإحكام السيطرة الأمنية وتفكيك البنية التحتية للحكم المحلي.
حسام الأسطل
برز اسم حسام عبد المجيد الأسطل، المعروف بلقب “أبو سفن“، فجأةً في المشهد الغزي كقائد لميليشيا مسلحة تحمل اسم “القوة الضاربة لمكافحة الإرهاب”، لم يكن الأسطل شخصية معروفة في غزة، لكن ظهوره الآن يعكس استراتيجية إسرائيلية واضحة لـ “صناعة بدائل محلية” لحكم حماس.
يتخذ الأسطل وميليشياته من قرية قيزان النجار جنوب خان يونس قاعدة له، على بُعد أمتار قليلة من تمركز الجيش الإسرائيلي، وبطبيعة الحال فإن هذا التموضع ليس من قبيل الصدفة، بل يضمن له حماية عسكرية كاملة، خاصة بعد إعلانه عن هذه المنطقة كـ “منطقة إنسانية” تخضع لسيطرته.
يعترف الأسطل صراحةً بتعاونه وتنسيقه “الكامل” مع جهاز الأمن العام الإسرائيلي، متباهياً بذلك في حوارات مطولة مع وسائل الإعلام الإسرائيلية، ومؤكداً أن هذا التنسيق هو “السبيل الوحيد للبقاء”.
كان أبو سفن ضابطاً في جهاز الأمن الوقائي التابع للسلطة الفلسطينية، ويتحدث العبرية بطلاقة، قاد 250 جندياً قبل سيطرة حماس على غزة عام 2007، إلا أنه دخل في عداء شديد مع حماس، اعتقلته الحركة وحُكم عليه بالإعدام، وتمكن من الفرار بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023
تشير تقارير إعلامية إلى تورطه في قضية اغتيال المهندس في حركة حماس، فادي البطش، في ماليزيا عام 2018، على يد الموساد الإسرائيلي، وقد بدأ نشاطه الميليشاوي الإجرامي بالعمل ضمن مجموعة أبو شباب قبل أن ينشق ليؤسس مجموعته الخاصة، مؤكداً استمرار التنسيق معه، كما يتفاعل علناً مع منشورات ضابط السلطة السابق غسان الدهيني (نائب أبو شباب)، مهاجماً حماس.
يعترف الأسطل بأن مجموعته مسلحة وتتلقى تمويلاً من “أطراف خارجية” تشمل أمريكا وأوروبا ودولاً عربية غير مسماة، بالإضافة إلى وعود الحماية العسكرية الإسرائيلية، كما ظهر في فيديوهات يوزع الطعام على الأطفال ويدعو إلى “التعايش بدون إرهاب”، في محاولة لكسب شرعية في الإعلام الغربي.
يتباهى كثيرًا بتهديده لحماس، قائلاً: “رأس الحمساوي بـ50 دولار”. وتوعد بأنه “لن يسمح بعودة فلول حماس”، مؤكداً أن منطقته تقع خلف “الخط الأصفر” الذي لن تنسحب منه “إسرائيل”، وفي محاولة منه لكسب الشرعية الدولية وجه دعوات لشخصيات مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير للمساعدة في إدارة غزة، مصوراً نفسه كبديل مقبول دولياً.
أشرف المنسي
برز اسم أشرف المنسي خلال الأشهر القليلة الماضية، كقائد لميليشيا مسلحة جديدة تطلق على نفسها اسم “الجيش الشعبي – قوات الشمال” في منطقة شمال قطاع غزة، وتحديداً في بيت لاهيا، تُعد هذه الميليشيا تحت الرعاية المباشرة لأبو شباب.
أظهر تتبع الصور المتداولة لعناصر المجموعة من قبل منصة “صحيح مصر” الاستقصائية، أن المنسي يتخذ من مدرسة “عزبة بيت حانون الابتدائية” قاعدة رئيسية لميليشياته، وتتهمه حركة حماس بالتعاون مع جهاز الأمن العام الإسرائيلي، وقد تشكلت مجموعته في سبتمبر/أيلول الماضي وتضم نحو 20 عنصراً، وتصفهم التقارير بأنهم “مجرمون سابقون يعملون في تجارة المخدرات”، مما يشير إلى طبيعتها الإجرامية والبعيدة عن أي دافع وطني.
وجه خطاباً مصوراً إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، شكره فيه على جهوده لإنهاء الحرب، وأشار المنسي إلى أنه يعتبر أن خطة ترامب لإنهاء الصراع هي “مسار عملي يجب على حماس قبوله”.
فيما أكد مصدر مقرب من حركة حماس لـ”صحيح مصر” أن عناصر كتائب القسام دخلت في اشتباكات عنيفة ومواجهات مباشرة مع مسلحي المنسي في مناطق جباليا وبيت لاهيا، وتشير تقارير إسرائيلية إلى أن نهاية المطاف لهذه المواجهات كانت فرار مجموعة المنسي باتجاه مواقع الجيش الإسرائيلي للاحتماء به، مما يؤكد طبيعة ارتباطها الوثيق بقوات الاحتلال.
أحمد جندية
يعد أحمد جندية، البالغ من العمر 52 عاماً، من الشخصيات المثيرة للجدل، حيث عمل سابقاً كموظف في جهاز المخابرات التابع للسلطة الفلسطينية في رام الله، برز اسمه مؤخراً في سياق حرب الإبادة على قطاع غزة كأحد الأفراد الذين قادوا أدواراً استخباراتية وإجرامية معقدة في مناطق شرق غزة، تحديداً في أحياء التفاح والشجاعية.
تضمنت الاتهامات الموجهة إلى جندية، إلى جانب التخابر، أنشطة اقتصادية مشبوهة استغلت حاجة السكان خلال الحرب، من بينها تجارة الطحين المنهوب، حيث ورد اسمه ضمن المتورطين في سرقة وبيع الطحين المخصص للمساعدات الإنسانية.
كذلك اتهم بإدارة شبكة لتحويل ونقل الأموال إلى قطاع غزة في فترة انقطاع المعاملات البنكية، كانت هذه العملية، المعروفة باسم “التسييل النقدي”، تتم مقابل عمولات فاحشة تراوحت بين 70% و 80% من إجمالي قيمة المبلغ المحول، مما يمثل ابتزازاً مالياً منظماً للسكان المحتاجين.
وفقاً لتقارير إعلامية فلسطينية، تجاوز دور جندية العمليات المالية ليصبح قائداً ميدانياً لشبكة عملاء، إذ قام بتشكيل مجموعات من الأفراد وتجنيد الشبان لتنفيذ مهام استخباراتية وعسكرية مباشرة لصالح قوات الاحتلال، من بينها جمع المعلومات عن تحركات المقاومة وأنشطتها، والمساعدة في رصد وتحديد مواقع المقاومين والبنية التحتية للمقاومة، بجانب القيام بعمليات تفتيش للمنازل ونصب حواجز داخل الأحياء، مما يخدم سيطرة الاحتلال ويثير الفوضى الداخلية.
انتهت رحلة جندية وشركائه في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي بعد أن قامت عناصر حماس بمحاصرتهم، ما اضطر الموظف الأسبق بجهاز المخابرات إلى تسليم نفسه ومجموعته للأجهزة الأمنية في حي الشجاعية، منهياً بذلك دوره كواجهة للتخابر والنهب في ظل الحرب.
رامي حلس
إلى جانب أحمد جندية، برز اسم رامي عدنان حلس كأحد أخطر قادة التشكيلات المسلحة المتهمة بالعمالة في قطاع غزة، فهو زعيم ميليشيا تنشط في شرق حي الشجاعية، ويُوصف بأنه “أحد أخطر رؤوس التشكيلات العميلة لإسرائيل” بحسب وسائل إعلام فلسطينية.
يبلغ حلس من العمر 46 عاماً، وينتمي تنظيمياً إلى حركة فتح، وقد عمل موظفاً عسكرياً ضمن جهاز أمن الرئاسة الفلسطيني (المعروفة بقوة الـ 17)، وعلى الرغم من أن نشاط ميليشياته يتركز في شرق الشجاعية، إلا أنه يسكن في حي تل الهوى جنوب غرب مدينة غزة.
تفيد التقارير الإعلامية الفلسطينية بأنه يعمل تحت إشراف مباشر من ضابط في المخابرات الإسرائيلية يُدعى “أبو رامي”، حيث يتلقى منه الأموال والسلاح، كما تُحدد له المهام عبر تطبيقات مشفرة.
تضم ميليشياته أفراداً ينتمون لحركة فتح، وغالبيتهم موظفون حاليون لدى السلطة الفلسطينية، مما يشير إلى استغلال النفوذ التنظيمي لتشكيل شبكة العملاء، وقد كُلفت مجموعته بمهام ميدانية معادية ومباشرة تخدم الأجندة الإسرائيلية في مناطق التوغل، من أبرزها رصد واستهداف المقاومين، وتنفيذ عمليات خطف.
اتُهم حلس تحديداً باختطاف مواطن وتسليمه لاحقاً للجيش الإسرائيلي في شرق حي الشجاعية، وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أصدرت عائلته بياناً رسمياً تتبرأ فيه من أفعاله، معتبرة إياه “خارجاً عن الإجماع الوطني الفلسطيني” وأن تصرفاته “جلبت الأذى للعائلة وللمجتمع”.
أفاد مصدر مقرب من حماس لـ”صحيح مصر” بأن عناصر كتائب القسام دخلت خلال الأيام الماضية في مواجهة عسكرية مباشرة مع مجموعة رامي حلس في الشجاعية، وبات مصير قائدها مجهولاً حتى اللحظة، ما يشي باحتمالية استهدافه أو فراره إلى مواقع إسرائيلية للاحتماء بها كما فعل بعض أقرانه.
إياد نصر
كشفت التحقيقات الأمنية في غزة مؤخرًا عن شبكة تخريبية مثيرة للقلق يقودها شخصية تسمى “إياد نصر“، وهو قيادي سابق في حركة فتح ارتبط اسمه بسجل من الملفات الأمنية والمالية المشبوهة، وحسب اعترافات ثلاثة من أعضاء خليته الرئيسيين (رفيق (ش)، عبد السلام (ق)، وفواز (ح))، وفق ما نشرته مواقع فلسطينية، ركزت أنشطته على استغلال حاجة السكان لتحقيق مكاسب غير مشروعة وإضعاف الحاضنة الشعبية للمقاومة.
يواجه نصر وخليته قائمة تهم طويلة، ما بين الفساد والخيانة، على رأسها الاستيلاء على المساعدات الموجهة للمدنيين وتوجيه مجموعات مرتزقة لسرقة الإغاثة الإنسانية في منطقة خان يونس، الابتزاز المالي من خلال بيع “تنسيق” بعض الجمعيات الخيرية للتجار، كذلك الحصول على مبالغ مالية كبيرة مقابل تسهيل إصدار تصاريح العمل للداخل المحتل قبل الحرب.
الأخطر في نشاط نصر هو طبيعة ارتباطاته الاستخباراتية المتشابكة، حيث أثبتت التحقيقات أن عناصر شبكته عملت في إطار تنسيق مشترك، مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وأجهزة مخابرات السلطة الفلسطينية، بهدف ملاحقة المقاومين في مناطق القتال ونشر الفوضى وإثارة الشغب من خلال توجيه المرتزقة لسرقة أسلحة المقاومة وتنفيذ عمليات مشبوهة، مما يصب في خدمة المخطط الإسرائيلي لتقويض المقاومة من الداخل.
عائلات على قوائم التخابر
لم يقتصر الصراع الأمني في غزة على الميليشيات المعلنة العميلة للاحتلال فحسب، بل اتسع ليشمل مواجهات مع مجموعات داخلية مرتبطة بالعائلات الكبرى، على خلفية تورط أفرادها في التعاون المسلح مع جيش الاحتلال الإسرائيلي.
عائلة المجايدة
من أبرز العائلات التي سقطت في مستنقع التخابر مع الاحتلال، عائلة المجايدة، وهي عائلة كبيرة ينتمي “غالبية أبنائها إلى حركة فتح”، ولها شعبية ليست بالقليلة داخل القطاع، وهو ما عده خبراء تطورًا خطيرًا يعكس مدى تعقيد المشهد الأمني وخطورة تغلغل خلايا العمالة داخل النسيج الاجتماعي والسياسي.
شهدت المواجهة بين حماس وأفراد من عائلة المجايدة مراحل تصعيد دموية، خاصة بعد اتهام الحركة عناصر من العائلة باستهداف عنصرين من مقاتليها، حيث طالبت شيوخ المجايدة علناً بالتبرؤ من المتورطين في الواقعة.
وفي الوقت الذي دخل فيه وسطاء للتهدئة بين العائلة والحركة، قام أحد عناصر المجايدة بقتل وسيط كان قد تدخل للتفاوض والتهدئة، مما أدى إلى تجدد الاشتباكات العنيفة بين الطرفين، وقتل ما بين ستة إلى سبعة أفراد من عائلة المجايدة.
في خطوة لاحقة، سعت العائلة إلى احتواء الأزمة وحل النزاع عبر القنوات العائلية والاجتماعية، حيث نشرت بياناً رسمياً يُفيد بأنها تصالحت مع الحركة، في دلالة على اعترافها بضرورة احتواء التصعيد، متعهدة بتسليم سلاحها للقوات الأمنية في غزة.
عائلة دغمش
تصاعدت حدة الصراع الداخلي في قطاع غزة لتصل إلى مواجهة دموية بين حركة حماس وعناصر من عائلة دغمش، إحدى العائلات الكبرى، حيث تتهم الحركة عدداً من أبناء العائلة بالانضواء والعمل تحت مظلة الميليشيات العسكرية المتعاونة مع الاحتلال الإسرائيلي.
ويُعدّ الاتهام الأخطر هو تورط هذه العناصر في قتل عدد من مقاتلي كتائب القسام خلال مواجهات مع جيش الاحتلال، مما يضع أفعالهم في خانة الخيانة والمواجهة المسلحة المباشرة للمقاومة.
لم يقتصر الخلاف على الاشتباكات الميدانية، بل امتد إلى قضية حساسة تتعلق برمزية المقاومة، حيث الاستيلاء على الجثامين، إذ اتهمت حماس عناصر من العائلة بالاستيلاء على جثامين عناصر القسام المقتولين. وطالبت الحركة كبار عائلة دغمش بتسليم تلك الجثامين بالإضافة إلى تسليم الأفراد المنضوين في الميليشيات العسكرية العميلة، إلا أن الطلب قوبل بالرفض من قبل كبار العائلة، مما أدى إلى تصعيد الموقف نحو المواجهة الشاملة.
نتيجة لهذا الرفض وتفاقم الخلاف، اندلعت اشتباكات عنيفة بين الطرفين، انتهت بحصيلة دموية ثقيلة تعكس شراسة المواجهة، حيث سقط من العائلة 20 فردًا على الأقل فيما قتل 6 من عناصر القسام، من بينهم نجل القيادي في حماس، باسم نعيم.
فشل كلاسيكي
في تقرير بحثي جديد، كشف ميخائيل ميلشتاين، رئيس القسم الفلسطيني في مركز “ديّان” للدراسات الشرق أوسطية بجامعة تل أبيب، أن الرهان الإسرائيلي على العشائر والمجموعات المسلحة المحلية في غزة لمواجهة حركة حماس قد انتهى بفشل ذريع، مؤكدًا أن هذه المقاربة ليست سوى إعادة إنتاج لأخطاء تاريخية ارتكبتها “إسرائيل” في محاولات سابقة لبناء قوى فلسطينية موالية لها.
وأوضح ميلشتاين أن ما يُعرف بتجربة “العشائر” في غزة يُعد “إخفاقًا كلاسيكيًا في فهم الواقع الفلسطيني”، مشبهًا إياها بتجارب سابقة مثل “جيش لحد” في جنوب لبنان و”روابط القرى” في الضفة الغربية خلال ثمانينيات القرن الماضي، مشيرًا إلى أن نتائج هذه التجربة الكارثية تستدعي أن تكون ضمن ملفات لجنة التحقيق الرسمية التي يُتوقع تشكيلها لاحقًا لتقييم إخفاقات إدارة الحرب على غزة.
وأضاف الباحث الإسرائيلي أن محاولة تل أبيب استنساخ نماذج أمنية فاشلة من الماضي تكشف عن قصور عميق في فهم المجتمع الفلسطيني وطبيعة تركيبته الداخلية، مؤكدًا أن الاعتماد على جماعات محلية لمحاربة حماس يعكس عجز المؤسسة الإسرائيلية عن استخلاص الدروس من التجارب السابقة وفهم ديناميات الولاء والانقسام داخل القطاع.
وفي سياق متصل، استعرض ميلشتاين سلسلة من الإخفاقات الإسرائيلية الأخرى في إدارة الحرب على غزة، من بينها تشكيل ما سُمّي بـ “هيئة تشجيع الهجرة”، ومشروع توزيع المساعدات عبر صندوق GHF، الذي قال إنه استهلك مليارات الشواكل دون تحقيق نتائج ملموسة، مشيرًا إلى أن تلك الأموال “دُفنت في رمال غزة دون أن تترك أثرًا حقيقيًا”.
وأردف ميلشتاين أن ملف “العشائر” تحوّل إلى عبء أمني وسياسي على القيادة الإسرائيلية، إذ باتت عاجزة عن حمايتهم أو دعمهم ميدانيًا دون تهديد اتفاق وقف إطلاق النار الهش. كما لفت إلى أن اعتراف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتسليح تلك الجماعات ألحق ضررًا بالغًا بصورة إسرائيل أمام الرأي العام، خاصة وأن هذه الكيانات – كما قال – “منبوذة اجتماعيًا داخل غزة وتُنظر إليها كأدوات بيد الاحتلال”.
هدف مزدوج
لم تعد تلم الميليشيات المحلية ظاهرة هامشية أو مجرد تجمعات مسلّحة صغيرة تعمل في زوايا بعيدة من القطاع. بل تحولت، بفعل استراتيجية إسرائيلية مدروسة، إلى أدوات متعددة الوجوه تُوظَّف لتحقيق غايات سياسية وأمنية متداخلة، تسمح للاحتلال بإعادة تشكيل المشهد الجغرافي والاجتماعي في غزة من دون الظهور كبصمة مباشرة على الأرض.
تسعى هذه الاستراتيجية إلى بلوغ هدفين متكاملين:
الأول: تدشين جبهة داخلية موالية تضعف قدرات المقاومة وتنهكها تدريجيًا — نتيجة صراع داخلي يُستنزف فيه عنصر الوقت والموارد — وبذلك تحقيق ما فشلت الحروب المباشرة في فرضه خلال العامين الماضيين.
الثاني: فرض واقع جديد يقوم على تفتيت التماسك الاجتماعي عبر تغذية الانقسامات العشائرية، وتكريس زعامات نفعية تمنح امتيازات محلية، وتحويل هذه التشكيلات إلى أدوات لوجستية واستخباراتية تتحكم بتدفقات المساعدات وتزوّد الاحتلال بمعلومات ميدانية دقيقة تقلّص تكلفة عملياته وتُسهِم في إعادة تشكيل قواعد القوة داخل القطاع.
في الأخير وبحسب تلك الخارطة المتشعبة من الكيانات والشخصيات والعائلات المتخابرة مع الاحتلال، فالمسألة لم تعد مجرد عنف متقطع؛ بل هي جزء من هندسة استراتيجية طويلة النفس تهدف إلى تحويل فوضى الساحات الداخلية إلى بُنى وظيفية تخدم أهدافًا خارجية، وهو ما تؤمن المقاومة بضرورة التصدي له بكل حسم وقوة، قبل أن تنتقل تلك الاستراتيجية من مرحلة التخطيط الجزئي، إلى أمر واقع لا يمكن الفرار منه.