تثير مسألة اعتبار سوريا “دولة غنية بالموارد الطبيعية” نقاشًا واسعًا في الأوساط الاقتصادية والشعبية على حدّ سواء، خاصة مع تعدد الموارد التي تمتلكها البلاد، لكن فهم هذا الوصف يحتاج إلى تحليل أعمق لمفهوم غنى الموارد في الاقتصاد، وللعوامل التي تحدد قدرة الدول على تحويل مواردها إلى قيمة مالية حقيقية.
ومن خلال قراءة موضوعية للبيانات والإنتاج والعائدات، يصبح من الممكن تقييم موقع سوريا الفعلي مقارنة بالدول الريعية وبناء تصور واضح لآفاقها الاقتصادية.
موارد سوريا.. بين القيمة السوقية وحجم السكان
غالبًا ما يُساء فهم مصطلح “الدول الغنية بالموارد الطبيعية” في الخطاب العام، إذ يُختزل في مجرد امتلاك الدولة لمخزون من النفط أو الغاز أو المعادن، لكن في الواقع الاقتصادي، لا يُقاس غنى الموارد بوجودها في باطن الأرض، بل بالقيمة السوقية التي يمكن لهذه الموارد أن تولدها فعليًا عند استخراجها وتسويقها، فالمورد الطبيعي يصبح ذا قيمة فقط عندما يكون مطلوبًا عالميًا ويمكن بيعه بعائد كبير يفوق تكاليف إنتاجه.
لكن هذا العامل وحده غير كافٍ لتصنيف دولة بأنها “غنية بالموارد”، فالاقتصاد لا ينظر إلى القيمة المطلقة للموارد، بل إلى نصيب الفرد من هذه القيمة، أي أن تقييم غنى الدولة بالموارد يرتبط مباشرة بعدد السكان واحتياجاتهم المالية، فالمورد الذي قد يحقق إيرادات كبيرة لدولة صغيرة السكان، قد يكون غير كافٍ على الإطلاق لدولة ذات تعداد سكاني كبير.
وعليه، فإن غنى الموارد هو نتيجة لمعادلة متوازنة بين جانبين؛ الأول هو القيمة السوقية للموارد الطبيعية القابلة للتحقق، والثاني هو حجم السكان والإنفاق العام المطلوب لخدمتهم.
فكلما ارتفعت القيمة السوقية للموارد وانخفض عدد السكان، ازدادت قدرة الدولة على تمويل نفقاتها من هذه الموارد، وهذا ما يفسر قدرة دول مثل قطر أو الكويت على تمويل الدولة بالكامل من عائدات النفط والغاز، رغم أن احتياطياتها قد تكون أقل من دول أخرى ذات تعداد سكاني ضخم.
في المقابل، قد تمتلك دولة موارد طبيعية متنوعة، بل وربما جيدة، لكنها لا تُصنَّف كغنية بالموارد لأنها لا تحقق قيمة سوقية كافية لكل فرد، وبالتالي لا تستطيع تلبية حجم الإنفاق العام للدولة من خلال مواردها الطبيعية وحدها.
تنوع جيد لكن وفرة محدودة
تُظهر قراءة موارد سوريا قبل عام 2011 صورة دقيقة عن حجم وقدرة قطاعات النفط والغاز والفوسفات والزراعة، ليس من حيث وجودها فقط، بل من حيث قيمتها السوقية الفعلية.
ومن خلال تحليل الإنتاج والاستهلاك وصافي العائد، يمكن فهم الدور الحقيقي لكل مورد في دعم الاقتصاد السوري آنذاك.
هذه المعطيات تشكّل الأساس الضروري لتقييم مدى قدرة سوريا على المنافسة أو بناء اقتصاد ريعي مقارنة بالدول الغنية بالموارد.
النفط: القدرة والإيرادات
قبل عام 2011، كان قطاع النفط السوري يعمل ضمن قدراته الطبيعية، ما جعله أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، بلغت الاحتياطيات المؤكدة نحو 2.4 مليار برميل، تُقدّر قيمتها اليوم بحوالي 140.4 مليار دولار على أساس سعر 58.5 دولارًا للبرميل.

كان متوسط الإنتاج يقارب 350 ألف برميل يوميًا، أي 127.75 مليون برميل سنويًا بقيمة سوقية تقارب 7.47 مليارات دولار، حيث كان يتم تكرير نحو 200 ألف برميل يوميًا في مصفاتي حمص وبانياس لإنتاج البنزين والديزل وزيت الوقود للسوق المحلية، لهذا كانت سوريا تُصدّر نحو 150 ألف برميل يوميًا من النفط الخام، أي 3.2 مليارات دولار سنويًا.
في المقابل، بلغ الاستهلاك المحلي حوالي 300 ألف برميل يوميًا، ما اضطر البلاد إلى استيراد نحو 70 ألف برميل يوميًا، لعدم قدرة المصافي على تلبية كامل احتياجات السوق المحلي. وبالاعتماد على سعر البرميل المذكور في الأعلى، فإن التكلفة السنوية تقارب 1.49 مليار دولار. أي أن صافي العائد النفطي السنوي بلغ قرابة 1.71 مليار دولار، ما يعكس الدور الحيوي للنفط قبل الحرب.
الغاز: حجم الاحتياطي ودور الإيرادات
لم يكن الغاز بعيدًا عن المشهد الطاقي، فقد شكّل موردًا مهمًا ومكمّلًا للنفط في بنية الطاقة السورية، إذ بلغ الاحتياطي المؤكد من الغاز نحو 240 مليار متر مكعب، ما يعادل قيمة سوقية تقارب 72 مليار دولار وفق سعر تقديري يبلغ 0.30 دولار للمتر المكعب.
كانت سوريا تنتج حوالي 30 مليون متر مكعب يوميًا، أي ما يعادل 10.95 مليارات متر مكعب سنويًا، بقيمة تقديرية تصل إلى 3.285 مليارات دولار سنويًا. ومن هذه الكمية، كان الاستهلاك المحلي يستحوذ على 18 مليون متر مكعب يوميًا، أي 6.57 مليارات متر مكعب سنويًا بقيمة تقارب 2.0 مليار دولار.
أما الفائض القابل للتصدير — حوالي 12 مليون متر مكعب يوميًا — فكان يعادل 4.38 مليارات متر مكعب سنويًا، بقيمة صادرات سنوية تقدّر بنحو 1.314 مليار دولار.
الفوسفات: احتياطي ضخم وإمكانات غير مستغلة
يمتلك سوريا احتياطيًا ضخمًا من الفوسفات يتجاوز 1.8 مليار طن، وتصل قيمته السوقية إلى نحو 234 مليار دولار بحسب سعر 130 دولارًا للطن.
بلغ الإنتاج السنوي قبل 2011 حوالي 3.5 ملايين طن، استُخدم منها محليًا 600 ألف طن فقط، فيما استوردت البلاد 40% من احتياجاتها من الأسمدة، ما يعكس ضعف التصنيع المحلي.
تم تصدير كامل الإنتاج تقريبًا في عام 2010، أي 3.5 ملايين طن، بعائد سنوي يقدّر بنحو 455 مليون دولار.
وتستهدف الخطط الحالية رفع الإنتاج إلى 6 ملايين طن سنويًا في 2026، ثم 10 ملايين طن في 2027، بقيمة قد تصل إلى 1.3 مليار دولار سنويًا، مع التركيز على أسواق مثل الصين والهند.
الزراعة: ركيزة اقتصادية وصادرات مؤثرة
شكّلت الزراعة قبل عام 2011 أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد السوري، إذ ساهمت بنحو 17.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010، ما يعكس وزنها الكبير في النشاط الاقتصادي والتشغيل والدخل.
على صعيد التجارة الخارجية، لعبت الزراعة دورًا محوريًا في دعم الميزان التجاري، حيث مثّلت الصادرات الزراعية نحو 30% من إجمالي الصادرات السورية، ومع بلوغ قيمة الصادرات الكلية قرابة 8.8 مليار دولار في عام 2010، بلغت قيمة الصادرات الزراعية نحو 2.6 مليارات دولار سنويًا.
هذا الأداء جعل القطاع الزراعي مصدرًا رئيسيًا للعملة الصعبة، إلى جانب دوره الحيوي في تحقيق الأمن الغذائي وتشغيل شريحة واسعة من السكان. وتُظهر هذه الأرقام أن الزراعة لم تكن مجرد قطاع معيشي، بل مكوّنًا استراتيجيًا في الاقتصاد السوري قبل الحرب، وقاعدة يمكن البناء عليها في أي مسار تعافٍ اقتصادي مستقبلي.
تكشف هذه البيانات أن موارد سوريا قبل 2011، رغم أهميتها، لم تكن تمتلك الحجم ولا القيمة السوقية التي تسمح بتحويلها إلى اقتصاد ريعي، فصافي العائد النفطي والغازي معًا لم يتجاوز نحو 3 مليارات دولار سنويًا، بينما لم تتخطَّ عائدات الفوسفات والزراعة بضعة مليارات إضافية، ليبقى إجمالي ما يمكن للموارد الطبيعية توليده حوالي 6–7 مليارات دولار فقط.
سوريا/دول الخليج: هل المقارنة ممكنة؟
تَظهر الفجوة الحقيقية بين موارد سوريا وموارد الدول الخليجية عندما تُقاس العلاقة بين القيمة السوقية للإنتاج وعدد السكان، وهو المعيار الاقتصادي الذي يحدد قدرة الموارد الطبيعية على تمويل الدولة، فحتى لو كان لسوريا موارد متعددة، إلا أن هذه الموارد، بقيمتها وإنتاجها وحجم سكانها، لا تسمح ببناء نموذج شبيه بالنموذج الريعي الخليجي.
في حالة السعودية، التي يبلغ عدد سكانها نحو 35 مليون نسمة، وصلت عائداتها النفطية في عام 2024 إلى 223.3 مليار دولار، أي ما يعادل 6,400 دولار للفرد تقريبًا من النفط وحده، ويعود ذلك إلى قدرتها على إنتاج 3.277 مليارات برميل سنويًا مع احتياطيات ضخمة تبلغ 259 مليار برميل، تُباع بأسعار عالمية مرتفعة، مما يجعل النفط موردًا قادرًا على تغطية نفقات الحكومة وتوليد فائض كبير.
أما قطر، التي لا يتجاوز عدد سكانها 3.3 مليون نسمة، فقد حققت في 2024 عائدات غازية بلغت 132 مليار دولار، أي ما يقارب 40,000 دولار للفرد من الغاز فقط، وذلك بفضل احتياطها الهائل البالغ 843 تريليون قدم مكعب وإنتاجها الذي وصل إلى 179.5 مليار متر مكعب سنويًا.
في المقابل، لا تستطيع موارد سوريا -مهما جرى تحسين إدارتها- الوصول إلى هذا المستوى من القدرة التمويلية، فصافي الإيراد النفطي السوري قبل الحرب لم يتجاوز 1.71 مليار دولار سنويًا، بينما بلغ صافي العائد الغازي نحو 1.31 مليار دولار، إضافة إلى 455 مليون دولار من الفوسفات وقيمة صادرات زراعية تقارب 2.6 مليارات دولار. وحتى باحتساب هذه الموارد كلها، فإن إجمالي العائدات – والذي لا يتجاوز 7 مليار دولار- لا يصل إلى مستوى يتيح تغطية نفقات دولة يبلغ عدد سكانها حوالي 20–22 مليون نسمة، فنصيب الفرد السوري أقل من 300–350 دولار سنويًا من كل الموارد الطبيعية مجتمعة.
وهذا الرقم لا يُقارن بنصيب الفرد في السعودية أو قطر، حيث يتجاوز آلاف أو عشرات الآلاف من الدولارات للفرد، مما يجعل الدول الخليجية قادرة على تمويل موازناتها بالكامل من الموارد، بينما لا يمكن لسوريا -بحكم طبيعة مواردها وقيمتها السوقية وعدد سكانها- تحقيق ذلك مهما تحسّن الاستخراج والإدارة.
جوهر الاختلاف هنا لا يتعلق بوجود الموارد، بل بمقدار الثروة الحقيقية التي يمكن أن توفّرها لكل فرد، فموارد الطاقة الخليجية عالية القيمة، كثيفة الإيراد، ومنخفضة التكلفة، بينما موارد سوريا متوسطة القيمة، محدودة الإنتاج، وغير قادرة على توليد عائد كافٍ لتمويل موازنة دولة كبيرة نسبيًا.
هل يمكن تمويل الدولة من عائدات الموارد السورية؟
تظهر مراجعة الموازنة السورية لعام 2010، التي بلغت 16.55 مليار دولار، مدى محدودية قدرة الموارد الطبيعية على تمويل الدولة حتى في فترة الاستقرار، فإجمالي الإيرادات المتأتية من النفط والغاز والفوسفات قبل الحرب لم يتجاوز 4.3 مليارات دولار سنويًا، أي بحدود 26% فقط من حجم الموازنة، مما اضطر الدولة إلى الاعتماد على الضرائب والإيرادات الأخرى لتغطية الجزء الأكبر من النفقات، هذا يعكس بوضوح أن سوريا لم تكن تمتلك نموذجًا ريعيًا قائمًا على الفائض من الموارد الطبيعية.
وتتضح محدودية الموارد السورية أكثر عند مقارنتها بموازنات الدول النفطية، ففي السعودية، بلغت إيرادات عام 2024 نحو 1259.1 مليار ريال (335.7 مليار دولار)، منها 756.62 مليار ريال (201.7 مليار دولار) من النفط وحده، أي ما يفوق كامل الموازنة السورية بأكثر من 12 مرة، ويغطي الجزء الأكبر من إنفاق سعودي يتجاوز 1374.7 مليار ريال (366.6 مليار دولار)، وبذلك، يبقى اعتماد المملكة على النفط أساسيًا لتمويل موازنتها الضخمة.
أما قطر، فقد بلغت إيراداتها المتوقعة لعام 2024 نحو 202 مليار ريال (55.48 مليار دولار)، منها 159 مليار ريال (43.67 مليار دولار) من النفط والغاز، وهي أرقام تتجاوز إجمالي موارد سوريا الطبيعية بأضعاف مضاعفة، وتسمح للدولة بتغطية معظم إنفاقها البالغ 200.9 مليار ريال (55.18 مليار دولار) تقريبًا بالكامل.
في ضوء هذه المقارنات، يتبيّن أن المشكلة في سوريا ليست فقط حجم الموارد، بل ضعف قيمتها السوقية مقابل حجم السكان وحجم الموازنة، فبينما تموّل السعودية وقطر غالبية إنفاقهما من موارد الطاقة، كانت سوريا -حتى قبل عام 2011- غير قادرة هيكليًا على استخدام مواردها الطبيعية لتمويل موازنة حكومية متواضعة مقارنة بدول الخليج. وهذا يثبت أن بناء نموذج اقتصادي سوري مستقبلي لا يمكن أن يستند إلى الموارد الطبيعية وحدها كما يتصور البعض.
نحو نموذج اقتصادي جديد: الاستثمار في الإنسان
تكشف التجربة الاقتصادية السورية، كما تُظهرها الأرقام، أن الموارد الطبيعية -رغم أهميتها- لا تمتلك القدرة التمويلية أو السوقية التي تمكّنها من حمل اقتصاد دولة كبيرة السكان، ولا يمكن التعويل عليها كأساس لبناء نموذج تنموي مستدام، ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة للانتقال نحو نموذج اقتصادي جديد يقوم على تعظيم رأس المال البشري والمعرفي باعتباره المورد الأكثر قابلية للنمو والتطوير.
يقوم هذا النموذج البديل على الاستثمار المكثّف في التعليم، والبحث العلمي، والتكنولوجيا، والمهارات الرقمية، والابتكار، وهي المجالات التي أثبتت تجارب بلدان عديدة -مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة- قدرتها على تحويل دول فقيرة بالموارد إلى قوى اقتصادية متقدمة.
وتحتاج سوريا في هذا السياق إلى تحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات، وتطوير البنية التحتية للطاقة والاتصالات والنقل، بما يفتح الباب أمام قطاعات ذات ميزة تنافسية مثل الصناعات الدوائية، وتكنولوجيا المعلومات، والصناعات الغذائية، والسياحة الثقافية والطبية، والزراعة المتخصصة.
ويقتضي هذا التحول اعتماد مبادئ المالية العامة الحديثة، والتي تشترط أن تعتمد الحكومة في نفقاتها الجارية على الإيرادات المستقرة مثل الضرائب، باعتبارها مصادر يمكن التنبؤ بها، أما إيرادات الموارد الطبيعية -ذات الطابع المتقلب تبعًا لأسعار السوق العالمية والمهددة بالنضوب- فيجب توجيهها إلى الاستثمار طويل الأجل، وخاصة إعادة إعمار البنية التحتية وتحسين بيئة الاستثمار، بدل استخدامها في تغطية المصروفات التشغيلية.
ويساعد هذا التمييز بين نوعي الإيرادات على حماية الموازنة العامة من مخاطر الاعتماد على موارد قابلة للتقلّب أو الانتهاء، ويؤسس لاقتصاد إنتاجي قادر على توليد القيمة المضافة من خلال المعرفة والمهارة، لا من خلال استخراج الموارد الطبيعية وحدها، وبهذا يصبح الإنسان هو المورد الحقيقي الذي يمكن أن يبني سوريا قوية اقتصاديًا في المستقبل.