إن الحرب العالمية تعني وجود حالة صراع بين عدة قوى تتداخل مصالحها وتتشابك في عدة مناطق معينة، كل واحدة من هذه القوى ترى في تلك المناطق ما يمس مصالحها، فالكل يصارع من أجل المحافظة على نفوذه.
إن مناطق الصراع الدولي هي مناطق ذات مصادر حيوية وإستراتيجية، وتتطلب المحافظة على هيبة الدولة والتأثير في السياسات العالمية السيطرة على تلك المناطق سواء كانت سيطرة مباشرة أو خفية، لكن الحديث عن الصراع الذي قد ينتهي بحدوث حرب عالمية يعني الحديث عن نظام عالمي جديد تترسم في نهايتها حدود هذا النظام ومن هي قواه المتربعة عليه، فالحرب العالمية الأولى والثانية أفرزتا لنا نظامًا دوليًا كانت له آلياته وقوانينه التي اتفقت عليها الدول المنتصرة لترتيب الأوضاع الدولية وتقاسم النفوذ.
ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن لم يشهد العالم نظامًا عالميًا جديدًا، إذ بقي العالم محكومًا بما أفرزته الحرب العالمية الثانية من نظام عالمي تمثلت أدواته بالأمم المتحدة وتحكم الدول الكبرى المنتصرة في الحرب عبر مجلس الأمن في تسيير قراراته الأممية، فيما يتعلق بالأمن والسلم الدوليين.
لقد شكلت فترة ما بعد الحرب الباردة نقطة تحول جديدة، إذ برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى عملت على ترتيب الأوضاع الدولية لرسم حدود نظام يسمح لها بالانفراد في قيادة العالم، إما من خلال اتباع سياسة القوى الناعمة أو في بعض الأحيان التدخل العسكري تحت غطاء حفظ الأمن والسلم الدوليين في سبيل تحقيق مصالحها في مناطق إستراتيجية مهمة.
فلو نظرنا لفترة ما بعد الحرب الباردة وحتى احتلال العراق سنة 2003 كانت الولايات المتحدة هي الفاعل الرئيس في التأثير في مجريات الأحداث في الساحة الدولية، فروسيا كانت منشغلة في إعادة ترتيب أوضاعها الداخلية واستعادة قوتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واستقلال دوله عنه وانضمام بعض منها للمعسكر الغربي.
إن بقاء العالم محكومًا بنفس الآليات التي كانت تسيّر النظام العالمي إبان الحرب الباردة، لم يكن ليرضي طموح الدولة المنتصرة في الحرب الباردة والمتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية التي اعتبر منظرو سياساتها الخارجية أن العالم يمر بمرحلة انتقالية نحو نظام عالمي جديد قد تكون الولايات المتحدة أبرز أقطابه أو قطبه الأوحد، وقد كانت التجربة الأولى في الخروج على قواعد هذا النظام هو قرار شن الحرب على العراق عام 2003، الذي تفردت فيه الولايات المتحدة بدعم من بريطانيا، مع معارضة شديدة من قبل روسيا والصين وفرنسا، إن دخول القوات الأمريكية للعراق رغم معارضة ثلاثة من الأعضاء الدائميين في مجلس الأمن شكل خروجًا صريحًا عن قواعد النظام الدولي ورسالة أمريكية واضحة أنها ستنفرد بقيادة العالم.
إن المغامرة الأمريكية لم تكن سهلة كما صورتها للرأي العام المحلي والعالمي، فقد لاقت الولايات المتحدة صعوبات جمة في غزوها للعراق وقدمت عددًا من الضحايا فاق تحمل الشعب الأمريكي حتى اضطرت لسحب قواتها، وكان ذلك بمثابة انتصار للأطراف المناهضة لتغيير آليات النظام العالمي الراهنة، وربما كان لها دور مهم في إرباك خارطة الطريق الأمريكية في العراق، سواء عبر دعم التدخلات الإقليمية أو تنظيمات المقاومة المسلحة داخل العراق.
إن الصراع بين القوى العظمى برز بشكل واضح بعد ثورات الربيع العربي التي فتحت الباب للتدخل من قبل هذه القوى التي سعت لاستغلال الانقسامات والصراعات العرقية والدينية والسياسية داخل الدولة الواحدة في إيجاد مسرح للصراع فيما بينها على قواعد للنظام الدولي الذي ينشده كل طرف، إذ أخذت التحالفات شكلاً مختلفًا عن السابق فلم تعد مقتصرة على التحالف مع أنظمة سياسية تحكم بلدًا معينًا، وإنما بدأنا نشهد تحالفات مع تنظيمات وحركات محلية متصارعة داخل الدولة الواحدة الهدف منها استدراج الخصم للدخول في معارك مباشرة مع هذه التنظيمات وتعميق الفوضى ورسم خارطة لتحالفات جديدة قد تكون بداية حرب عالمية ثالثة.
فهل ستكون فعلاً هناك مواجهة عسكرية مباشرة بين هذه القوى العظمى؟ وفيما إذا تحقق ذلك ماهي طبيعة تلك المواجهة العسكرية؟ هل ستكون تقليدية أم بأسلحة نووية؟ وإذا ما تم استخدام السلاح النووي فهل ستكون أهدافه تدميرًا شاملاً لوجود الخصم كدولة؟ أم مجرد إيقاع تكاليف لا يتحملها الخصم ولا يقاومها برد فعل موازٍ أو أشد؟.
وقد لا تكون ثمة مواجهة مباشرة وإنما مجرد حرب باردة تنتهي باستسلام أحد أطراف الصراع عندما يصل حدًا تستنزف فيه جميع طاقاته الاقتصادية والعسكرية، إذ الحرب معادلة صعبة خصوصًا إذا كانت مواجهة بين قوتين نووييتين، لذا قد تكون الخيارات العقلانية مع تجنب المواجهة المباشرة والاكتفاء بآليات الحرب الباردة كالحرب بالوكالة وسباق التسلح وسياسة الاحتواء.
أيًا كانت طبيعة المواجهة فإن منطقة الشرق الأوسط هي أحد أبرز المسارح التي ستكون المواجهة فيها على أشدها، إذ تشهد هذه المنطقة استقاطبًا طائفيًا غير مسبوق أخذ يهدد تماسك دولها التي بدأت تعاني تصدعًا ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا فضلاً عن الانقسام المذهبي الذي وصل مرتبة الحرب الأهلية في دول مثل سوريا واليمن، هذه الحرب لم تقسم سوريا واليمن ولا الشرق الأوسط فحسب، بل قسمت العالم برمته حتى بات الانتماء المذهبي المعيار المعول عليه في بناء التحالفات الدولية ضمن هذه المنطقة، فهل ستنتهي المواجهة كما يتكهن البعض بإعادة رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط وتقاسم مناطق النفوذ فيه؟ أم هي مجرد بداية مواجهة أشمل على إعادة رسم خارطة جديدة للنظام الدولي.