تصاعدت حالة التوتر على الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا في أعقاب إرسال الأخيرة تعزيزات عسكرية في إطار دعم قواتها المنتشرة على الحدود تحسبًا للقيام بعملية عسكرية داخل الأراضي السورية لا سيما في مدينة عفرين التي تسيطر عليها مليشيا “وحدات حماية الشعب” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي.
أنقرة واصلت تعزيزاتها العسكرية على مدار اليومين الماضيين كان آخرها إرسال خمس دبابات أمس السبت، انطلقت من مدن مختلفة، ووصلت إلى بلدة الريحانية التابعة لولاية هاتاي، وسط إجراءات أمنية مشددة، وعلى الاستعداد للقيام بأي مناورات أو عمليات عسكرية في أي وقت في ظل تأزم الوضع على الشريط الحدودي.
المدفعيات المرابطة في المناطق المتاخمة لمدينة عفرين، بدأت بعد ظهر أمس بتوجيه القذائف نحو أهداف محددة داخل مدينة عفرين، وذلك بحسب وسائل إعلام محلية تركية قالت إن أصوات القصف سُمعت من معبر جلوة غوزو الحدودي المقابل لمعبر باب الهوى في الجانب السوري، فهل باتت أنقرة على مشارف تدخل عسكري جديد؟ وماذا عن الموقف الروسي والأمريكي من هذه العملية؟
استنفار كامل
حالة من الاستنفار الكامل وضعت فيها القوات التركية الموجودة على الحدود السورية استعدادًا – في أي وقت – للقيام بعمل عسكري في مدينة عفرين، خاصة بعد تمدد الوحدات الكردية المدعومة أمريكيًا في محافظتي حلب والرقة، حيث باتت تشرف على مساحة تتجاوز 65% من الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا الذي يبلغ 911 كيلومترًا، ويبدأ هذا الشريط من محافظة اللاذقية (أقصى شمال غربي البلاد)، وصولاً إلى محافظة الحسكة (شرقًا)، مرورًا بمحافظات إدلب وحلب والرقة.
وقد أمهلت أنقرة القوات الكردية ثلاثة أيام من أجل الانسحاب الكامل من عفرين وتسليمها للقوات التركية، فيما أعطت أوامرها الكاملة لقواتها المرابطة هناك في منطقة “زافر توكا” التركية الحدودية برفع حالة التأهب إلى الدرجة القصوى استعدادًا للدخول إلى الأراضي السورية بعد انتهاء هذه المهلة.
غير أن قوات “وحدات حماية الشعب” لم تستجب لتلك المهلة حتى الآن بل على العكس قامت بالرد على حالة الاستفنار التي تخيم على القوات التركية على الشريط الحدودي باستهداف المخافر التركية الحدودية، بحسب ما نقل “العربي الجديد” عن مصدر عسكري تركي، رجح بدء معركة بين القوات التركية وبعض فصائل الجيش الحر المدعومة تركيًا مع مليشيا “وحدات حماية الشعب” الكردية خلال اليومين القادمين بهدف السيطرة على مدينة عفرين.
أي تدخل عسكري في عفرين يستوجب توافق روسي تركي في هذا الشأن، خاصة مع قرب انتهاء معارك القضاء على تنظيم الدولة وتصعيد النظام السوري من تصريحاته ضد الأكراد
واتساقًا مع هذه التحركات فقد ذكرت بعض المصادر داخل “الجيش السوري الحر” أن تركيا طلبت من فصائل في الجيش الحر رفع قوائم بأسماء عناصر الجيش الحر التي ستشارك في معركة عفرين، كاشفة أن “الأسماء رفعت والعناصر أصبحت على استعداد للاشتراك في المعركة، إلا أن هناك خلافًا بين الولايات المتحدة وتركيا على تفاصيل العملية يؤخر الهجوم، ولو جرى حل هذا الخلاف، فإن المعركة ستبدأ خلال 24 ساعة”.
وهو نفس ما أشار إليه القيادي في فيلق الشام معاذ أبو عمر الذي قال: “الفصائل التي ستشارك في هذه المعركة جاهزة وفي حالة استنفار، وهناك تنسيق على أعلى المستويات بيننا وبين الجيش التركي”، لافتًا إلى أن “العدد المشارك في هذه المعركة هو 20 ألف جندي من الجيش الحر والجيش التركي، ومدة المعركة حسب الخطة الموضوعة يجب ألا تتخطى الشهرين”، مضيفًا أن “المعركة ستكون بغطاء جوي تركي”.
وعن المناطق التي سيتم تحريرها، قال القيادي السوري المعارض: “سوف يتم تحرير المناطق التي احتلتها قوات سوريا الديمقراطية وشردت أهلها”، مشيرًا إلى أن الطريق بين الريف الغربي والشمالي سوف يتم فتحه لتكون المنطقة أكثر انتعاشًا واتساعًا بعد انحسار مئات الآلاف في بقعة جغرافية صغيرة.
تنسيق روسي تركي في “درع الفرات”
ليست المرة الأولى
الحديث عن عملية عسكرية تركية داخل العمق السوري ليس أمرًا جديدًا، فتركيا دومًا تنظر إلى سوريا بوصفها قضية أمن قومي بالدرجة الأولى، وعمقًا إستراتيجيًا لها، خاصة مع التطورات التي جاءت – من حيث لم تحتسب أنقرة – بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي إلى الواجهة كرقم صعب في المشهدين الميداني والسياسي، بسيطرته على نحو ثلث مساحة البلاد بدعم من واشنطن، وهو ما يثير قلق تركيا.
فحين تسيطر الوحدات الكردية على ما يقرب من 65% من الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا الذي يبلغ 911 كيلومترًا تقريبًا بداية من محافظة اللاذقية (أقصى شمال غربي البلاد)، وصولاً إلى محافظة الحسكة (شرقا)، مرورًا بمحافظات إدلب وحلب والرقة، في مقابل سيطرة المعارضة السورية المدعومة تركيًا على 30% فقط من الشريط الحدودي، فيما تسيطر قوات النظام على 5% منه، كان لا بد لأنقرة من التحرك للحيلولة دون مزيد من التمدد لميليشيا الأكراد.
في أغسطس/آب 2016 وعقب عبور وحدات الشعب الكردية نهر الفرات إلى الغرب تدخلت أنقرة عسكريًا، فيما أطلق عليه حينها عملية “درع الفرات”، أسفرت عن انتزاع الجيش السوري الحر – بدعم تركي – مساحات من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ليحتل مسافة أكثر من مئة كيلومتر من الشريط الحدودي بين مدينتي أعزاز وجرابلس، وبعمق نحو خمسين كيلومترًا.
العملية وإن انتهت رسميًا في مارس/آذار 2017 إلا أن أنقرة أعلنت حينها أنها ستبقي على بعض وجودها العسكري في شمال سوريا وذلك بهدف الحفاظ على أمنها القومي والتصدي لأي محاولات استفزازية أخرى من القوات الموالية لحزب العمال الكردستاني.
عدم وفاء أمريكا بوعودها السابقة بسحب تلك الميليشيات الكردية من المدن السورية بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فضلًا عن الاستمرار في تسليحها ساهم بشكل كبير في تعميق الخلاف بين أنقرة وواشنطن داخل سوريا
بعض المصادر أشارت إلى أن المواقع التي تتمركز فيها تركيا على داخل سوريا ليست قواعد عسكرية بالشكل التقليدي المعروف، لكنها عبارة عن نقاط تموضع بلغت وفق إحصاء “الجزيرة” نحو 34 نقطة تموضع منتشرة في المواقع التي يسيطر عليها “الجيش الحر”، أبرزها جبل برصايا ومدينة مارع وجبل عقيل بمدينة الباب وعون الدادات وجنوبي جرابلس، وأيضًا بمحيط مدينة جرابلس.
هذا بخلاف نقاط المراقبة التركية في مناطق خفض التصعيد التي تشمل إدلب وأجزاء من محافظات حلب وحماة واللاذقية، علاوة على ثلاث نقاط أخرى في صلوة وجبل سمعان والشيخ عقيل التي تم الاتفاق عليها إلى جانب روسيا وإيران في إطار تطبيق اتفاق خفض التصعيد باعتبارها طرفًا ضامنًا للاتفاق.
حرص الجيش التركي على فرض طوق عسكري وأمني على منطقة عفرين من خلال نشر نقاط له على طول مناطق التماس مع مناطق سيطرة الوحدات التركية بات واضحًا للجميع، على الأخص في هذه المنطقة، في مقابل تصاعد وتيرة التصريحات التي تلمح إلى إمكانية القيام بعمل عسكري ضد الوحدات الكردية في منطقة عفرين، آخرها وأبرزها تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الصادر في 17 من ديسمبر/كانون الأول 2017 الذي قال فيه إنّ بلاده ستطهّر مدن عفرين ومنبج والقامشلي السورية من التنظيمات الإرهابية التي تهدد أمن وسلامة تركيا.
في حال عزمت أنقرة على التدخل عسكريًا فعلاً في عفرين، فإنه وبحسب المصادر سيكون عبر محورين اثنين؛ حيث يلتقي المحور الذي ينطلق من مارع مع المحور الذي ينطلق من ريف حلب الغربي، وعليه فإن النتائج في حال نجاح هذا العملية ستكون في حصار مناطق سيطرة الوحدات الكردية في عفرين وتأمين ممر بين مناطق سيطرة المعارضة المسلحة في ريفي حلب الشمالي والشرقي، بمناطقها في ريف حلب الغربي وإدلب، لكن يبقى الموقف الروسي والأمريكي ورقة مهمة قبل اتخاذ القرار النهائي بشأن هذه العملية.
تسليح أمريكا لقوات حماية الشعب الكردي أثار قلق تركيا
ماذا عن أمريكا وروسيا؟
التجاهل الأمريكي لشروط الأمن القومي التركي، سواء داخل تركيا أو على حدودها الدولية مع جيرانها، بخلاف القضايا الدولية الشائكة بات نقطة تحد كبرى أمام العلاقات التركية الأمريكية خاصة بعد دعم واشنطن المتواصل للأحزاب الكردية الانفصالية المصنفة إرهابيًا.
فأمريكا بحجة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سوريا والعراق سلحت الأحزاب الكردية دون مراعاة أن بعض هذه الأسلحة يتم تهريبها إلى داخل تركيا، مما فرض على السياسة التركية التحرك باتجاه تعاون دولي يمنحها الحق والقدرة على حماية شعبها وضرب الأحزاب الإرهابية التي تهدد الأمن القومي التركي، سواء كانت من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” أو من تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (ب ي د) في سوريا فرع حزب العمال الكردستاني.
وأمام هذا التحدي فتحت أنقرة صفحة جديدة في العلاقات مع روسيا وإيران في سوريا أسفرت عن عملية “درع الفرات” في محاولة لإنهاء القتال العسكري سوريًا، وبما لا يتعارض مع دعم المعارضة السورية المعتدلة التي تعاونت مع الجيش التركي في عملية “درع الفرات” وغيرها.
عدم وفاء أمريكا بوعودها السابقة بسحب تلك الميليشيات الكردية من المدن السورية بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فضلاً عن الاستمرار في تسليحها ساهم بشكل كبير في تعميق الخلاف بين أنقرة وواشنطن داخل سوريا، وهو ما تعيه الإدارة الأمريكية جيدًا هذه الأيام، ومن ثم ليس أمام تركيا سوى الدفاع عن مصالحها بنفسها لكن هذا لا يتم بصورة منفردة.
حالة من الاستنفار الكامل وضعت فيها القوات التركية الموجودة على الحدود السورية استعدادًا – في أي وقت – للقيام بعمل عسكري في مدينة عفرين، خاصة بعد تمدد الوحدات الكردية المدعومة أمريكيًا في محافظتي حلب والرقة، حيث باتت تشرف على مساحة تتجاوز 65% من الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا
التنسيق الروسي الإيراني مع تركيا في سوريا لا شك أنه يمثل ثقلاً كبيرًا لهذا التيار في مواجهة خصمه الأمريكي الرامي إلى تحقيق مصالحه الخاصة دون أي اعتبارات تتعلق بالأمن القومي لحلفائه القدامى وعلى رأسهم تركيا، وهو ما ساهم في توسيع دائرة الانتصارات التي يحققها هذا الفريق ميدانيًا دفعته لأن يملي شروطه ويرسم بصورة كبيرة ملامح خريطة المستقبل السوري، ولعل مؤتمر سوتشي المزمع عقده خلال الأيام القادمة أبرز دليل على سير المعركة على أرض الواقع.
نقطة أخيرة يجب التوقف عندها، وهي أن أي تدخل عسكري في عفرين يستوجب توافق روسي تركي في هذا الشأن، خاصة مع قرب انتهاء معارك القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وتصعيد النظام السوري من تصريحاته ضد الأكراد، فمن المتوقع أن تشرف روسيا على مناطق التماس الجديدة بين الجيش السوري الحر وقوات النظام وفق تفاهم جرى في وقت سابق، ومن ثم فإن غابت الموافقة الروسية على التدخل التركي، فإن هذا يعني انتهاء التفاهم الروسي التركي في سوريا، وهو ما قد يهدد هذا التحالف الذي تحرص كل من موسكو وأنقرة وطهران على الإبقاء عليه وفق إمكاناته الحاليّة.