“فيه ولاد من ولادنا قبل ما يتخرجوا بيكون ناقصلهم حوالي 5%، وبيعيد السنة وبيقعد علشان مادة أو مادتين، ينفع الكلام دا؟، ولذلك الـ 5% لكل طالب في البكالوريس والليسانس على حساب جامعة القاهرة”.. لم يكن هذا العرض المغري ضمن فيلم سينمائي كوميدي أو عمل درامي ساخر، بل كان بندًا من حزمة من المفاجآت التي أعلن عنها رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت لطلاب جامعته.
الخشت وخلال حفل أقامته الجامعة للفنان محمد حماقي، قبل أيام، أعلن عن عدد من الهدايا للطلاب بالتزامن مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية الجاري إجراؤه في الداخل، الأمر الذي أثار موجة انتقادات وسخرية غير مسبوقة.
حالة من الجدل أحدثها الفيديو المنتشر لرئيس الجامعة الأعرق في مصر والمنطقة العربية، فيما اعتبره البعض إساءة لتاريخ هذا الصرح الذي خرج مئات المفكرين، وصدّر للعالم كوكبة من العلماء والباحثين، فمن أحمد لطفي السيد وأحمد زكي باشا مرورًا بحسن إسماعيل وصوفي أبو طالب وصولًا إلى جابر نصار وعثمان الخشت.. كيف وصلت جامعة القاهرة إلى هذا المستوى؟
رشاوى انتخابية
الفيديو المنتشر على منصات التواصل الاجتماعي لرئيس جامعة القاهرة وهو يهتف وسط الطلاب “مين بيحب مصر”، وعلشان أنتو شباب زي الفل.. وعلشان أنتو اللي هتصنعوا المستقبل، لازم مش تنبسطوا النهادرة بالفن بس”، مضيفًا” : “أنا أعلنت إن فيه مفاجأة يوم 24 أبريل وهي إعفاء كل طلاب المدن الجامعية من مصاريف شهر رمضان”.
كما أشار إلى منح طلاب الجامعة إجازة فترة الاستفتاء وحتى عطلة الاحتفال بذكرى تحرير سيناء 25 إبريل الجاري، وإعفاء الطلاب من الرسوم الدراسية لغير المسددين حتى الآن، وسط هتافات وصيحات من الخشت يرددها الطلاب “تحيا مصر”، الأمر الذي وصفه معارضو التعديلات بأنه رشوى انتخابية للطلاب مقابل التصويت بالموافقة.
“محمد..ج” الأستاذ بالجامعة استنكر ما فعله الخشت واصفًا الفعل بـ “الفضيحة” التي تمسّ صورة جامعة القاهرة بما لها من تاريخ عريق، مؤكدًا على ضرورة تحويله للتحقيق والاعتذار عما حدث، حفاظًا على سمعة القلعة الأعرق في تاريخ منظومة العلم في المنطقة.
وأضاف أستاذ الجامعة لـ “نون بوست” أن تحويل الجامعة لمنابر دعائية سياسية لخدمة نظام بعينه كارثة بكل المقاييس، لافتًا أن الجامعة على مدار السنوات الأخيرة التي تلت ثورة يناير كانت قد تعهدت بعدم التدخل في السياسة والاكتفاء بالعلم وفقط، لكن يبدو أن الأمور ستعود إلى عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك مرة أخرى، حين كانت الجامعات أحزاب سياسية مصغرة لخدمة الحاكم، على حد قوله.
الإغراءات التي وصفت بـ “الرشاوى الانتخابية” أثارت حفيظة شريحة كبيرة من المصريين، فالبعض يراها وصمة عار في جبين الجامعة فيما ذهب آخرون إلى أنها حلقة في ترس تجييش كافة مؤسسات الدولة وقطاعاتها لصالح النظام الحاكم
أما المستشار عدلي حسين، محافظ المنوفية والقليوبية الأسبق، فأكد أن رئيس الجامعة لم يهن أكبر وأقدم جامعات مصر فحسب، بل ألحق الإهانة بالدولة المصرية وصدّر صورة سلبية عن المصريين للخارج قبل الداخل، مطالبًا بإقالته من منصبه فورًا حفاظًا على ماء الوجه.
فيما أشار الكاتب الصحفي سليمان الحكيم في مقاله المنشور في صحيفة “المصري اليوم” تحت عنوان”فيديو عثمان الخشت” إلى أن ما حدث إهانة للجامعة وتهديد لأمن ومستقبل المجتمع بأكمله، متسائلًا: كيف ينجح طالب راسب بمنحة من الجامعة ليست من حقه؟ كيف يمكن أن يتساوى طالب ذاكر طيلة العام بآخر تقاعس وفشل في تحقيق الحد الأدنى من درجات النجاح” لافتًا أن قرارًا كهذا سيحوّل الطالب إلى فاشل مرتين، الأولى حين تخرجه بدرجات الرأفة والثانية حين تقدم الجامعة للمجتمع خريجًا فاشلًا لا يمتلك الكفاءة، وهو ما سينعكس على الجميع.
فريق من النشطاء على مواقع السوشيال ميديا اعتبروا هذه السقطة إعلانًا واضحًا على تسييس الجامعة ومساعي تحويلها إلى بوق للنظام، وهو التحوّل الذي يحذر منه الجميع، خاصة وأن الحراك الجامعي طالما كان على عكس عقارب ساعة النظم الحاكمة، الأمر الذي سيعود بالردة في صدور أصحابه على حد تعبيرهم.
طلب إحاطة وتعقيب
الإغراءات التي وُصفت بـ “الرشاوى الانتخابية” أثارت حفيظة شريحة كبيرة من المصريين، فالبعض يراها وصمة عار في جبين الجامعة فيما ذهب آخرون إلى أنها حلقة في ترس تجييش كافة مؤسسات الدولة وقطاعاتها لصالح النظام الحاكم، وسط حالة الاستقطاب التي خيّمت على الأجواء طيلة السنوات الماضية.
وردًا على تلك الفضيحة تقدم عضو مجلس النواب محمد فؤاد، بطلب إحاطة موجه لرئيس الوزراء ووزير التعليم العالي، بشأن تصريحات رئيس جامعة القاهرة، مضيفًا في بيانه له “أن ذلك القرار سيفرز خريجين غير مؤهلين خاصة في المجالات وثيقة الصلة بحياة المواطن المصري كالطب”، معتبرًا التصريحات “قرارات حماسية وغير مدروسة وأحداث التشاجر والتحرش بين الطلاب في الحفل أظهرت الجامعة بشكل يسيئ لها”.
وطالب عضو مجلس النواب، بإحالة الطلب للجنة التعليم والبحث العلمي لمناقشته عملاً بنص المادة (134) من الدستور، والمادة (212،213) من اللائحة الداخلية للمجلس، وهو التحرّك الذي ربّما يتم حفظه وفق البعض ممن يرون أن ما فعله الخشت يأتي من باب “شعوره بالوطنية”.
وتزامنًا مع تصاعد حالة الغضب جرّاء تلك التصريحات، اتهمت جامعة القاهرة قنوات تابعة لجماعة الإخوان المسلمين ومواقع موالية لها على مواقع التواصل الاجتماعي، بمهاجمة رئيس الجامعة الذي قال في مداخلة هاتفية مع الإعلامي عمرو أديب، ببرنامج “الحكاية”، المُذاع عبر فضائية “MBC مصر”، مساء الجمعة، إن إعلان تلك القرارات للطلاب أثناء حفلة الفنان محمد حماقي لم يكن مقصود به حث الطلبة على المشاركة في التصويت لصالح التعديلات الدستورية، قائلًا: “ترويج مُحرّف ووضع في خارج سياقه وقتل معنوي لأي شخصية، كل اللي قولته تحيا مصر والطلاب رددت ورايا”، مضيفًا:”أنا بتعاطف مع الطلاب وبضمن مساعدة الطلاب سنويًا عن طريق الجامعة أو تبرعات رجال الأعمال”.
تراجع التصنيف العالمي
رغم سجلّها الوطني المشرّف ودورها ناصع البياض على مرّ تاريخها خلال العصر الحديث، إلا أن جامعة القاهرة دخلت خلال السنوات الأخيرة نفقًا مظلمًا من التراجع والتردي على كافة المستويات، على رأسها تراجع تصنيفها العالمي مقارنة بمختلف الجامعات الأخرى، وهو ما تكشفه المقاييس الدولية المخصصة لذلك.
ففي 2017 أعلن مقياس Quacquarelli Symonds لترتيب الجامعات العالمي انخفاض ترتيب جامعتين من خمسة جامعات مصرية أتت ضمن 916 جامعة شملها المقياس لعام 2016-2017، حيث حلّت الجامعة الأمريكية بالقاهرة في المرتبة الـ 365، بدلًا من المرتبة 345 في العام الماضي، وتراجعت جامعة القاهرة من شريحة الـ 501-550 إلى شريحة 551-600، بينما ظلت جامعات عين شمس والإسكندرية في شريحة ما بعد الـ 700 منذ العام الماضي، وحلّت جامعة الأزهر في الشريحة نفسها بعد انضمامها للتقييم هذا العام.
فيما أكد رئيس قسم الأبحاث بمقياس QS، بين سوتر، أن الجامعة الأمريكية بالقاهرة هي الجامعة الوحيدة في مصر التي ظهرت في التصنيف العالمي للجامعات في ما يخص عدد المرات التي يتم فيها الاستعانة بالأبحاث التي ينشرها أعضاء هيئة التدريس، مستعبدًا جامعة القاهرة من هذا التصنيف.
هل الخشت بتصرفه وخطابه هو إنعكاس لصوره واقعيه لطلبه جامعه القاهره ام العكس هو الصحيح #جامعة_القاهرةhttps://t.co/8N8tHj1FYj
— Mohamed Bekhiet (@mbekhiet123) April 19, 2019
وفي “التصنيف الإسباني للجامعات العالمية” الذي يعد ثاني أشهر تصنيف في العالم فقد تراجعت جامعة القاهرة إلى المركز 724 على مستوى العالم، بـ31 مركزًا عن الترتيب الأخير، فيما حلّت جامعة الإسكندرية في المركز الـ 916، متراجعة بـ337 مركزًا عن الترتيب السابق.
الأمر ذاته تكرّر في تصنيف مجلة «التايمز» البريطانية، في مجال العلوم الفيزيائية على مستوى جامعات العالم، بعدما احتلت الترتيب السادس بين الجامعات المصرية في التصنيف الذي تصدّرت فيه الجامعة الأمريكية بالقاهرة المركز الأول من بين جامعات الجمهورية.
بعض الأكاديميين أشاروا إلى أن الشهادات الفخرية – سيئة السمعة – تندرج تحت مسمى “التملق السياسي” خاصة تلك التي تعطى لملوك ورؤساء وهم في السلطة
وجاء في التصنيف الذي يعتمد على طرق التدريس، والنشاط البحثي للجامعة، وعدد الاقتباسات من الأبحاث، بالإضافة إلى عدد من الاعتبارات العالمية جامعة بنى سويف في المركز الثاني في التصنيف، خلف الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بعدما حلت فى المراكز من 801 إلى 1000 على ترتيب جامعات العالم، ثم جامعات عين شمس والإسكندرية وأسيوط والقاهرة والمنصورة وجنوب الوادي وقناة السويس على الترتيب.
وفي تقرير مؤسسة “تايمز للتعليم العالي” ( Times Higher Education) لأفضل الجامعات العالمية لعام 2019، فقد خرجت جامعة القاهرة عن قائمة أفضل عشر جامعات عربية، فيما هيمنت السعودية بثلاث جامعات، تلتها قطر والإمارات والأردن، أما مصر فاكتفت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة التي حلت في المرتبة التاسعة عربيًا.
تشويه سمعة الجامعة
تعرّضت جامعة القاهرة خلال العقدين الأخيرين على وجه التحديد للعديد من الهزّات التي أخرتها عن الركب العالمي بعدما ظلت لسنوات طويلة منارة يشار لها بالبنان في مجال البحث العلمي والسمعة الجيدة، إذ كانت قبلة للباحثين والعلماء، وكان خريجوها على قائمة الأكثر طلبًا في أسواق العمل الخارجي.
تواضع البنية التحتية وجمود المناهج وإرغام الجامعة لخدمة توجهات بعينها، وتدخل الأمن في تعيين أساتذتها وعمداء الكليات، وفرض مناخ من التضييق والكبت على النشاط السياسي للطلاب، كل هذا أسرع من وتيرة التراجع، هذا بخلاف السمعة السيئة التي باتت تلاحق الجامعة أينما كانت.
طفت على السطح خلال السنوات القليلة الماضية ظاهرة “الشهادات المزورة” والتي تفشّت بصورة كبيرة داخل أروقة الجامعة مقابل نظير مادي، هذا بخلاف التساهل الواضح في منح درجات الماجستير والدكتوراه لا سيما للطلاب العرب، الأمر الذي انعكس على صورة الجامعة في محافل الكيانات الأكاديمية والبحثية في مختلف دول العالم.
على مر تاريخها نجحت الجامعة في إثراء منظومة البحث العلمي في مصر والعالم العربي بكوكبة من العلماء والخريجيين فضلا عن عشرات ألالاف من الرسائل العلمية التي باتت فيما بعد مراجع للعديد من فروع العلم المختلفة
كما تتصدر جامعة القاهرة قائمة الجامعات العربية الأكثر والأقدم منحاً لدرجة الدكتوراه الفخرية، حيث تعود أول درجة من هذا النوع منحتها الجامعة إلى 8 مارس 1980 لرئيس الولايات المتحدة الأسبق تيودور روزفلت، في حين بلغ عدد من تم منحهم هذه الدرجة بحسب الكتاب التذكاري للجامعة 90 دكتوراه فخرية في العديد من المجالات، منها 21 للملوك والرؤساء.
بعض الأكاديميين أشاروا إلى أن الشهادات الفخرية – سيئة السمعة – تندرج تحت مسمى “التملق السياسي” خاصة تلك التي تعطى لملوك ورؤساء وهم في السلطة، وآخرون أشاروا إلى دافع الابتزاز للحصول على دعم وتبرعات وهبات مادية من قبل الممنوح خاصة وإن كان شخصية اقتصادية معروفة.
وعلى النقيض تمامًا هناك جامعات ترفض منح أي شخصية سياسية درجة الدكتوراه الفخرية تجنباً للوقوع في شبهة المجاملة، كما هو الحال في جامعة الإسكندرية التي اتخذت قراراً بمنع منح أي درجة علمية لأي شخصية سياسية بصفة عامة ومن هم على رأس السلطة بصفة خاصة.
أحمد لطفي السيد، أول رئيس للجامعة
تاريخ عريق
تعد جامعة القاهرة واحدة من أعرق جامعات العالم، والثانية مصريًا بعد جامعة الأزهر، والثالثة عربيًا، إلا أنها في كثير من المحطات التاريخية الهامة باتت الجامعة رقم واحد في خارطة التعليم في المنطقة لما حققته من نجاحات على مستويات عدة، إذ كانت المصدر الأول لمفكري العالم وعلماءه لسنوات عدة.
ومع اشتداد ساعد الحركة الوطنية المصرية في أوائل القرن العشرين انبرت نخبة من قادة العمل الوطني ورواد حركة التنوير والفكر الاجتماعي في مصر أمثال محمد عبده ومصطفى كامل ومحمد فريد وقاسم أمين وسعد زغلول، لتحقيق حلم طالما داعب خيال أبناء هذا الوطن، وهو إنشاء جامعة تنهض بالبلاد في شتى مناحي الحياة.
وبعد محاولات مضنية وجهود حثيثة افتُتحت الجامعة المصرية كجامعة أهلية في الحادي والعشرين من ديسمبر 1908 في حفل مهيب أقيم بقاعة مجلس شورى القوانين بحضره الخديوي عباس حلمي الثاني وبعض رجالات الدولة وأعيانها، وكان أول رئيس للجامعة هو أحمد لطفي السيد.
رشاوى محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة للطلاب تزامنا مع الترقيعات الدستورية. https://t.co/vTMPyMg5SL
— ياسر السري (@Yasseralsiri) April 18, 2019
في بداياتها، تعرّضت الجامعة لصعوبات مالية كبيرة لا سيما خلال الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي أدى لانتقال مبناها إلى سراي محمد صدقي بميدان الأزهار بشارع الفلكي (وسط القاهرة) اقتصاداً للنفقات، فيما قامت بإيقاد طلابها للتعليم في الخارج للحصول على الدكتوراه ليكونوا نواة لتدريس العلوم الحديثة بها، وكان على رأس هؤلاء المبعوثين طه حسين ومنصور فهمي وأحمد ضيف.
وعلى مرّ تاريخها نجحت الجامعة في إثراء منظومة البحث العلمي في مصر والعالم العربي بكوكبة من العلماء والخريجيين فضلًا عن عشرات الآلاف من الرسائل العلمية التي باتت فيما بعد مراجع للعديد من فروع العلم المختلفة، التطبيقية منها والنظرية، وهو ما ساهم في تعميق مكانة الجامعة في نفوس الجميع، في الداخل والخارج.
وبعد 111 عامًا من إنشاء جامعة القاهرة ، لعبت خلالها دورًا محوريًا في إثراء الفكر والثقافة العربية، ها هي تواجه واحدًا من أقسى منعطفاتها التاريخية، وذلك حين تحوّلت إلى مولد للدعاية السياسية لخدمة أجندات أنظمة بعينها، متخلية بذلك عن دورها الطبيعي في بناء شخصيات واعية قادرة على التمييز بين الحق والباطل.