في ظل التصعيد العسكري المتبادل بين إيران وإسرائيل، تتجه الأنظار نحو الخليج العربي، الذي يجد نفسه في قلب معادلة جيوسياسية معقدة. فالدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية، الإمارات، وقطر، تتبنى رسميًا خطابًا يدعو إلى التهدئة وضبط النفس، لكنها تدرك في العمق أن نتائج هذا الصراع ستعيد رسم توازنات القوة في المنطقة، وربما تغير موقعها الجيوسياسي أيضًا.
فما هو الموقف الحقيقي لهذه الدول؟ وما هي مصلحتها الفعلية في ظل هذا التصعيد؟ ولماذا تتصرف بعض العواصم وكأنها “تراقب بصمت” بينما تشارك بفعالية خلف الكواليس؟
ما بين الموقف المعلن والحقيقي
تظهر البيانات الرسمية الصادرة عن وزارات الخارجية الخليجية تمسكًا بسياسة “النأي بالنفس”، وتدعو إلى ضبط النفس والحوار عمومًا، رغم أنها أدانت جميعها ما أسمته “العدوان الإسرائيلي على إيران” في هذه الجولة.
لكن الموقف الفعلي على الأرض يختلف عن المعلن. فدول الخليج ليست على نفس المسافة السياسية من إيران وإسرائيل، هناك عدة دول خليجية تملك علاقات مباشرة مع إسرائيل، وهناك من ينتظر اللحظة المناسبة.
عقب الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل في أبريل 2024، ذكرت وسائل إعلام أمريكية أن دولًا خليجيًا قدمت تعاونًا استخباراتيًا مع إسرائيل والولايات المتحدة خاصة خلال الرد الإيراني، كما أن أجواء هذه الدول كانت مفتوحة أمام الطيران الإسرائيلي.
وحسب باحثين فإن بعض الدول العربية عرضت المساعدة في الدفاع ضد الهجمات الإيرانية لأنها رأت فوائد التعاون مع الولايات المتحدة وإسرائيل، طالما ظل ذلك بعيدًا عن الأضواء.
ياسمين فاروق، وهي زميلة غير مقيمة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تذهب إلى هذا الرأي، وتشير إلى أن “دول الخليج تعلم أنها لا تزال لا تحظى بنفس مستوى الدعم الذي تحصل عليه إسرائيل من الولايات المتحدة، وترى ما فعلته كوسيلة للحصول عليه في المستقبل، أي أنه استثمار مستقبلي رابح، لا يضر بالوضع السياسي الحالي لأن كل شيء لن يكون معلنا”.
أما السعودية، التي لم تطبع رسميًا مع إسرائيل، فيعتقد أنها تعتمد على الوساطة الأمريكية في تبادل المعلومات، خاصة بعد الهجمات الحوثية على منشآت أرامكو، حيث تطورت العلاقات الاستخباراتية بين الرياض وتل أبيب عبر قنوات خلفية، ولم يظهر حتى الآن ما يشير إلى تعاون مباشر خلال هذه الحرب.
المصالح الاستراتيجية للخليج في ضوء الصراع
تعلم دول الخليج أن هذه المواجهة ستعيد ترتيب أوراق الشرق الأوسط، فالمنطقة التي ظلت تعيش لعقود من التنافس السياسي بين القوى الإقليمية، ستتجه نحو التطبيع في حال انتهت المواجهة بتسيد إسرائيلي كامل للإقليم، ويمكن القول أن المصالح الخليجية في هذه الحرب وبعدها يكمن في ثلاثة أبعاد:
احتواء التمدد الإيراني دون الانزلاق لمواجهة مباشرة
تنظر دول الخليج إلى إيران بوصفها مصدر تهديد استراتيجي طويل الأمد، خاصة بعد تدخلاتها في اليمن وسوريا والعراق ولبنان. إلا أن المواجهة المباشرة مع إيران تظل خيارًا محفوفًا بالمخاطر، نظرًا لقدرة طهران على الرد غير المتماثل، عبر أذرعها في المنطقة.
من هنا، فإن التصعيد الإسرائيلي يُنظر إليه كأداة لإضعاف إيران دون أن تتحمل دول الخليج كلفة الحرب المباشرة، شرط أن يبقى ضمن حدود السيطرة. فمنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، استغلت طهران التنوع المذهبي للنفاذ إلى الدول الخليجية، ورغم أن شعار تصدير الثورة خفت رسميا بعد فشله عقب الحرب العراقية- الإيرانية، إلا أنه بقي فعالا على المستوى العملية وإن بأياد ناعمة وخفية، البحرين واليمن والعراق كمثال على ذلك.
تحجيم نفوذ الحلفاء الإيرانيين في المشرق
تدرك السعودية والإمارات تحديدًا أن ميليشيات مثل حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، تشكل عمقًا استراتيجيًا لإيران. في حال تعرضت هذه المجموعات لضغوط عسكرية أو سياسية نتيجة التصعيد مع إسرائيل، فإن ذلك يُعد مكسبًا خليجيًا.
في المقابل، فإن توسع نفوذ تلك الجماعات يُصعّب على الخليج فرض نفوذه السياسي والاقتصادي في هذه الساحات، ولذلك تعتبر هذه الحرب فرصة للتخلص من نفوذ هذه الجماعات، بدعم التيارات الأخرى المناوئة لها.
هذا المسار كان ساريًا حتى ما قبل الضربات، فحكومة الثورة السورية والحكومة اللبنانية الجديدة، حظيت بدعم اقتصادي كبير، إضافة لترحاب إعلامي وتسهيلات باعتراف دولي كما حصل مع الرئيس السوري أحمد الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض.
الفرصة الاقتصادية في حال إضعاف إيران
أي تراجع في صادرات النفط الإيرانية نتيجة التصعيد، أو إعادة فرض عقوبات غربية مشددة، يعني عودة دول الخليج، خاصة السعودية، إلى موقع القوة كمصدر طاقة موثوق. هذا يعطيها أوراق ضغط إضافية في التفاوض مع الولايات المتحدة وأوروبا، سواء في ما يخص التعاون الأمني أو العقود الاقتصادية الكبرى، كما أن ارتفاع أسعار النفط واستمرار ذللك الارتفاع، سيعود بأرباح مباشرة في ظل سوق عالمي يعاني الركود وآثار حرب أوكرانيا وجائحة كورونا التي لم تتعاف منها الأسواق العالمية بشكل كلي بعد.
المخاوف الخليجية من التصعيد
لكن الحرب، مثلها مثل أي حرب، تبقى غير مأمونة العواقب، ويمكن أن تقلب الحقائق ونتائجها في أي لحظة، أما أبرز المخاوف الخليجية فتكمن في الآتي:
الارتداد الأمني داخل الحدود الخليجية
يشمل ذلك احتمال تعرض منشآت حيوية لهجمات إيرانية أو عبر وكلاء مثل الحوثيين، فهجوم أرامكو في بقيق وخريص (2019) لا يزال ماثلاً في الذاكرة، حين شلّت ضربة دقيقة نصف إنتاج السعودية من النفط في ساعات. هذا السيناريو وارد في حال قررت إيران توسيع دائرة الرد.
يَضاف إلى ذلك، وجود قواعد أميركية في كل من قطر والإمارات والبحرين، وهذه القواعد ستكون هدفًا مباشرًا للصواريخ الإيرانية في حال توسعت دائرة الحرب وقررت أمريكا تشكيل تحالف لإسقاط النظام الإيراني.
انسحاب الاستثمارات والتباطؤ الاقتصادي العالمي
لطالما كانت الدول الخليجية تقدم نفسها كواحة من الاستقرار والرفاهية في وسط منطقة مليئة بالتقلبات، ساعد هذا على استقدام استثمارات كبيرة إلى الخليج في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والصناعة والأمن.
لكن عقودًا من البناء، ستكون في هب الريح في حال توسعت الحرب لتطال هذه الدول أو القواعد الأميركية فيها، خاصة في حال وصول المواجهة إلى مرحلة وجودية بين إسرائيل وإيران والقوى المحلية المتحالفة معها.
يمكن لإيران إحداث ضرر كبير في ظل القرب الجغرافي من كل الدول الخليجية، وإمكانية التحكم بمضيق هرمز وانتشار الجماعات المسلحة في العراق واليمن، وهي بدورها تملك ترسانة كبيرة من الأسلحة القادرة على الوصول لتلك الدول.
من الناحية الاقتصادية، ورغم أن ارتفاع الأسعار يعزز إيرادات الدول المصدرة، فإن الأسعار المرتفعة تؤدي أيضًا إلى تباطؤ اقتصادي عالمي، ما ينعكس سلبًا على الطلب. كما أنها تثير مخاوف الدول الصناعية من الاعتماد على الخليج، ما يدفعها لتكثيف استثماراتها في الطاقة البديلة، وهو ما يُقلق رؤية السعودية 2030 وغيرها من المشاريع التنموية الخليجية.
تعقيد ملف التطبيع مع إسرائيل
التصعيد العسكري يضعف موقف الحكومات الخليجية في مساعيها للتقارب مع إسرائيل أمام شعوبها. فالسعودية، التي تخوض مفاوضات طويلة عبر وساطة أمريكية، تخشى أن يتحول التطبيع إلى عبء سياسي إذا ارتبط في أذهان المواطنين بالحرب والدمار.
تسود الآن في الخليج رواية سياسية بأن إسرائيل هي الحليف الأكثر موثوقيًا لمواجهة الخطر الإيراني الذي يمكنه تهديد الأنظمة الحاكمة من الداخل، هذه الحرب، هي المحل الأبرز لاختبار هذه النظرية، ويمكن القول إن إسرائيل قطعت شوطًا في كسر الرأي القائل أن حربًا لن تنشب بين تل أبيب وطهران مع بدئها الضربات، لكن ختام فصول هذه الحرب يكون هو الحكم ما بين توجه الدول الخليجية للتطبيع المباشر من عدمه.
الخليج كوسيط محتمل لتبريد الأزمة
يمكن للدول الخليجية أن تلعب دور الوسيط فيما لو حصل توجه من أحد طرفي النزاع لتبريد الأزمة وعدم نقلها لمرحلة أخرى من “تكسير العظام”، وهناك دول خليجية يمكنها لعب دور مباشر في هذا نتيجة لعلاقاتها مع أحد الأطراف أو كليهما أو للثقل السياسي في الإقليم:
- قطر: تستفيد من علاقتها المفتوحة مع طهران، وعدم انخراطها في اتفاقيات أبراهام، لتقديم نفسها كوسيط بين الغرب وإيران، وقد سبق لها لعب هذا الدور في ملفات مثل تبادل الأسرى بين واشنطن وطهران.
- الإمارات: رغم شراكتها الأمنية مع إسرائيل، تُحافظ على قنوات اتصال مع إيران، وتسعى للعب دور موازن بين المصالح الاقتصادية مع الغرب والتهدئة مع طهران، خصوصًا في ملف الملاحة البحرية.
- السعودية: التي عادت لعلاقات دبلوماسية مع إيران بوساطة صينية في 2023، تسعى للحفاظ على موقعها كمحور توازن إقليمي، وترى أن التصعيد قد يفسد جهودها في استعادة النفوذ العربي دون تدخل مباشر.
ختامًا.. تسعى دول الخليج إلى استنزاف محسوب لإيران، يُضعف قوتها دون أن يقود إلى فراغ يُملأ بالفوضى. ولا ترغب هذه الدول في أن تنزلق المنطقة إلى حرب شاملة تُهدد مشاريعها التنموية.
هي لا تؤيد إيران، لكنها تخشى من انتصار إسرائيلي مطلق يعيد ترتيب أوراق المنطقة بما يهمّش دورها. وهي لا تُعارض إسرائيل صراحة، لكنها تفضل إدارة العلاقة معها من خلف الستار حتى تنضج الظروف، فالحياد إذًا ليس موقفًا رماديًا، بل إستراتيجية متقدمة لإدارة التوازنات. والخليج يفضّل أن يلعب دور “مدير الأزمة” لا أحد أطرافها، في عالم تتقاطع فيه المصالح أكثر من أي وقت مضى.