تتصاعد المواجهات بين إيران وإسرائيل بمستويات قياسية، في إطار زمني ضيق، متجاوزة كثير من الخطوط الحمراء التقليدية، وفاتحة الباب أمام قائمة مطولة من التكهنات حول مآلات تلك المواجهة التي دخلت منعطفًا جديدَا بعد اتساع رقعة بنك الأهداف لدى كل من الطرفين، مع توقعات مٌعتبرة بإطالة أمدها، وسط مخاوف تتزايد ساعة بعد أخرى بشأن تدحرج كرة النار وتورط قوى إقليمية ودولية في هذا الصراع الذي ينذر بنشوب حرب مفتوحة تضع مستقبل الشرق الأوسط في مهب الريح.
وتعكس المشاهد التي تتناقلها وسائل الإعلام، رغم الرقابة المفروضة والتعتيم الإعلامي الواضح، عن حجم الخسائر المحققة في صفوف كل من طهران وتل أبيب، وهي الخسائر الاستثنائية قياسًا بالجولات السابقة، والتصريحات النارية الانتقامية المتبادلة بين الطرفين، طبيعة هذه الجولة من الصدام التي يبدو أنها تجاوزت سقف التوقعات المٌحدد لعقود ماضية من المواجهات.
القراءة الأولية لتطورات المشهد الملتهب منذ فجر الجمعة 13 يونيو/حزيران الجاري تشير إلى أن ما تحياه المنطقة حاليًا ليس مجرد جولة في صراع ثنائي مسلح بين قوتين تتنافسان على كعكعة النفوذ الإقليمي فحسب، بل هو نموذج استثنائي من الحروب ذات الطبيعة الخاصة، التي لا يهدف أي من طرفيها إلى تحقيق الانتصار المطلق الكامل على الطرف الأخر، قدر ما يسعى لإجهاضه واستنزافه اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، بل ونفسيًا، في ضوء حرص واشنطن على الإبقاء على القوتين، كدولتين وظيفيتين إقليميتين تخدمان على المصالح الأمريكية.
ومن ثم بات كل طرف، رغم الشعارات الشعبوية المطلقة ومقاربات كل منهما إزاء هذا التصعيد النوعي، منضبطًا بلجام من الخطوط الحمراء، وسقف من المحددات لا يمكن تجاوزه، حتى وإن كان لدى كل منهما فسحة نسبية ورفاهية معتبرة في تنويع بنك الأهداف الخاصة به، بما يقوي موقفه على طاولة التفاوض أو على خارطة النفوذ الإقليمي، ليبقى السؤال: من يصرخ أولا؟ وما هي محددات هذا الصراخ؟ وأي خطوط حمراء تحكم تلك المواجهة؟
مستقبل الصدام.. 5 محددات
بطبيعة الحال فإن المواجهة الإيرانية الإسرائيلية الراهنة ليست حربًا مفتوحة بلا سقف زمني، إذ أنها محكومة بمحددات خمسة ترسم بشكل كبير ملامحها وإلى أي مدى يمكن الوصول إليه، ومن ثم استشراف مآلاتها المستقبلية.
أولا: القدرات العسكرية
تمثل القوة العسكرية العامل الأبرز الذي يحدد مصير أي معركة مسلحة، وفي الحالة الراهنة يتمتع طرفا المواجهة بإمكانيات وقدرات عسكرية كبيرة، إذ يصنف الجيش الإيراني في المرتبة الـ14 عالميًا بين أقوى الجيوش بينما يحتل الجيش الإسرائيلي المرتبة 17، وفقًا لعدد من المؤشرات التي تشمل عدد الأفراد والعتاد العسكري من آليات وطائرات وسفن حربية.
الجيش الإيراني يضم نحو 610 آلاف عسكري في الخدمة الفعلية، و350 ألف جندي احتياط، فيما يضم الجيش الإسرائيلي 170 ألفًا بينما يصل عدد قوات الاحتياط لديه 456 ألف جندي، كما يبلغ عدد القادرين على الخدمة العسكرية في إيران 41 مليون فرد، بينما لا يتجاوز هذا العدد في إسرائيل 3.1 مليون.
وتتفوق إسرائيل من حيث الميزانية المخصصة للإنفاق العسكري، حيث تبلغ 24.4 مليار دولار، أي ما يقارب مرة ونصف المرة أكثر من ميزانية إيران البالغة 9.9 مليار دولار، الأمر كذلك في مجال القوة الجوية، إذ يمتلك الجيش الإسرائيلي 612 طائرة مقاتلة، مقابل 551 طائرة لدى الجيش الإيراني، وإن كان التفوق في قطاع الدبابات محسوم لصالح الدولة الإيرانية للدبابات بـ 1996 دبابة مقارنةً بـ1370 دبابة إسرائيلية.
وهو ذات الموقف بشأن الإمكانيات البحرية، فتمتلك إيران 19 غواصة، بينما لا يملك الجيش الإسرائيلي سوى 5 غواصات، علاوة على البنية التحتية العسكرية، إذ تحتضن طهران 319 مطارًا، مقارنة بـ42 مطارا فقط في إسرائيل، مع الأخذ في الاعتبار الفارق الكبير في المساحة الجغرافية بين البلدين ( 1.6 مليون كيلو متر مساحة إيران مقابل 22 ألف كيلومتر المساحة الإجمالية من الأراضي المحتلة التي استولى عليها الكيان الإسرائيلي).
وبعيدًا عن لغة الأرقام الخاصة بالإمكانيات العسكرية لكل طرف، فإن لكل منهما نقطة قوة يتميز بها في مجال ما تميزه عن غيره، فعلى الجانب الإيراني مثلا لديه تفوق كاسح في القوة الصاروخية، حيث تمتلك طهران صواريخ فرط صوتية تُعرف باسم “فتاح-1” و”فتاح-2″، التي يصل مداها إلى 1500 كيلو متر، كما تمتلك صاروخ “قدر” وصاروخ “خيبر”.
وبحسب تقرير لموقع Missile Threat التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS، فإن الترسانة الصاروخية الإيرانية هي الأكبر والأكثر تنوعاً في الشرق الأوسط، وتقدر تلك الترسانة بأكثر من 3000 صاروخ باليستي يصل مداها لنحو 2000 كيلو متر، بحسب تقديرات قائد القيادة المركزية الأمريكية السابق، كينيث ماكينزي، أبرزها صواريخ “سجيل” و”خورمشهر”، هذا بخلاف صواريخ كروز التي يصل مداها إلى 1350 كيلو مترًا.
التفوق ذاته في صناعة الطائرات بدون طيار (المسيرات) والتي حققت طهران في صناعتها نجاحات عدة خلال السنوات الأخيرة بعدما أولتها اهتمامًا متزايدًا حتى باتت أحد الدول المعتبرة في هذا المجال وواحدة من البلدان المصدرة للقوى الدولية مثل روسيا على سبيل المثال.
أما على الجانب الإسرائيلي فهناك طفرة كبيرة في مجال الطائرات المقاتلة، والبون شاسع بين تل أبيب وطهران في امتلاك هذا السلاح سواء من حيث النوع أو القدرة القتالية، حيث تمتلك “إسرائيل” عددًا من الطائرات ذات الطرازات المتطورة والبعيدة تمامًا عن أيدي الإيرانيين أبرزها F 15I “Raʾam” ، F 35I “Adir”، F 16I “Sufa”، وهي طائرات ثقيلة، ذات مدى ممتد، مزودة بقدرة على حمل قنابل خارقة للتحصينات ومزودة بخزانات وقود جانبية، مخصصة لضربات دقيقة ومرافقة لوجستية، وقد استخدمت الطائرات الثلاثة في هجوم فجر الجمعة 13 يونيو/حزيران الجاري.
علاوة على هذا هناك “Boeing 707 Re’em” وهي النسخة المعدلة من “Boeing 707″، والمخصصة للتزود الجوي بالوقود، وتديرها القوات الجوية الإسرائيلية عبر اللواء 120 في قاعدة “نيفاتيم”، وقد استخدمت في الضربة الأولى لتزويد المقاتلات الإسرائيلية بالوقود أثناء قيامها بالعملية.
ثانيًا: مستوى الإمداد والتموين
تتمتع “إسرائيل” بخطوط إمداد وتموين مفتوحة على مدار الساعة، حيث الدعم الأمريكي والغربي الذي لا يتوقف، وإن لم يٌعلن عنه بشكل صريح، لكن في الوقت ذاته لا يمكن تجاهله، وهو الدعم المٌنوع ما بين عسكري ولوجيستي واستخباراتي، فضلا عن الغطاء السياسي والاقتصادي والإعلامي الذي يوفره المعسكر الغربي لحليفه الإسرائيلي.
هذا الدعم يشكل حاضنة قوية من الأمان لدى جيش الاحتلال تمنحه الأريحية في تكثيف عملياته ضد الأهداف الإيرانية، وفي ذات الوقت يعفي حكومة نتنياهو من ورطة المقاربة الخاصة بالدخول في حرب على أكثر من جبهة في نفس الوقت، إيران واليمن وغزة، الأمر الذي يمكن النظر إليه كعامل قوة وربما حسم في مستقبل المواجهات الطويلة.
وفي المقابل تعاني طهران من فقدان أو ندرة هذا المقوم، فبعيدًا عن التصريحات الصادرة عن باكستان وأفغانستان بشأن تقديم أوجه عدة من الدعم السياسي والعسكري لإيران لكنه الدعم – إذا ما ثبت فعليًا- الذي لا يلبي احتياجات الجيش الإيراني الفعلية في مواجهة كيان مدعوم من أقوى امبراطوريات الأرض اقتصاديًا وعسكريًا.
هذا التضييق يقيد بطبيعة الحال يد طهران عن تكثيف عملياتها ونشاطها التسليحي، ويجردها من خيار التنويع الذي يتمتع به خصمها، وهو ما سيكون له أثره ميدانيًا على المدى البعيد، ويمنح تل أبيب تفوقًا نسبيًا في هذا المسار.
ثالثًا: مستوى وحجم الخسائر
بعيدًا عن المعايير التقليدية والحسابات العسكرية المتعارف عليها بشأن تقييم الخسائر في مثل تلك المواجهات، فإن للمواجهة الإيرانية الإسرائيلية طابع خاص، يعيد تشكيل أولويات الخسائر تبعًا لكل طرف ووفقًا لبعض الاعتبارات التي قد تزيد من وقع خسارة هنا وتقلل من ذات الخسارة على الجانب الأخر والعكس.
على الجانب الإيراني فإن الخسارة الأكبر تتمثل في استهداف العلماء وضرب القواعد النووية وقصف المنصات وقواعد الارتكاز الصاروخي والدفاعات الجوية، هذا بخلاف وضع المصانع العسكرية في مرمى النيران الإسرائيلية، علاوة على تدمير البنية النفطية من خلال نسف محطات الوقود وغيرها، وما لكل ذلك من إرهاق للاقتصاد الإيراني المنهك بطبيعة الحال.
أما على المستوى الإسرائيلي فإن ضرب الجبهة الداخلية عبر زعزعة الأمن والاستقرار وتدمير نظرية الردع وتحويل تل أبيب وحيفا إلى مناطق أشباح، هي الخسارة الأكثر فداحة، فالمشاهد المتناقلة لحجم الخراب والدمار الذي حل بتلك المدن لم يعرفها الإسرائيليون منذ نشأة دولتهم السرطانية خمسينات القرن الماضي، وهي الهزيمة النفسية التي قد تجهض المشروع الذي قامت عليه دولة إسرائيل في الأساس، فيما يعرف بـ “الكيبوتس” وثنائية الأمن والرخاء الاقتصادي، وهي الثنائية التي ضربتها المقاومة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأكدت عليها إيران في 13 و14 و15 يونيو/حزيران 2025.
رابعًا: القدرة على امتصاص الضربة
في العلوم العسكرية هناك ما يعرف بـ “الدولة الإسفنجية” أي القادرة على امتصاص الصدمات، اقتصادية كانت أو سياسية أو عسكرية، وابتلاعها بأسرع وقت ممكن، وهي الميزة التي تتمتع بها في الغالب الدور المتجذرة في أعماق التاريخ ولها سجل حضاري وتتمتع بمقومات البقاء، ومن ثم يعتبرها محللون مقوم مهم من مقومات النصر.
ويمكن التعامل مع إيران إلى حد كبير وفق هذا التصور، كدولة إسفنجية، وهو ما اتضح في سرعة التعافي من الضربة القاسية التي وجهتها لها “إسرائيل” حين أطاحت بهرمها السلطوي، السياسي والعسكري والعلمي، فسرعان ما وقفت على أقدامها مرة أخرى واستطاعت بعد ساعات قليلة، لملمة شتاتها وابتلاع الصدمة، ومن ثم توجيه هجوم صاروخي مكثف حوًل تل أبيب إلى ما يشبه الوضع في غزة وخان يونس.
وهناك عوامل عدة تساعد إيران في تعزيز قدراتها على امتصاص الأزمات والضربات، منها اتساع رقعتها الجغرافية وما تتمتع به من خصائص ديموغرافية وتنوع وثراء ثقافي وخبرات واضحة في التعامل مع الأزمات، إذ ترزخ الدولة تحت وطأة العقوبات لأكثر من 50 عامًا ولا تزال واقفة على أقدامها.
أما على الجانب الإسرائيلي فالأمر مختلف تمامًا، فهشاشة الدولة ووهن كيانها وفقدانها لشرعية التواجد التاريخي والجغرافي فوق أرض محتلة في الأساس، فضلا عن النشاذ الديموغرافي من خلال تجميع عرقيات من بلدان شتى لتكوين وطن بلا هوية، كل هذا جعلها دولة في مهب الريح، ولولا الدعم الغربي لما استمرت لأعوام تُعد على أصابع اليد الواحدة.
ومن هنا جاءت الضربات الإيرانية بمثابة الصدمة للإسرائيليين، رغم أنها لا تعد كونها تفجيرات غير مؤثرة في معظمها، ومرصود تحركاتها منذ انطلاقها، إلا أنها أحدثت هزيمة نفسية نكراء في نفوس المستوطنين، دفعت الملايين منهم للاختباء في الملاجئ، فيما لو أتيحت فرصة السفر لغادر الجميع الكيان حيث لا رجعة.
خامسًا: الإطار الزمني للمواجهة
تمثل تلك المواجهات، لاسيما بين الدول المتباعدة جغرافيًا، إرهاقًا كبيرًا لجميع الأطراف، فهي تحتاج لقدرات وإمكانيات عسكرية ولوجستية واقتصادية هائلة، وفوق كل هذا تحتاج إلى نفس طويل، وقدرة على إدارة المعركة وفق استراتيجيات تضع في الاعتبار الإطار الزمني وأمد الحرب والاستعداد الجيد لتوظيف عنصر الوقت ليكون مقوم نصر لا معول هزيمة.
ويلعب الوقت دورًا مهمًا في حسم تلك المواجهة، وهو ما بدأ الإيرانيون يفطنون إليه مبكرًا، حيث اضطروا لتقليل معدلات الصواريخ الموجهة نحو أهداف إسرائيلية تحسبًا لإطالة أمد الحرب، ففي اليوم الأول أطلقت إيران أكثر من 250 صاروخًا على 5 دفعات، ثم تراجعت لقرابة 100 صاروخ في اليوم التالي، ثم ما بين 50- 80 صاروخًا في اليوم الثالث.
ويعكس هذا التراجع القراءة الإيرانية الميدانية العملية لقدراتها العسكرية وحجم ترسانتها الصاروخية التي بلا شك تأثرت بالضربات الإسرائيلية خاصة بعد استهداف العديد من المصانع وقواعد التصنيع الصاروخي، وعليه كان هذا التحول التدريجي في الاستهداف، حيث التركيز على الأهداف اللوجستية ذات الأولوية وإعادة النظر في قرارات الضغط المتكرر والعشوائي على أزرة الإطلاق الصاروخي.
وهنا تساؤل يطل برأسه باحثًا عن إجابة: إلى متى تستطيع إيران تحمل تلك الحرب؟ وإلى أي مدى زمني يمكنها الصمود ومناطحة إسرائيل بكامل عتادها وترسانتها التي تتجدد على مدار الساعة؟ وهي ذات الأسئلة على الجانب الأخر، فإلى أي مرحلة يمكن للإسرائيليين امتصاص الضربات الإيرانية خاصة مع تأجج الجبهة الداخلية التي تشكل ضلعًا أساسيًا في حسم القرار الإسرائيلي؟
بنك الأهداف.. تصاعد تدريجي
شهد بنك أهداف كل من تل أبيب وطهران بشأن تلك المواجهة اتساعًا ملحوظًا، رأسيًا وأفقيًا، وفقًا لتطورات الأحداث، فالبداية كانت من الجانب الإسرائيلي الذي استهدف في المقام الأول قصقصة ريش إيران وتجريدها من كافة مخالبها، وأبرزها مشروعها النووي، لدفعها نحو الركوع والرضوخ للشروط الأمريكية على طاولة المفاوضات بعد تشبثها بموقفها المتشدد حول الاتفاق النووي خلال جولات التفاوض الخمسة التي أجرتها مع الجانب الأمريكي في مسقط وروما.
ومن ثم ركزت الضربات الإسرائيلية في استهداف قيادات الصف الأول والثاني من النخبتين، السياسية والعسكرية، حيث تركز الهجوم في اليوم الأول على مراكز السيطرة العسكرية، والمنصات الصاروخية الباليستية والدفاعات الجوية، والخدش الجزئي للمفاعلات النووية، وصولا إلى اغتيال العقول النووية من خلال استهداف 19 عالمًا نوويًا ضالعين في المشروع النووي.
كان الهدف واضحًا وهو إحداث شلل تام في المنظومة القيادية والعسكرية الإيرانية، يضعف موقفها ويجبرها على الركوع، وكان التعويل على نجاح تلك الضربة في تحقيق أهدافها، استنادا إلى الضربات السابقة واستباحة الداخل الإيراني أكثر من مرة دون رد فعل يوضع في الاعتبار.
غير أن ما حدث لم يكن مُدرجا على قائمة الاحتمالات الإسرائيلية، إذ جاء الرد الإيراني قاسيًا بعد سرعة التعافي وابتلاع الصدمة، حيث التعامل مع المعركة كحرب وجود لا مجرد انتقام أو رد فعل، فأمطرت طهران سماء تل أبيب وحيفا بمئات الصواريخ الباليستية والمسيرات التي كانت بمثابة الصدمة، واستهدفت المدنيين والمناطق السكنية بشكل مباشر.
الهجوم الصاروخي الإيراني المستمر دفع تل أبيب خطوة للأمام في توسيع بنك أهدافها، ليوجه نيران طائراته إلى المناطق المدنية ومحطات الكهرباء ومصافي النفط، ما تسبب في إيقاع المزيد من الخسائر، وسط تصعيد خطاب التهديد ليتجاوز السقف المحدد له.
بل وصل بنك الأهداف الإسرائيلي إلى التلويح بورقة إسقاط النظام، أو على الأقل خلخلته وقطع خطوط الاتصال بين المستويات السياسية والعسكرية من جانب، وبينها وبين الشارع من جانب أخر، بما يعطل القدرات الحيوية للنظام الإيراني، وسط تحريض مباشر وعلني لأول مرة من رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإسرائيليين للإيرانيين بالانتفاضة ضد النظام والإطاحة به.
وبلغ المشهد قمة ارتباكه بطلب كلا الطرفين، من القوى الداعمة لهما، بالتدخل المباشر على خط الأزمة، حيث طالبت تل أبيب بتدشين تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة للتصدي للهجمات الإيرانية واستهداف مشروعها النووي بشكل مباشر، فيما خرجت أصوات من الداخل الإيراني تطالب القوى الإسلامية وعلى رأسها باكستان وأفغانستان بالتدخل لمواجهة المخطط الغربي الرامي إلى تدشين شرق أوسط جديد يرسخ للهيمنة الصهيوأمريكية.
الخطوط الحمراء
يبدو للمتابع منذ الوهلة الأولى أن التصعيد بتلك الوتيرة بلا سقف، وأن المواجهة سارية في سياق اللا عودة، وأن السهم الذي انطلق من الصعب إعادته لقوسه مرة أخرى، وهي الرؤية القاصرة عن فهم طبيعة الصراع الإسرائيلي الإيراني، المنبثق في الأساس من الدور المنوط بالبلدين القيام به إقليميًا، فكل منهما دور مرسوم، ليس شرطًا أن يكون بشكل مباشر، لا يمكن الحيد عنه.
ومن هنا ورغم احتباس الجميع أنفاسه ترقبًا لمآلات هذه الجولة من الصدام، فإن هناك خطوط حمراء لا يمكن للطرفين تجاوزها مهما بلغ الصدام والتصعيد، تلك التي تٌبقي على الباب مواربًا دون غلقه بالكلية، وتجعل حظوظ البلدين متقاربة في التنافس على كعكة النفوذ الإقليمي وإن كانت بنسب غير متساوية بشكل دقيق.
هذه المقاربة التي تنطلق في الأساس من التوجه البرغماتي لكل من طهران وتل أبيب، مدعومة بشكل أو بأخر من الولايات المتحدة، رغم دعمها المعلن للجانب الإسرائيلي والدفع نحو منحه الأفضلية والتفوق الإقليمي، إلا أن واشنطن ليس في صالحها إسقاط النظام الإيراني بشكل كامل، إذ أن خطوة كهذه من الممكن أن يكون لها ارتداداتها العكسية على المصالح الأمريكية والإسرائيلية معًا.
Trump ruled out Israeli assassination of Iran's Supreme Leader, U.S. officials say https://t.co/WUKJk0nzTf
— Axios (@axios) June 15, 2025
ومن ثم تقف “إسرائيل”، بالأمر الأمريكي، عند خط استهداف المرشد الإيراني رغم سهولة العملية، في ظل الاختراق الأمني الذي تعاني منه الجمهورية الإسلامية، حيث كشفت وكالة “رويترز” رفض ترامب خطة إسرائيلية لاغتيال المرشد، وهي الرواية التي أكدها الكاتب الصهيوني البارز باراك رافيد الذي يكتب في موقع “أكسيوس” الأمريكي وموقع “واللا” العبري، رغم نفي نتنياهو لها خلال مقابلة له مع “فوكس نيوز”.
وعلى الجانب الأخر، تلتزم طهران، رغم هياجها الثوري الانتقامي لما تعرضت له من ضربات خدشت كبريائها وكرامتها وسيادتها الوطنية وهددت نفوذها وثقلها الإقليمي، بخط أحمر مقابل، يتمثل في المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونة بالنقب، رغم إمكانية استهدافه بما تتمتع به من قدرات صاروخية قادرة على الوصول إليه كما فعلت في قلب تل أبيب، الخط ذاته مع القواعد الأمريكية في المنطقة والتي تتجنب الاقتراب منها رغم إيمانها المطلق بدعم إدارة ترامب للعمليات الإسرائيلية.
وفي الأخير وبعيدًا عن ا٫لصورة المخضبة بألوان الترقب والقلق، فإن الصراع الراهن بين إيران وإسرائيل، ورغم استثنائية جولته الحالية، إلا أنه منضبطًا ببوصلة من الخطوط الحمراء، الغير مسموح تجاوزها، وإن كان ذلك لا يمنع من اتساع رقعة بنك الأهداف في سياق صراع النفوذ بين القوتين، عبر جولة مختلفة نسبيًا في معركة عض الأصابع التي ستنتهي حتمًا إما باقتراب أي منهما من الخط الأحمر أو من يصرخ أولا.