ترجمة وتحرير نون بوست
بالنسبة لخديجة العزة، كانت قريتها “تل الصافي” بمثابة الجنة. وقالت المرأة الفلسطينية البالغة من العمر 88 سنة لموقع ميدل إيست آي: “لقد عشنا أفضل حياة”، متذكّرة ذلك المجتمع الريفي الصغير في طفولتها قبل أن تطرد المليشيات الصهيونية سكانها سنة 1948 خلال النكبة. وبين 1917 و1948، احتلت المملكة المتحدة فلسطين خلال ما كان يعرف “بعصر الانتداب”. كان صغار المزارعين، المعروفين “بالفلاحين”، أساسيين للمجتمع الفلسطيني في ذلك الوقت، إذ كان ثلاثة أرباع السكان يعيشون في المناطق الريفية وكانت الزراعة المصدر الرئيسي لكسب الرزق، حيث جمعت العائلات للعمل في الحقول.
من خلال وعد بلفور لسنة 1917، تعهدت الحكومة البريطانية بإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وقامت بتنفيذ سياسات مختلفة لتحقيق هذا الوعد، أغلبها كان على حساب الفلسطينيين. والآن، بعد 72 سنة من قيام دولة إسرائيل والنزوح الجماعي لمئات الآلاف من الفلسطينيين من أراضيهم، يشارك الناجون من النكبة مع موقع “ميدل إيست آي” ذكريات عن الأرواح والأراضي التي فقدوها، والتي يحافظون على ارتباط عميق بها.
الحياة الريفية
نزح 750 ألف فلسطيني على الأقل من منازلهم خلال النكبة. والآن، يبلغ عددهم باحتساب أحفادهم أكثر من 5.4 مليون، منتشرين في أنحاء الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر والدول المجاورة. في الواقع، دٌمرت العديد من القرى التي وقع إجلاؤها قسرا أو حُوّلت إلى حدائق وطنية من قبل إسرائيل، أين تنمو الأشجار على أنقاض المنازل المهجورة.
في المقابل، تحدث الناجون المسنّون الذين عاشوا لعقود في مخيمات اللاجئين المزدحمة في الضفة الغربية مع موقع “ميدل إيست آي” عن توقهم الدائم للعودة إلى منازلهم السابقة. وقال البعض إنهم ما زالوا يحلمون في الليل بالعمل في الحقول.
في الأثناء، تتذكر عزة، التي تعيش الآن في مخيم الأمعري بالقرب من مدينة رام الله، كيف كانت قرية “تل الصافي” مكتفية ذاتيا بفضل وفرة المحاصيل المختلفة، أين كانت الحقول تُنبت القمح والشعير والذرة والسمسم والطماطم والبامية في حين كانت الأشجار توفر الزيتون والتفاح والتين واللوز. وتذكرت قائلة: “كان هناك بئر مياه على حافة القرية، ويقع ضخ المياه من البئر إلى الخزانات باستخدام الحيوانات. لم نكن بحاجة إلى أي شيء من خارج القرية”.
من جهة أخرى، شاركت شكرية عثمان، البالغة من العمر 86 سنة، ذكريات مماثلة عن قريتها لفتا، غربي القدس، قائلة: “قبل النكبة، عملنا بجد، ولكننا كنا سعداء. كان كل شيء متاحا. قمنا بزراعة الكوسا والقرنبيط والطماطم والقمح والشعير والعدس والذرة. كان لدينا أشجار زيتون وخوخ ولوز”.
على مقربة من القرية، كان هناك ينبوع مياه عذبة معروف باسم “عين لفتا”، ولكن عثمان، الذي يعيش الآن في مخيم قدورة للاجئين وسط الضفة الغربية، كشف أن اليهود المقيمين بالقرب من الينبوع بنوا جدارا حوله لمنع الفلسطينيين من الوصول إليه، بينما كانوا هم يسبحون في المياه. علاوة على ذلك، إن أي فائض إنتاج في القرى بقع بيعه في المدن، مما يسمح للقرية بتغطية احتياجاتها من السلع الأخرى.
الاستيلاء على الأراضي
قال عثمان إن الاكتفاء الذاتي للقرى أمر حاسم للبقاء على قيد الحياة طوال سنوات الانتداب، وخاصة خلال الإضراب العام الذي استمر ستة أشهر سنة 1936، والذي احتج خلاله الفلسطينيون على المعاملة التفضيلية لبريطانيا للمجموعة السكانية الصغيرة، ولكن المتزايدة، من اليهود المهاجرين.
كانت الهجرة اليهودية إلى فلسطين مصدرا للتوترات بين السلطات البريطانية والفلسطينيين، خاصة فيما يتعلق بنقل الأراضي الفلسطينية إلى الجالية اليهودية، سواء من خلال عمليات التسليم من جانب واحد أو من خلال تهيئة الظروف التي تسهل الاستيلاء على الأراضي أو شراء الأراضي من الملّاك الإقطاعيين غير الفلسطينيين.
خلال سنوات الانتداب، سنت السلطات البريطانية بشكل خاص تشريعات تمكن من مصادرة الأراضي الفلسطينية للأغراض العسكرية، إلا أن تلك الأراضي وقع تسليمها بعد ذلك إلى السكان اليهود. في المقابل، تعتقد فاطمة نخلة، البالغة من العمر 89 سنة، أن موقع قريتها، بيت نبالا التي دمرت منذ ذلك الحين، وأراضيها الخصبة كانت لعنة حتى قبل النكبة. في الواقع، بُني مطار اللد، الذي أعيد تسميته لاحقا على اسم رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون، للجيش البريطاني على تضاريس بيت نبالا سنة 1936، بينما وقع فتح مقالع الحجر في مكان قريب.
في هذا الصدد، قال نخلة: “عندما كنت في السادسة من عمري، استولت بريطانيا على أرضنا الخصبة، المسماة ‘واسطة’، وبنت معسكرا للجيش البريطاني. وعندما جاء اليهود، أسسوا مستعمرة يهودية صغيرة اسمها ‘بني شومار’ على الأرض الواقعة بين بيت نبالا واللد”.
أمّا مريم أبو لطيفة، التي ولدت سنة 1929 في صرعة، غربي القدس، فلازالت تتذكر كيف استولت المستعمرات اليهودية على أراضي قريتها ببطء عندما كانت طفلة. وقالت مريم: “في أواخر عشرينيات القرن العشرين، بنى اليهود مستعمرة صغيرة بالقرب من قريتنا وأطلقوا عليها اسم ‘هرطوف’. بدأ اللاجئون اليهود من أوروبا في الوصول، وبعد ذلك وقع إنشاء كيبوتس كفار أوريا”.
حكم قرار الأمم المتحدة رقم 181، والذي يُعرف باسم خطة التقسيم، بتقسيم أرض فلسطين التاريخية، حيث منح 55 بالمئة من الأراضي لليهود و45 بالمئة للفلسطينيين، على الرغم من أن اليهود يمثلون 32 بالمئة من السكان مقابل 60 بالمائة من السكان الفلسطينيين. قبل قرار الأمم المتحدة، كان اليهود، سواء كانوا مهاجرين أو مقيمين في فلسطين منذ أمد طويل، يمتلكون ستة بالمائة من الأرض. ووفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، تسيطر إسرائيل حاليا على 85 بالمئة من فلسطين التاريخية، سواء كانت الأراضي التي تقوم عليها دولة إسرائيل الآن، أو من خلال احتلالها العسكري.
الحرب الاقتصادية
بموجب الانتداب البريطاني على فلسطين، وقعت عمليات نقل ملكية الأراضي، إلى جانب الاستهداف المتعمد للزراعة الفلسطينية التي كانت بمثابة حلقة وصل أساسية تربط الفلسطينيين بأرضهم. وخلال الحرب العالمية الأولى، كانت فلسطين مسرحا لعدة معارك كبرى. لقد خلّفت الحرب والقمع العثماني، إلى جانب الأوبئة ونقص الغذاء، أثرا سلبيا على الفلسطينيين وتركتهم في وضع صعب بينما كانوا يكافحون من أجل توفير احتياجاتهم الأساسية.
مع وصول البريطانيين، وجد الفلسطينيون أنفسهم مضطرين لبيع أشجار الزيتون التابعة لهم لقوات الاحتلال الجديدة مقابل الإمدادات الأساسية مثل الخبز والأرز. واضطروا لمقايضة ميراث العائلة من أجل البقاء، لكن رابط الناس بالأرض كان حاسما للخروج من الأزمة. من جهته، كتب المؤلف نبيل علقم: “بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب، انتهت أزمات الغذاء والإمداد بفضل جهود ومرونة المزارعين الذين عادوا إلى مزارعهم، ورعوا ماشيتهم وزرعوا المحاصيل والأشجار”.
إلا أن سلطات الانتداب سعت إلى تحويل النظام الاقتصادي في فلسطين، القائم على الزراعة التقليدية، إلى اقتصاد رأسمالي. في الواقع، استفاد النظام الاقتصادي الجديد إلى حد كبير من استثمار رأس المال من قبل المهاجرين الجدد وكذلك الطبقة العليا من القيادة الفلسطينية التقليدية التي استغلت الفرصة لزيادة ثروتها.
نتيجة لذلك، تنازل العديد من الفلاحين عن مجال الزراعة من أجل البحث عن عمل في مدن مثل حيفا ويافا. رغم أن هذا العمل سيوفر دخلا جيدا لعائلاتهم، إلا أنه سيجعلهم يعتمدون على البريطانيين في المقابل. كما وجد العديد من الفلسطينيين عملا في الكيبوتسات و “المعسكرات” البريطانية، أو انضموا إلى قوات الأمن أو قطاع البناء. في الوقت نفسه، أصبحت الضرائب تمثل عبئا ثقيلا على المزارعين أيضا، إذ تلاعبت السلطات البريطانية بالعرض والطلب عن طريق استيراد المحاصيل بأسعار أقل ومنع المزارعين من زراعة المحاصيل عالية الدخل.
في هذا الشأن، تذكر عمر عمارة، البالغ من العمر 87 سنة، كيف كان القرويون في مسقط رأسه مسكة، شرق يافا، ينتجون كميات فائضة من القمح، وقال: ” على الرغم من ذلك، لم نتمكن من بيعه لأن البريطانيين استوردوا القمح الأرخص من أستراليا”. وأشار عمارة، الذي يعيش الآن في مخيم طولكرم للاجئين، إلى أن السلطات البريطانية كانت تقنع سكان مسكة بأنها ستساعدهم في تصدير فائض البطيخ إلى مصر.
وأردف عمارة قائلا: “بالفعل وصل القطار، وقام المزارعون بتحميله بالبطيخ وغادر. وفي المقابل، بقي الفلاحون يطالبون بأموالهم مقابل البطيخ، لكن استمرت السلطات في مراوغتهم. ولم يدفعوا المال على الإطلاق، مدعين أن حمولة القطار قد نهبت”.
الصراع المسلح
خلال الحرب العالمية الأولى، وعدت سلسلة من المراسلات بين مسؤولين بريطانيين وعرب، التي تُعرف باسم مراسلات الحسين مكماهون، رسميا بالاستقلال العربي مقابل مشاركتهم في القتال ضد الإمبراطورية العثمانية. غير أن وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو لسنة 1916 بدّدا آمال سيادة العرب على أراضيهم، بما في ذلك فلسطين، حيث كانت التطلعات القومية قوية.
في الواقع، حمل العديد من الفلسطينيين السلاح ضد القوى الاستعمارية البريطانية والميليشيات اليهودية التي سعت إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين خلال الانتفاضة التي استمرت بين 1936 و1939. وكانت السياسة العامة البريطانية تهدف لحماية السكان اليهود، مقابل حرمان الفلسطينيين، لا سيما المزارعين، من هذه الحماية.
كما قامت سلطات الانتداب بتزويد الميليشيات اليهودية بالأسلحة والتدريب العسكري، في حين قامت بقمع الفلسطينيين الذين يحملون أي سلاح. وتتذكر عزة قائلة: “إن الفلسطينيين لم يكن لديهم سوى عدد قليل من البنادق القديمة مع القليل من الرصاص بينما كان لدى اليهود طائرات ودبابات”. من جانبها، تذكرت نخلة عندما صوب سكان قرية بيت نبالا أسلحتهم القديمة تجاه قافلة من المركبات التي كانت تتوجه إلى مستعمرة قريبة. وأضافت قائلة: “ثم جاء البريطانيون وقصفوا قريتنا بالمدفعية. لقد قتلوا سبعة قرويين صغار، وأصيب زوجي”.
نظرا لأن الفلاحين شكلوا نسبة عالية من المقاتلين في ثورة 1936، فإن هذا الأمر جعلهم أهدافا مباشرة للقوات البريطانية، التي اتخذت كل التدابير الاقتصادية والعسكرية لإضعافهم. بالنسبة للعديد من الناجين اليوم، لعبت حملة القمع البريطانية على المزارعين خلال الانتداب دورا حاسما في إضعاف المجتمع الفلسطيني ككل وتمهيد الطريق للنكبة. وقبل مغادرة فلسطين في 15 أيار/ مايو 1948، سلمت القوات البريطانية معظم أسلحتها إلى الميليشيات الصهيونية. وبعد عقود من القمع المسلط على الفلسطينيين، تحول ميزان القوى بشكل حاسم، حيث يؤمن الكثير من الفلسطينيين أن نتائج المعركة كانت محددة مسبقا.
المصدر: ميدل إيست آي