لماذا فشلت ثورات “الربيع العربي” بتحقيق ما نجحت الثورة الإيرانية قبل ثلاثة عقود بتحقيقه؟ يسعى هذا المقال إلى توضيح أهم وأبرز الأسباب التي أفضت إلى نجاح الثورة الإيرانية، وإذا كانت المعيارية التي يتم من خلالها الحكم على الثورات بالنجاح أو الفشل تتصف بالجدلية الكبيرة، فإن منطق هذا المقال في الحكم على الثورة الإيرانية بالنجاح يتمحور حول قدرتها على إسقاط النظام السياسي القائم، وتنصيب نظام سياسي جديد مختلف عن سابقه في البنية والمنطلقات، واستطاعت الحفاظ عليه طيلة عدة عقود.
وقبل الشروع في سرد هذه الأسباب – والتي تعتبر الترجمة العملية لرؤية الخميني السياسية – لا بدَّ من التعرف ولو بشكل مختصر على هذه الرؤية السياسية التي كانت مصاحبة للخميني قبل الثورة وبعدها، انطلق الخميني في نظرته السياسية وفق النظرية المثالية التي ترى الخيرية كأساس مكون لفطرة الإنسان، وذلك خلافًا للنظرية الواقعية التي تعتبر أن عامل الشر من طبيعة الإنسان، كان الخميني يعتقد بإمكانية صناعة الرجل الصالح وذلك من خلال إرشاده إلى الطريق الصحيح، فالإنسان باعتقاده تتجاذبه نزعتي الخير والشر، ولا يعدو الأمر أكثر من تبصيره بالخير وتحذيره من الشر لكي يسلك الطريق القويم وهو طريق الإسلام، وهو هنا الإسلام وفق المذهب الشيعي الإثنا عشري كما يراه الخميني، وتتأتى أهمية بناء هذا الرجل الصالح من كونه البنية الأساسية في بناء الحكومة الإسلامية القادرة على تحقيق إرادة الله في الأرض من خلال تعبيد الناس لربهم؛ باختصار يعتقد الخميني أن الحكومة الإسلامية هي الأداة لخلق مجتمع فاضل منضبط بضوابط الشريعة الإسلامية.
وهنا تبرز أهمية القَيّم (أو المرشد) الذي تقع على عاتقه مهمة بناء هذا الفرد الصالح، وحسب اعتقاد الطائفة “الإمامية الإثنا عشرية” التي ينتمي إليها الإمام الخميني فإن هذا المرشد هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعد وفاته كان القرآن الكريم، وعندما كان القرآن هو مادة الاستدال، كان لا بدَّ من وجود المُستَدِل، وهو هنا الإمام الموصى عليه من عند الله إلى رسوله، والذي حصرته الإمامية في أبناء الحسين بن علي رضي الله عنهما، واستمر فيهم إلى الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، الذي دخل في غيبة سيعود منها – كما يعتقدون – في نهاية الزمان، ونظرًا لبقاء علة وجود الإمام وهي إقامة الحجة على عباد الله، عالجت الإمامية معضلة غياب الإمام الموصى إليه في زمن الغيبة الكبرى بإسناد مهامه الدينية إلى الفقيه، الذي اكتسب عند الإمامي الخميني بُعْدَ الولاية العامة بعد أن كانت ولايته ولاية خاصة لأكثر من ألف عام، وعلة الإمام الخميني في إسناد الولاية العامة للفقيه أن الله لم يكن ليدع الأمة من غير أن يقيم فيها الحجة، ومع غيبة الإمام كان لا بدَّ من وجود من ينوب عنه في إقامة هذه الحجة على عباد الله مما يتصف بصفات الإمام في العلم والتقوى والشجاعة والسخاء؛ أي بالعصمة؛ وبذلك يكون للفقية المكانة الاعتبارية للإمام، وتوكل إليه جميع المهام التي كانت موكلة للإمام، وعلى رأسها إقامة حكومة الله في الأرض، وعليه فإن مهمة إصلاح المجتمع والفرد تقع على عاتق الفقيه، ولتحقيق هذه المهمة كان لا بدَّ من أداة، وهذه الأداة هي الحكومة الإسلامية.
هذا الوضوح في الرؤية لدى الخميني يحيلنا إلى السبب الأول في نجاح الثورة الإيرانية وهو وضوح الأهداف النهائية (Ultimate Ends) من الثورة عند الرجل؛ فالثورة ليست فقط للإطاحة بالنظام الملكي – البهلوي في إيران، بل تنصيب حكومة إسلامية بدلاً عنه.
ومزيد في التأكيد وقطع الطريق أمام التأويلات؛ فقد أفصح الخميني في أكتوبر من عام 1978 عن أهداف الثورة بشكل جلي فقال: “لاحظوا أن أهدافنا الأسياسية والفورية هي إزالة النظام الملكي، وطرد جميع الأشخاص الذين احتلوا مراتب عليا في نظام البهلوي، ومحو جميع التأثير الخارجي على إيران من الدول الكبرى”، وبعد ذلك بشهر واحد فقط أضاف هدفًا آخر “مهم وأساسي” وهو إنشاء جمهورية إسلامية، كانت هذه الأهداف من الوضوح بمكان بحيث إن الخميني لم يخضعها لأي نوع من المساومة أو الحلول الوسط سواء مع ممثلي النظام البهلوي الذي حاولوا التوصل معه لتسويات معينة، أو مع رفقاء الثورة الذي كانوا يبدون بعض المرونة خصوصًا فيما يتعلق بشكل النظام الجديد، وفي محاولة منه لقطع الطريق نهائيًا أمام هذه التسويات التي لا تتماشى مع روح الثورة كما كان يراها الخميني فقد أنشأ في يناير من عام 1979 “المجلس الثوري” الذي اقتصرت عضويته على طبقة الفقهاء والمقربين جدًا من الخميني في استبعاد واضح لكل مكونات الثورة من التيارات الوطنية واليسارية التي لم تجد ممثلاً لها في المجلس سوى مهدي بازركان .
وبعد نجاح الثورة مباشرة استمر الخميني بتنفيذ “أهدافه النهائية”، وقبيل الدخول في جدل حول إعادة إنشاء مؤسسات الدولة ما بعد الثورة، أراد الخميني أن يحسم أمرًا كان في منتهى الأهمية بالنسبة إليه، وهو اسم الدولة الجديدة، وذلك من أجل القطع تمامًا مع الماضي البهلوي، ليس فقط في بنية الدولة بل في مسماها أيضًا، احتدم الجدال بين رفقاء الثورة حول اسم الدولة الجديدة، وتراوحت الاقتراحات بين “جمهورية إيران الديمقراطية” والجمهورية الإيرانية، و”الجمهوية الديمقراطية الإسلامية”، إلا أن الخميني رفضها كلها وأصر على “الجمهورية الإسلامية” فقط، حيث أخضع اقتراحه لاستفتاء شعبي حصل على غالبية مطلقة من قبل الشعب الإيراني ليحسم بذلك المسمى، ولينطلق من بعد ذلك لاستكمال باقي الخطوات.
ولكن وقبل استكمال الحديث عن هذه الخطوات تجدر الإشارة إلى أن رفض الخميني لإدراج كلمة “الديمقراطية” في اسم الدولة يعود إلى اعتقاده بأن الديمقراطية منتج غربي ومن يتمسك بها فكأنه يتمسك باستمرار التأثير الغربي على الشؤون الإيرانية الداخلية، وقد تمشى ذلك بشكل واضح مع المنطلقات العامة لفلسفة الخميني السياسية، فقد أراد أن يقدم نموذجًا جديدًا للنظام السياسي بعيدًا عن الثنائية السياسية التي كانت تحكم العالم آنذاك والمتمثلة بالرأسمالية الغربية والاشتراكية الشرقية، ومن هنا كان الشعار الذي رفعه الثوريون الإيرانيون إبان الثورة: “لا شرقية ولا غربية .. بل حكومة إسلامية”.
بعد حسم قضية اسم الدولة، بدأ الإعداد لمعركة الدستور الجديد للجمهورية الإسلامية؛ سريعًا ظهرت وجهتي نظر متصارعتين، تبنت وجهة النظر الأولى التيارات الوطنية والعلمانية التي نادت بضرورة تشكيل لجنة موسعة لوضع الدستور بحيث تشمل جميع التيارات والأحزاب السياسية التي تشكلت بعد الثورة، أما وجهة النظر الأخرى والتي تبناها الخميني فقد رأت ضرورة أن تكون اللجنة مصغرة، بحيث تقتصر على عدد محدد من الخبراء لوضع الدستور، وكان أن رأى الخميني بوجهة النظر الأولى أنها عبارة عن مؤامرة جديدة للقوى الخارجية لتفتيت وحدة الإيرانيين، واستبعاد الإسلام، وإعادة إنتاج الدستور القديم.
وقد كان للخميني ما أراد، حيث تم تشكيل “مجلس الخبراء” من عدد محدد من المختصين الذين أنيطت بهم مهمة صياغة دستور جديد للجمهورية الإسلامية في ظل مقاطعة القوى الوطنية والعلمانية، حيث تحولت هذه القوى بطبيعة الحال إلى معسكر المعارضة، وهو ما فرض على الخميني وتياره السياسي إلى تصعيد لهجة الخطاب ضد هؤلاء واتباع سياسة التخوين الإقصاء ونعتهم بـ “المنافقين”، ففي إحدى كلماته قال الخيميني: “إذا كنا حقًا ثوريين، فقد كان من الواجب علينا منع هؤلاء (الأحزاب المعارضة) من الوجود، كان يجب أن نسمح فقط بتأسيس حزب واحد، حزب المستضعفين، سوف أحذر هؤلاء المجموعات الفاسدة في جميع أنحاء البلاد أنهم إذا لم ينتهوا فسوف نتصرف معهم بطريقة مختلفة، إن من واجبات المحكمة الثورية إغلاق جميع هذه الصحف والمجلات التي لا تعكس الطريق الذي اختارته الأمة، واعتقال صحفيهم وإيداعهم السجن”.
في أثناء هذا الحراك السياسي، كان المجلس الثوري الذي تشكل قبيل إسقاط الشاه يتصرف كرئيس للبلاد بحكم الأمر الواقع، وقد أعلن المجلس أن برنامج الأمة يتضمن: أولاً: المصادقة على الدستور، ثانيًا: انتخاب رئيس البلاد، ثالثًا: انتخاب أعضاء المجلس (البرلمان)، ورابعًا: مأسسة موقع القائد (الولي الفقيه) في النظام، والذي حظي بصلاحيات كبيرة جدًا بنص الدستور في المواد 107-112، ورغم معارضة الكثير من الأحزاب والتيارات السياسية الاستفتاء على الدستور فقد تم المصادقه عليه في يناير من عام 1979.
شرع الخميني وقد ضَمِنَ معركة الدستور لصالحه والذي يعد الوثيقة القانونية لنظرية الولي الفقيه (انتقلت نظرية ولاية الفقيه على يد الخميني من مجرد نظرية في العلوم الشرعية إلى دستور سياسي) في التحضير للانتخابات الرئاسية، كان على الرئيس وفق الرؤية الخمينية أن يضطلع بمهمة ترجمة مبادئ الدستور الجديد القائم على نظرية ولاية الفقيه إلى سياسات عامة تمارسها الدولة في شؤونها الخارجية والداخلية، ولذلك كان لا بدَّ أن تتوفر في هذا الرئيس مواصفات محددة مُصصمة لتناسب أولئك الذين ينتمون إلى طبقة علماء الدين أو الفقهاء، وقد أوضح الخميني بشكل صريح هذه الصفات حينما قال: “على هؤلاء المترشحين إلى منصب رئيس الجمهورية أن يلاحظوا أن عليهم أن يكونوا مكرسين لخدمة الإسلام، ويتمتعون بسيرة نظيفة، وليست عندهم ميول إلى الشرق أو الغرب، ويهتمون فقط بالأمة، ولم يحتلوا أي من المناصب في عهد الملكية البهلوية”، بالإضافة إلى أن أولئك الذين لم يوافقوا على نظرية ولاية الفقيه، ولم يشاركوا في الاستفتاء على الدستور فلن يسمح لهم بالترشح، وبذلك تكون هذه المواصفات إقصائية ليس فقط للتيارات الوطنية والعلمانية، بل وللجناح المعارض لنظرية ولاية الفقيه ضمن طبقة الفقهاء، وهو ما جعل مؤسسة الرئاسة تابعة بشكل كامل لمؤسسة القائد.
ورغم أن انتخابات الرئاسة جاءت بشخصية من خارج طبقة الفقهاء، إلا أن هذا الأمر لم يستمر طويلاً، فقد استطاع الخميني تصويب هذا “الخطأ” الذي وقع فيه الشعب بانتخاب شخصية ليبرالية مثل شخصية أبو الحسن بني صدر ليكون أول رئيس للجمهورية الإيرانية بعد الثورة، والإتيان بشخصية من داخل طبقة الفقهاء والمقربين منه، فكيف كانت العلاقة بين الخميني وبين أول رئيس للجمهورية، وكيف استطاع التخلص منه وتصويب المسار بما يخدم توجهه في تحقيق أهدافه النهائية، وما هي باقي الخطوات التي اتبعها في تثبت حكمه؟ هذا ما سوف نعالجه في الجزء الثاني من هذا المقال.