خمس سنوات تقريبا والقتال لا يتوقف في سوريا، لا فائز ولا مهزوم، ولا تبدو خريطة النفوذ والسيطرة السياسية والعسكرية بالبلاد اليوم، هي ذاتها قبل الثورة، بل حتى خلال الأعوام السابقة، حيث تتقاسم الجغرافيا السورية أربع قوى رئيسية تسيطر عسكرياً على أجزاء من البلاد، هي قوات الأسد، وكتائب المعارضة المسلحة، وتنظيم الدولة، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، والتي تتقاسم كذلك السيطرة فيما بينها في مشهد متكرر يستنزف الجميع دون نهاية، ما يطرح تصور هام بأن الدول الغربية تعمل على فرض هكذا واقع؛ حتى ينهار الجميع، وتتفتت سوريا وربما تزول من المنطقة ككل.
سيناريو صادم
يدعم هذا التصور تصريحات بروس ريدل المستشار لأربعة رؤساء أمريكيين فيما يتعلق بالشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا ، والذي عمل لمدة 30 عاماً في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)، والتي قال فيها إن الحرب اللبنانية في منتصف السبعينات كانت مجرد مقدمة لما جاء بعدها، وسيأتي لاحقاً، مضيفاً أن غزو العراق عام 2003 مهّد لتفكيك الدول العربية، وأن كل من سوريا وليبيا باتتا في طريقهما إلى الاختفاء من الخريطة السياسية، والعراق سيفقد هو الآخر شماله الكردي، وسيتحول إلى عراق شيعي، وعراق أصغر سني، وعراق كردي.
صراعات وتحالفات
الآن ، واقع خريطة القوى بسوريا يثبت تلك التصريحات، حيث تتركز سيطرة قوات الأسد على محافظتي طرطوس واللاذقية الساحليتين المطلتين على البحر المتوسط، ومحافظة السويداء الجنوبية المحاذية للحدود الأردنية، ومعظم أحياء مدينة دمشق العاصمة، ومدن حماة وإدلب، وبعض الأحياء بمدينتي حمص وحلب، في حين تسيطر كتائب الثوار والمعارضة المسلحة، وبينها جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، على معظم البلدات والمدن الواقعة في محافظات حلب وإدلب، شمالاً، ودرعا والقنيطرة جنوباً، بالإضافة إلى بلدات الريف الشمالي والشرقي لمحافظة حمص، ومنطقتي جبل الأكراد وجبل التركمان شمال اللاذقية قرب الحدود مع تركيا، بالإضافة إلى معظم أنحاء ريف العاصمة دمشق، وتسيطر القوات الكردية، التي يطلق عليها “وحدات حماية الشعب”، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، على ثلاث مناطق منفصلة شمالي البلاد بمحاذاة الحدود التركية، وهي شمال محافظة الحسكة، لا سيما مدينة القامشلي، ومنطقة عين العرب(كوباني)، شمال شرقي محافظة حلب، ومنطقة عفرين شمال غرب المحافظة ذاتها، ويفرض “داعش” سيطرته على معظم المحافظات الشرقية، دير الزور والحسكة والرقة، وأجزاء من ريف حلب الشرقي، بما فيها مدينة منبج.
الدور الغربي
منذ بداية الأزمة في سوريا دعمت الولايات المتحدة القوى المعتدلة مثل الجيش الحر ضد بشار الأسد، دون العمل على إسقاطه، وفي العام 2014 دشنت واشنطن تحالفا دوليا للقضاء على “داعش”، قبل أن تتدخل موسكو في أكتوبر من العام الماضي، بغرض منع سقوط نظام الأسد، بعد تقدم المعارضة ودون التعرض بشكل فعال ضد تنظيم داعش .. حجة الجميع.
وعلى الجانب الآخر ، دعمت واشنطن قوات سوريا الديمقراطية بالتعاون مع الأكراد ، بنية تقويض تنظيم داعش، قبل أن تفعلها روسيا وتحقق مكاسب سياسية، ورفضت ألمانيا أي تدخل عسكري في سوريا، وتمسكت بالحل السياسي، وسجلت فرنسا موقفا متقدما حين قررت المشاركة في عملية عسكرية تقودها أمريكا ضد نظام دمشق، قبل أن يتراجع عنها أوباما بعد التوافق مع الروس، أما موسكو وإيران فمنذ اللحظات الأولى للثورة كانتا في صف بشار بالعتاد والرجال وكل شيء.
استنزاف متعمد
الآن بات الجميع يتقاتل ويتقدم حينا ويتقهقر آخر، في استنزاف كبير للكل دون نتائج ملموسة، ولم تمنع مرجعية الإسلام الصراع بين قادة هذه الجماعات، كما لم يمنعهم من ذلك عداؤهم للنظام، فخالفوا أبسط شروط الوحدة في المعركة ضد العدو المشترك، وقدّموا مناطقهم وسكانها ضحية سائغة له، وطوال ذلك الصراع، لم يسأل قادة هذه الجماعات عن المستفيد منه، وعلى الرغم من أن معظمهم من رجالات الدين، فإن ذلك لم يمنعهم من التعصب لرأيهم، والانغلاق على نمط تفسيراتهم، والإصرار على انفرادهم بتسيير أمور مناطقهم، فصارت قضيتهم هي الاستبداد بأوضاعها، على شاكلة استبداد النظام بسياساته.
الأكراد من الهامش للمتن
وتنقسم أراضي سوريا حالياً إلى مساحات قد تبدو متكافئة بين القوى الأربعة الفاعلة، لكن تظل الخارطة الأكثر تعقيداً هي في شمال البلاد وشرقها، وتحديداً في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة شرقاً، ومحافظتي إدلب وحلب شمالاً، حيث تنتشر تقريباً مختلف انتماءات الفصائل المقاتلة، ففي الشمال والشرق، شهدت خارطة النفوذ تغييرات ضخمة قلبت الصورة، خصوصًا بعدما شنّ “الجيش السوري الحر”، وائتلاف الكتائب الإسلاميّة حرباً على “داعش” في يناير 2014، ما أدى بشكل غير مباشر إلى توسع النفوذ الكردي شمالي البلاد، فبعد أن كان مقتصراً على الزاوية الشمالية الشرقية من سوريا وبعض النقاط الصغيرة الأخرى، أصبح الأكراد يسيطرون تقريباً على معظم الشمال السوري من الحسكة إلى شمال حلب، إضافة إلى منطقة عفرين في الشمال الغربي.
ماذا بعد، سؤال يورق الجميع الآن؟
لا توجد تقديرات واضحة حول أعداد المقاتلين في التنظيمات المختلفة، وخاصة المعارضة للنظام؛ نتيجة حصول انشقاقات وانضمامات، وتبدل شهري لخريطة الولاءات في البلاد، حيث يعقّد انتشار أكثر من 70 فصيلاً سورياً معارضاً في البلاد، المشهد السوري.
بحسب ما نشرته مصادر داعمة للجيش الحر، فإن عدد مقاتلي تنظيم داعش “يفوقون الـ20 ألف مقاتل، بعد سيطرته على أرياف دير الزور، وشراءه بالمال ولاءات مقاتلين كانوا يخاصمونه، وإجبر آخرين على الانضمام إليه، مقابل تجميد أحكام القتل بحقهم، وبرز ذلك على نطاق واسع في دير الزور، كما في القلمون، حيث تشير التقديرات إلى ارتفاع أعداد مقاتلي داعش من 300 ظهروا في شهر أغسطس 2014 في معركة عرسال اللبنانية الحدودية مع سوريا، إلى ألف مقاتل في أواخر شهر ديسمبر من نفس العام، في المقابل تُقدّر أعداد المقاتلين المنضوين إلى “جبهة النصرة”، بنحو 15 ألف مقاتل، وإذا أضفنا لها حلفاؤها، مثل “جند الشام” و”جند الأقصى” و”جيش الإسلام” وكتائب إسلامية مسلحة أخرى موجودة في الشمال، وريف دمشق، قد يتضاعف أعداد المقاتلين في محورها، ويجعلها القوة الموازية لـ”داعش”، لكن الأخير بتفوق عليها بقدرته المالية وتجهيزاته العسكرية ومعداته وأسلحته، إضافة إلى خبرات مقاتليه، وخصوصاً الأجانب منهم.
صراع الفناء
خلاصة القول إنه من الصعب حاليا رسم خريطة واضحة المعالم لتوزع كل هذه القوى المقاتلة في سوريا، ومدى تفوق أي منها، فهي متداخلة في الكثير من المناطق، وأحياناً يفصل بينها حي واحد، وهي خارطة متغيرة كل يوم، إلا أن الثابت فيها أن سوريا باتت تحت سيطرة 4 قوى رئيسية على الأقل، لكل واحدة أيديولوجيتها ووسائلها وأهدافها المختلفة، ما دفعها إلى المزيد من التعقيد والتشابك وغموض المصير، وهو ما خططت له القوى الغربية منذ البداية، وإن أرادت القوى المعارضة تحقيق أهدافها، والتغلب على خلافاتها القائمة على الانفصال البيني بينها، على أساس حاجات محلية ومصالح آنية، واقتتالها بشأن عدد من القضايا، عليها تنحية الخصومة الأيديولوجية والدينية والسياسية، وإلا فإن الجهة الرابحة من مواصلة وارتفاع وتيرة القتال هي النظام .. ومن يقف خلفه.