لم تجف دموع المصريين بعد على ضحايا تفجير كنيستي مارجرجس في مدينة طنطا (93 كم شمال العاصمة القاهرة) والمرقسية بالإسكندرية في الـ9 من أبريل الماضي والذي أسفر عن سقوط 46 شخصًا وإصابة 100، وإذ بهم على موعد مع حلقة جديدة من مسلسل استهداف الأقباط.
ملثمون يرتدون ملابس عسكرية يستقلون ثلاث سيارات دفع رباعي يستهدفون حافلة تقل عددًا من الأقباط على الطريق الصحراوي الغربي خلال توجهه إلى دير الأنبا صموئيل في محافظة المنيا (صعيد مصر) قادمًا من مدينة بني سويف (صعيد مصر) فيسقط نحو 28 مصريًا جميعهم من الأقباط وإصابة 27، ثم يلوذون بالفرار.
الحادث هذه المرة وبشهادة الجميع يختلف نسبيًا عن بقية الحوادث التي وقعت خلال الفترة الماضية، سواء من حيث الاستراتيجية الجديدة المتبعة أو الإمكانيات المادية والبشرية للعناصر المسلحة، فضلاً عن رد الفعل السياسي والأمني وما يحمله من دلالات ومؤشرات متباينة من جانب ومقلقة من جانب آخر.
ليس الأول
على الرغم من تأييدهم المطلق للنظام الحالي منذ البداية، فإن الأقباط في مصر واجهوا خلال السنوات الثلاثة الماضية ما لم يواجهوه خلال عقود طويلة مضت، ويمكن رصد أبرز الجرائم التي استهدفتهم على وجه التحديد:
* أغسطس 2014.. اشتباكات عنيفة بين المسلمين والمسيحين بقرية يعقوب القبيلة بمركز أسيوط بمحافظة المنيا تسفر عن عدد من الإصابات.
* فبراير 2015.. إعدام 21 مصريًا قبطيًا على سواحل ليبيا، بحسب شريط فيديو بثته عناصر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” تحت عنوان “تحت عنوان رسالة موقعة بالدماء إلى أمة الصليب”.
* مايو 2015.. الاعتداء على منازل 7 مسيحيين في قرية الكرم بمحافظة المنيا جرّاء نشوب خلافات بين المسلمين والأقباط هناك بسبب علاقة بين امرأة مسيحية ورجل مسلم.
* يونيو 2015.. تهجير نحو 19 مصريًا قبطيًا من منازلهم بقرية كفر درويش التابعة لمركز الفشن بمحافظة بني سويف “صعيد مصر”.
* ديسمبر 2016.. تعذيب المواطن المصري القبطي مجدي مكين حتى الموت داخل قسم شرطة الأميرية بالقاهرة، وما أثارته من سخط كبير بين الأقباط خاصة بعد محاولات تبرئة الضابط المتهم بالتعذيب.
* ديسمبر2016.. تفجير الكنيسة البطرسية الملاصقة لمدخل الكاتدرائية المرقسية في منطقة العباسية بالقاهرة، وسقوط 25 قتيلاً وإصابة 50.
* فبراير2017.. مقتل 7 أقباط في العريش بشمال سيناء وتهجير 120 عائلة قبطية من سيناء إلى مدينة الإسماعيلية (شرق القاهرة) بعد تلقيهم تهديدات من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
* أبريل 2017.. تفجير كنيسة مارجرجس في مدينة طنطا بالتزامن مع تفجير الكنيسة المرقسية في مدينة الإسكندرية، مما أسفر عن مقتل 46 شخصًا وإصابة 100.
ثم يأتي استهداف حافلة الأمس لتضاف إلى قائمة استهداف الأقباط في مصر خلال السنوات الماضية، إلا أن البعض ذهب في وصفه لتلك الجريمة بأنها “غير عادية” وتعد نقلة نوعية في فكر وإمكانيات “داعش”، كيف ذلك؟
تفجير كنيسة مارجرجس في طنطا أبريل الماضي
الحدث ليس عاديًا
عكست حادثة المنيا نقلة نوعية خطيرة وتطور منهجي واستراتيجي ملحوظ في فكر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” فيما يتعلق باستهدافه للأقباط وذلك بعدما أعلن رسميًا تبنيه لعملية الأمس وهو بحسب البعض سابقة لم يشهدها التنظيم منذ إعلان الحرب عليه في سيناء قرابة الأعوام الثلاث الماضية.
البداية كانت مع استهداف “داعش” للأقباط في سيناء وإجبار عشرات العائلات منهم على النزوح تاركين بلدانهم ومنازلهم وأموالهم متوجهين إلى الإسماعيلية والقاهرة، بعد تهديدهم بالقتل حال بقائهم في العريش، وهو ما فسرته أجهزة الأمن حينها بأن التنظيم يحتضر وما يفعله لا يعدو كونه محاولة استفاقة بعد الضربات الموجعة التي تلقاها بحسب روايات الرئيس المصري ووزير داخليته.
وقبل استهداف أقباط سيناء بشهرين تقريبًا أعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عن تفجير كنيسة البطرسية الملاصقة للكاتدرائية وسط القاهرة ديسمبر العام الماضي وهو ما كان تطورًا حينها غير مسبوق.
تحول العمليات المسلحة الإرهابية من سيناء إلى القاهرة ثم العودة لسيناء مجددًا كانت رسالة واضحة مفادها أن “داعش” لديها من الإمكانيات ما تخول لها تنويع عملياتها سواء في المناطق الحدودية أو داخل العاصمة.
وبعد شهرين فقط من تهجير أقباط سيناء وأربعة أشهر على حادثة البطرسية، ها هو التنظيم ينفذ أقوى عملياته في محافظتين مختلفتين إحداهما شمال شرق مصر في مدينة الإسكندرية والأخرى بوسط الدلتا بمحافظة الغربية، مسفرًا عن سقوط نحو 46 قتيلاً وإصابة 100.
ولم يمر شهر ونصف تقريبًا على تفجير الكنيستين حتى فوجئ المصريون بحادث أمس الجمعة والذي يعد نقلة نوعية خطيرة في منهجية التنظيم، الذي بدأ بسيناء ثم القاهرة مرورًا بمحافظات الدلتا وصولاً إلى صعيد مصر، فالجريمة بحسب ما أشار إليه البعض ليست طائفية فقط في المقام الأول كما يدندن الإعلام الداعم للنظام، ولم يكن المقصود منها فقط ضرب اللحمة الوطنية وإحداث الفرقة بين المسلمين والمسيحين كما يقول رئيس الدولة وأجهزته المعاونة.
حادث الأمس رسالة واضحة نجح تنظيم الدولة في إيصالها لأجهزة الدولة تعكس مدى التطور الملحوظ في قدراته التكنولوجية والمعلوماتية التي أهلته للوصول إلى هذه النقطة الصعبة (طريق صحراوي معروف ومكشوف وقريب من المناطق الآهلة بالسكان)، والتي يمكن رصدها بسهولة من قبل أجهزة الأمن.
كذلك حين تتحول استراتيجية الهجوم من التفجيرات عن بعد أو العمليات الانتحارية إلى المواجهة المباشرة، ومتابعة حافلة بعينها تقل أقباطًا، ويتم تتبعها ومراقبتها ثم توقيفها والصعود لها واستهداف من فيها، فضلاً عن أريحية تصوير ما حدث بحسب رواية أحد الناجين، فهذا يشير إلى حجم ما وصلت إليه تلك التنظيمات من تطور واضح في المخزون المعلوماتي والاستخبارتي لديها.
التحول من استهداف الأهداف الثابتة سواء كانت أكمنة أو لجان أمنية، فضلاً عن استهداف مؤسسات الدولة المختلفة، وزارات كانت أو أقسام شرطة أو حتى كنائس، إلى استهداف المدنيين في الشوارع والطرقات في صعيد مصر وخارجه، يجعل من إمكانية تصدي الأمن لمثل هذه العمليات غاية في الصعوبة، وهو ما يحمل مؤشرات مقلقة لمستقبل الوضع الأمني في مصر.
تفاصيل الحادث وملابساته وتكرار سيناريوهات استهداف الأقباط في صعيد مصر، فضلاً عن تحريات وزارة الداخلية التي تم إعلانها مؤخرًا دفعت البعض إلى الذهاب قليلاً نحو وجود فرع لتنظيم الدولة داخل الصعيد.. فما حقيقة ذلك؟
حادث الأمس رسالة واضحة نجح تنظيم الدولة في إيصالها لأجهزة الدولة تعكس مدى التطور الملحوظ في قدراته التكنولوجية والمعلوماتية
حافلة الأقباط بعد استهدافها مباشرة
“ولاية الصعيد”
الحديث عن تكوين فرع لتنظيم “داعش” في صعيد مصر ليس جديدًا بل يعود إلى أبريل 2015، حين كشف أبو سفيان المصري، أحد قيادي التنظيم عن “إعلان ولاية الصعيد قريبًا” وهو ما أثار الجدل حينها.
وفي 22 من مايو 2016 تم إحالة 66 شخصًا إلى محكمة الجنايات بتهمة تشكيل خلية إرهابية – تابعة لداعش – والانضمام لها،، وتعمل في ست محافظات بصعيد مصر، كان على رأس تلك المحافظات المذكورة، محافظتا المنيا وأسيوط.
وفي العاشر من أبريل الماضي قالت وزارة الداخلية إنها نجحت في تصفية سبعة من العناصر وصفتهم بـ “الإرهابيين” كانوا وفق بيانها “مختبئين في منطقة جبلية بمركز أبنوب بصحراء أسيوط، اتخذوها وكرًا للتدريب وتجهيز العبوات المتفجرة”.
اختيار الصعيد على وجه الخصوص لتكوين ولاية جديدة تابعة لتنظيم الدولة له العديد من الأسباب يمكن اختصارها في بعض المحاور أبرزها أن بعض محافظات الصعيد لا سيما أسيوط والفيوم كانتا معقليْن أساسيين للجماعات الإسلامية المسلحة آنذاك خلال صراعها مع الدولة في أواخر القرن الماضي، كذلك تنشط التنظيمات المسلحة في المناطق المهمّشة والمحرومة من رعاية السلطة المصرية، فالبداية كانت سيناء المطرودة من رحمة الأنظمة المصرية، مما كوّن بها حاضنة للكراهية بسبب البطالة والقمع الأمني، ثمّ الصعيد الذي يمر بنفس الظروف تقريبًا، وهي ظروف مولّدة للغضب والكراهية.
كما أن تشابه الظروف البيئية لكل من الصعيد وسيناء من حيث العادات والتقاليد والطبيعة الجغرافية والتي تستعصي على السيطرة بالنسبة إلى الجيوش النظامية، دفعت التنظيم إلى البحث عن معاقل جديدة له خارج سيناء لتشتيت قوة أجهزة الأمن ما بين العريش ورفح والصعيد.
أنصار الرأي الذي يقول بوجود فرع لتنظيم الدولة في سيناء ومن قام بعملية الأمس هم عناصر هذا التنظيم، واستندوا في تفسيرهم إلى ما عكسته تفاصيل الحادث من دلالات ومؤشرات تثبت وجهة نظرهم، حيث إن دير الأنبا صموئيل الذي كان هدفًا للحافلة التي تم استهدافها مستقر في حضن جبل القلمون وهي منطقة وعرة للغاية، كما أنها تبعد عن الطريق الرئيسي نحو 45 كيلومترًا، وتنقطع شبكة الاتصالات تمامًا هناك، ومن ثم فالسير فيه للغرباء غير الدارسين لطبيعية هذا المكان أمرًا صعبًا جدًا، وهو ما يرجح أن يكون من نفذ العملية مستقر في المنطقة، فكيف لغرباء أن يقوموا بالهجوم على هدف ما في هذا المكان ثم يتمكنون من الهرب فورًا وفي أماكن لم يستطع أحد أن يصل إليهم بعد؟
لكن يبقى السؤال: هل يعفي التطور المعلوماتي والحركي لتنظيم “داعش” الأمن المصري من تحمل المسؤولية؟ خاصة أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم استهداف الأقباط فيها سواء في سيناء أو خارج سيناء.
تكوين فرع لتنظيم “داعش” في صعيد مصر ليس بالحديث الجديد بل يعود إلى أبريل 2015، حين كشف أبو سفيان المصري، أحد قيادي التنظيم عن “الإعلان عن ولاية الصعيد قريبًا” وهو ما أثار الجدل حينها
اختيار “داعش” لهذه الحافلة على وجه الخصوص يعكس التطور الاستخباراتي المعلوماتي للتنظيم
ماذا عن التقصير الأمني؟
لطالما عزف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على وتر عدم وجود أي تقصير أو خلل أمني في التصدي لمثل هذه العمليات، حيث أعلن في أكثر من مناسبة تأكيده الثقة في وزير الداخلية الحالي اللواء مجدي عبد الغفار، رافضًا أي اتهامات للأمن بالتقصير، فضلاً عن عدم اتخاذ إجراءات عقابية ضد أي مسؤول أمني بسبب تلك الجرائم اللهم إلا إقالة مدير أمن الغربية عقب تفجير كنيسة مارجرجس في طنطا أبريل الماضي.
البعض سلط سهام النقد لأجهزة الأمن متهمًا إياها بالتخاذل وغياب دورها بصورة شبه كاملة، متسائلين: كيف تسير حافلة تقل أقباطًا دون حماية أو تأمين شرطي؟ ثم من أخبر التنظيم بخط سير الحافلة ومن تقل وإلى أين تتجه؟ والسؤال الأخير: أين كانت طائرات الإستطلاع عقب وقوع الحادث لتمشيط المنطقة بالكامل بحثًا عن مرتكبيه؟
معروف أن طيل أمد المواجهات العسكرية مع التنظيمات المسلحة في سيناء كان أحد أسبابها القيود المفروضة على تحركات الأمن المصري بسبب القوانين الدولية أبرزها عدم القدرة على استخدام الطائرات المقاتلة ضد عناصر التنظيم، وهو ما أعطاه القدرة على التحرك بحرية وتمدد أكبر، لكن حين يتم الانتقال إلى صعيد مصر حيث لا قيود ولا قوانين تحد من أي تحركات، أين اختفت قوات التأمين خاصة سلاح الطيران؟ ولماذا لم يتحرك لملاحقة هذه العناصر التي نفذت العملية؟
كما أن بقاء 16 مطلوبًا امنيًا متورطًا في تفجيرات الكنائيس الثلاث في طنطا والإسكندرية والقاهرة أحرار مطلقي السراح دون ملاحقات بما لديهم من أسلحة ومعدات وخطط لهجمات وأعمال جديدة يضاف إلى فشل منظومة الأمن في التصدي لمثل هذه الهجمات وهو ما يضع الكثير من التساؤلات حول تورط الدولة في الأعمال السابقة بما تعاني منه من تقصير وخلل.
ولأن النظام لا يقبل توجيه الإدانات والانتقادات لمنظومة الأمن فما وجدت تلك الأسئلة أي إجابة عنها حتى الآن، ورغم تصاعد المطالب التي تنادي بإقالة وزير الداخلية، فالرئيس لم يعرها أي اهتمام، وهو ما جسده خطابه مساء أمس تعليقًا على الحادث والذي حمل بعض الرسائل الخطيرة.. فماذا قال؟
السيسي في خطابه وجه نداء إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر فيه عن “ثقته في قدرته على محاربة الإرهاب” مطالبًا إياه بـ”تنفيذ تعهداته في هذا الشأن”
خطاب التهديد
السيسي في خطابه حمّل “داعش” مسؤولية حادث الجمعة، موضحًا أن هدفها من وراء تلك العملية “عمل فتنة بين المصريين مسيحيين ومسلمين، وكيف يقولون للمسيحيين في مصر إن الدولة المصرية لا تقوم بحمايتكم بالشكل الكافي، وأنكم لستم آمنين في مصر… وخلال الشهور الماضية في كنيسة البطرسية وكنيسة طنطا وكنيسة الإسكندرية هذه هي الرسالة، واليوم هذا العمل هدفه أن يقولوا للمصريين إن التماسك بين المصريين مسيحيين ومسلمين لازم ينكسر وهذا هو الهدف”.
وعن الجهات التي جاء منها عناصر التنظيم إلى مصر قال السيسي “منذ عدة أشهر، نحو 5 أو 6 أشهر، أبلغت الأجهزة وقلت لهم انتبهوا مهمتهم في سوريا انتهت، ودمروا سوريا، وعندما بدأ المقاتلون الخروج من حلب منذ 5 أشهر أو أكثر، قلت لهم انتبهوا لأن جزءًا من المقاتلين سوف يأتي إلينا، انتبهوا لهم وسوف يتحركوا في اتجاه سيناء واتجاه المنطقة الغربية بالحدود المشتركة مع ليبيا”.
كما وجه السيسي نداءً إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر فيه عن “ثقته في قدرته على محاربة الإرهاب” مطالبًا إياه بـ”تنفيذ تعهداته في هذا الشأن” استنادًا إلى الاستراتيجية المتفق عليها خلال افتتاح مركز مكافحة التطرف والإرهاب في الرياض مؤخرًا.
أما عن الإجراءات التي تنتوي القاهرة اتخاذها ردًا على هذا الحادث، أشار السيسي إلى أن “قواته وجهت ضربة” لما أسماها “معسكرات الإرهابيين” في مكان لم يحدده، موضحًا أن بلاده “لن تتردد في ضرب أي معسكرات للإرهابيين داخل مصر أو خارجها”، كما دعا إلى “معاقبة الدول التي تدعم الإرهاب وتمده بالسلاح والتمويل والتدريب”.
والمفارقة
وبينما يلقي السيسي خطابه الذي أشار فيه إلى قيام بعض قوات الجيش المصري باستهداف أحد معسكرات تدريب “داعش” خلال إلقائه كلمته دون أن يحدد موطن هدف قواته، إذ بالصحف المصرية تبادر بنشر تفاصيل عملية قامت بها القوات الجوية ضد معسكرت مجلس شورى مجاهدي درنة شرقي ليبيا بالتنسيق مع الجانب الليبي.
ثلاثة سيناريوهات من الممكن أن تفسر الضربة المصرية لبعض الأهداف الليبية والتي أثارت الكثير من الجدل ما بين داعم بزعم الانتقام ومعارض بحجة تهديد مصالح مصر الخارجية.
السيناريو الأول: معرفة أجهزة الأمن المصرية بمعسكرات تدريب الجماعات المسلحة في ليبيا مسبقًا، وهنا تساؤل: إن كان الأمر كذلك فلما لم تتحرك القوات المصرية مستهدفة تلك المعسكرات قبل تنفيذ حادثة الأمس؟ وهو نفس السؤال الذي تم طرحه عقب استهداف قوات من الجيش المصري لبعض المناطق شرقي ليبيا عقب ذبح 21 قبطيًا على سواحل ليبيا في فبراير 2015، وهو ما لم يجد إجابة حتى وقت كتابة هذه السطور.
كما هو معلوم فإن مجلس شورى مجاهدي درنة ينتمي إلى تنظيم “القاعدة” كما أنه أحد القوى التي تحارب “داعش” في ليبيا منذ 2015 وحتى الآن، فلماذا تم استهدافه؟
السيناريو الثاني: قدرة أجهزة الدولة على الكشف عن المتورطين في الحادث عقب وقوعه مباشرة.. وهو أمر غير وارد فليس من المنطقي تحديد أماكن تدريب عناصر التنظيم في الوقت الذي فشلت فيه تلك الأجهزة في تحديد أماكن مرتكبي العملية داخل مصر وفي الإطار الجغرافي الضيق الذي وقعت فيه العملية.
السيناريو الثالث: تزويد أجهزة مخابرات دولية للقاهرة بمعلومات عن تلك المناطق للتعامل معها، وهو ما يضع الدولة المصرية في ورطة كبيرة، إذ كيف لها التيقن من صدق هذه المعلومات وهدف الجهة التي زودتها بها، ما يمكن أن يوقعها أسيرة الاتهام بـ”العمالة” لصالح جهات ومصالح خارجية.
وفي ملمح آخر فإن شن القوات الجوية المصرية لهجمات داخل ليبيا جاء بالمخالفة للدستور الذي ينص في مادته (152) على: “رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولا يعلن الحرب، ولا يرسل القوات المسلحة في مهمة قتالية إلى خارج حدود الدولة، إلا بعد أخذ رأي مجلس الدفاع الوطني، وموافقة مجلس النواب بأغلبية ثلثي الأعضاء”، وتضيف “إذا كان مجلس النواب غير قائم، يجب أخذ رأي المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وموافقة كل من مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطني”.
مفارقة واضحة تضمنها التحرك المصري ضد عناصر درنة الليبية، إذ إن السيسي في خطابه حمّل “داعش” مسؤولية حادثة الأمس، وكما هو معلوم فإن مجلس شورى مجاهدي درنة أقرب أيديولوجيًا إلى السلفية الجهادية القاعدية، كما أنه أحد القوى التي تحارب تنظيم الدولة في ليبيا منذ 2015 وحتى الآن، وكان لها دور محوري في طرده من مدينة سرت ودرنة، وهنا سؤال يفرض نفسه: ما الهدف من ضرب هذه المعسكرات؟
استهداف القوات الجوية المصرية لمعسكرت تابعة لمجلس شورى مجاهدي درنة شرقي ليبيا
الهروب للأمام
في سياق ما سبق يمكن قراءة ما حدث من استهداف معسكرات داخل ليبيا كونه “هروبًا للأمام” وهو تكتيك يلجأ إليه النظام المصري كمناورة للهروب من المأزق الحالي والفشل في التصدي للجماعات المسلحة سواء في سيناء أو خارجها، ومن ثم فليس أمامه سوى البحث عن ردود انتقامية سريعة حتى ولو كانت غير دقيقة في محاولة لامتصاص الغضب الداخلي.
الضربات الجوية المصرية لمواقع داخل ليبيا ليست المرة الأولى، فقد شنت القوات المصرية العديد من الهجمات ضد مواقع تابعة لبعض التنظيمات المسلحة المناهضة لقوات شرق ليبيا الموالية للواء المتقاعد حليفة حفتر، الحليف الليبي المقرب من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ولعل أبرز الضربات التي وجهتها القاهرة ضد أهداف ليبية ما حدث في فبراير 2015 ضد مواقع تابعة لتنظيم الدولة “داعش” ما أسفر حينها على سقوط عشرات القتلى، والتي قوبلت بانتقادات حقوقية دولية في مقدمتها منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش، واللتان اتهمتا القوات المصرية بالضرب العشوائي غير الدقيق ما أسفر عن سقوط 7 أشخاص من بينهم 3 أطفال على الأقل.
وبالأمس وعقب إعلان القوات المسلحة المصرية باستهداف مواقع تابعة لمجلس شورى مجاهدي درنة شرقي ليبيا، قال المتحدث باسم مجلس شورى مجاهدي درنة، محمد المنصوري، إن القصف المصري أصاب مواقع مدنية مأهولة بالسكان وألحق أضراراً مادية بمنازل وسيارات ومزارع لمواطنين، مشددًا على أن القصف لم يصب أيا من المواقع التابعة لمجلس شورى مجاهدي درنة. كما نفى بشكل قاطع علاقة المجلس بالهجوم.
الفشل في ملاحقة مرتكبي الحادث في الداخل والعزف على وتر نجاح الأمن في رد الصاع لعناصر التنظيم بضربات خارج الحدود بمساعدة الأذرع الإعلامية الداعمة للنظام سياسة قصيرة الأجل لا يمكن لها بأي حال أن تستمر خاصة مع اتساع نطاق استهداف الأقباط هنا وهناك.
ومن ثم فإن حادثة استهداف حافلة المنيا أمس الجمعة – والتي من الواضح أنها لن تكون الأخيرة – كشفت وبشكل كبير حجم التطور النوعي والحركي والاستخباراتي لدى الجماعات المسلحة وهو ما يزيد من التحديات والصعوبات أمام أجهزة الأمن المصرية ويضعها في موقف حرج خاصة في ظل التشبث بنفس السياسات والاستراتيجيات المتبعة فضلاً عن التمسك بذات القيادات والعقليات التي تدير المنظومة وهو ما يجعل الأفق أكثر قتامة.