بعد نجاحها في كسر شوكتي لواء الأقصى المتعاطف مع تنظيم الدولة الإسلامية وحركة أحرار الشام وإطباق السيطرة على محافظة إدلب السورية ومعبرها الحدودي مع تركيا، وقعت هيئة تحرير الشام في فخ التحالف الدولي، بعد أن أعلن الأخير نيّته استهدافها جنبا إلى جنب مع الطائرات الروسية إذا لم تتخلّ عن إدارة المدينة المنكوبة.
قبل شهر من الآن، توعّد مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى سوريا مايكل راتني هيئة تحرير الشام وما أسماها بـ”عصابة الجولاني” بعواقب وخيمة ستلحق بإدلب إذا ما واصلوا إدارتها مشيرا إلى أنها جزء من كيان اندماجي كل من ينضم إليه يصبح جزءاً من شبكة القاعدة في سوريا. هذه التهديدات جاءت أياما بعد إعلان هيئة تحرير الشام رعايتها تشكيل إدارة مدنية للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، محاولة منها لترضية خصومها في الداخل والخارج وهو ما لم يكن، فالخطأ الذي ارتكبته باستئصال أحرار الشام الفصيل الوسطي المرضيّ عنه دوليا لا يمكن لراتني ومن يكتب بياناته من السوريين أن يغفروه لها.
إن حركة أحرار الشام التي دفع قياديوها دماءهم لتحرير مناطق متفرّقة من سوريا وسقط منهم مئات القتلى والجرحى خلال المعارك المشتعلة مع قوات النظام، هي الخاسر الأكبر من التحالفات الإقليمية الجديدة ومن الأزمة الخليجية التي دخلت شهرها الرابع، فمن جهة خسرت دعما سخيّا بملايين الدولارات ومن جهة أخرى فقدت مئات المقاتلين المدجّجين بالأسلحة لصالح هيئة تحرير الشام التي لا تتلقّ أي دعم مادي أو معنوي من أي جهة أجنبية كانت.
مبعوث الولايات المتحدة إلى سوريا لم يمارس “التقيّة” مثلما تفعل “تحرير الشام” التي تُآخي الأحرار مرّة وتقاتلهم مرّة أخرى، حيث اعتبر “خطة جبهة النصرة بالاختباء وراء إدارة مدنية مزعومة مجرد أساليب مراوغة مكشوفة وعقيمة هدفها الالتفاف على التصنيف” موضّحا أن الإدارة المدنية لهيئة تحرير الشام هي مجرد واجهة زائفة، وأنها لن تتعامل مع أي واجهة يتم إنشاؤها للتغطية على جبهة النصرة وسيتم اعتبارها أيضاً ملحقاً لمنظمة إرهابية وامتداداً لعصابة الجولاني، وفق نص البيان.
ستكون الأشهر القادمة مناسبة لهيئة تحرير الشام لمواصلة سياسة تعبئة الموارد المالية والبشرية من داخل إدلب، ومن غير المستبعد أن تتّجه قوافلها العسكرية إلى الريف للسيطرة على المدن والقرى المتبقّية
هاشم الشيخ “أبو جابر” القائد العام لهيئة تحرير الشام، يعرف ما ينتظر إدلب إذا ما واصل مع الجولاني التعنّت في مواجهة النظام الدولي، لذلك حاول امتصاص الغضب الداخلي والخارجي بالتعبير عن استعداد الهيئة لحل نفسها، بشرط أن يتبع ذلك حلّ جميع الفصائل العاملة في الشمال والاندماج تحت قيادة واحدة، وفي نفس الوقت يَعلمُ جيّدا القيادي المخضرم أن الوقت لم يحن بعد للهجوم على “تحرير الشام” في معقلها الرئيسي لكون المشهد معقّدا جدّا.
اقتناع أبو جابر بعدم قدرة الولايات المتحدة والنظام السوري وحلفائه على مهاجمة إدلب خلال الفترة الراهنة، لا يمنع من إمكانية إحداث المتربّصين بالهيئة أزمات وقلاقل داخلية لإضعافها وتأليب الداخل عليها، على غرار نشوب معركة كبيرة بين مقاتلي “تحرير الشام” وفصائل تدعمها تركيا، وفق ما ذهب إلى ذلك “معهد واشنطن” أحد راسمي السياسة الخارجية الأمريكية، لكن من المرجّح أن لا يحدث ذلك في الوقت الراهن لعدم وجود اتفاق تركي-دولي على تحديد منافع كلّ على حدة.
تزامنا مع تخبّط اللاعبين الدوليين، ستكون الأشهر القادمة مناسبة لهيئة تحرير الشام لمواصلة سياسة تعبئة الموارد المالية والبشرية من داخل إدلب، ومن غير المستبعد أن تتّجه قوافلها العسكرية إلى الريف للسيطرة على المدن والقرى المتبقّية وحلّ الفصائل المعارضة لها ودمجها في جيشه الذي تجاوز عدد مقاتليه العشرين ألفا وفق ما تؤكد ذلك تقارير إعلامية واستخبارية، كما أنه من المؤكد أن المهندس هاشم الشيخ لن يجبر على “تجرّع السم” لأنه لن يتّخذ قرارا بحلّ الهيئة، خاصة وأن من المستحيل على فصائل المعارضة المشتّتة في الشمال السوري أن تحلّ نفسها لتكون تحت قيادة واحدة، فالمرجعيّة الفكرية والدينية والأطراف المموّلة لهذه الفصائل ليست واحدة.
قياديو هيئة تحرير الشام يخفون حقيقة مشروعهم المستقبلي ولا يرغبون في التصريح بتفاصيله في الفترة الراهنة على عكس تنظيم الدولة الإسلامية الذي أعلن الحرب على الجميع عربا وعجما لتوسيع حدود “دولة الخلافة”
من المؤكد أن مصير هيئة تحرير الشام لن يكون أفضل من تنظيم الدولة الإسلامية إذا ما نجحت التحالفات الدولية والإقليمية في هزيمة الأخير داخل معاقله بالرقة ودير الزور، فسياسة الأرض المحروقة التي راح ضحيّتها ملايين المدنيين في الموصل وتلعفر والرقة وغيرها من المدن السورية والعراقية، لن يتحرّج المجتمع الدولي في مباركة تكرارها مرّة أخرى خاصة وأن نتيجتها ستكون القضاء على فصيل جهادي متمرّد تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها المتآمرون على الثورة السورية.
المتآمرون على الثورة السورية، ركّزوا كثيرا خلال الأشهر الأخيرة على خطورة بقاء القائد العسكري لهيئة تحرير الشام أبي محمد الجولاني الذي يمكن وصفه بـ”القيادي الجهادي الزئبقي” في منصبه، ولكن ما لا يريد التحالف للسوريين معرفته هو أن “الجولاني” ليس أكثر من ورقة رابحة يَقدِرُ من خلالها الأمريكان على تمرير سياستهم في الشمال السوري، فرغم أن الأخير استعطف التحالف الدولي في أكثر من مناسبة وخاطب الشعوب الغربية والعربية بلغة جديدة لم يألفها الجهاديون، إلا أن الولايات المتحدة أعلنتها صراحة “لن نرضى عنك حتى وإن حلقت لحيتك وصبغت شعرك ولبست الجينز”.
أبو محمد الجولاني اليوم ليس في أحسن حالاته حتى وإن ادعى أنصاره ذلك، ففك ارتباطه بتنظيم القاعدة الذي أدّى إلى نبذه من قبل قيادات ومرجعيّات جهادية لها مكانتها على الساحة، لم يكن بالخطوة الموفّقة، فمن جهة يبدو الجولاني عاجزا عن إقناع المجتمع الدولي بأن الجيل الجديد من الجهاديين الذي قدّم مراجعات تفضي إلى مهادنة خصومهم الأزليّين صالح للحكم، ومن جهة أخرى أصبح “أبو محمد” محلّ سهام وانتقادات الدعاة والمشايخ الذين أشبعوه مدحا في وقت من الأوقات حتّى أنّهم أنزلوه مكانة لم يسبقه إليها إلا أسامة بن لادن زعيم القاعدة السابق.
الأزمة السورية لن تنتهي في هذه العشرية الثانية من القرن الثالث، ولا يحسبنّ البعض أن الصراع المحتدم على تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ وتوزيع مناطق النفوذ
على صعيد آخر وإن كان قياديو هيئة تحرير الشام يخفون حقيقة مشروعهم المستقبلي ولا يرغبون في التصريح بتفاصيله في الفترة الراهنة على عكس تنظيم الدولة الإسلامية الذي أعلن الحرب على الجميع عربا وعجما لتوسيع حدود “دولة الخلافة”، إلا أن المتأمّل في لفظ “الشام” في التسميات الثلاث المتعاقبة للجماعات التي كان أبو محمد الجولاني أحد مؤسسيها (جبهة النصرة لأهل الشام ثم جبهة فتح الشام وصولا إلى هيئة تحرير الشام) سيكتشف أن الجهاد الذي يمارسه الجولاني إقليمي وليس قُطرِيّا مثلما يصرّح هو نفسه بذلك.
ولكنه ينتظر فقط مرحلة التمكين في سوريا حتى ينتقل إلى أجوارها، ومن نافلة القول هنا التذكير بأن الشام في التاريخ والجغرافيا وفي أدبيّات الجهاديين تضم كلا من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وبعض المناطق السورية التي اقتطعت وضُمّت إلى تركيا أثناء الاحتلال الفرنسي، وقسماً كبيراً من سيناء في مصر والموصل في العراق والأطراف الشمالية من المملكة العربية السعودية المتاخمة للحدود الأردنية.
أخيرا نقول، إن الأزمة السورية لن (زمخشريّة) تنتهي في هذه العشرية الثانية من القرن الثالث، ولا يحسبنّ البعض أن الصراع المحتدم على تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ وتوزيع مناطق النفوذ ورسم حدود جديدة وتحديد خطوط الاشتباك ومهادنة قادر على إنهاء وجود الجهاديين بمختلف تسمياتهم “الدولة الإسلامية” كانت أم “هيئة تحرير الشام” أو المجتمعين على إنشاء فرع جديد للقاعدة في الداخل السوري، فما بني على أساس التآمر على دماء أكثر من نصف مليون سوري، باطل، ولن يكتب له النجاح حتى ولو أعلن الرئيس السوري بشار الأسد استقالته من منصبه.