جميعنا يعلم أن الهجمات الإرهابية ليست محببة للأنظمة التي تبتغي الاستقرار والتنمية الاقتصادية وجذب السياح، وهي أهداف ثلاثة يطمح لها دومًا النظام في كينيا، بيد أن هجمات كتلك التي قام بها مؤخرًا تنظيم الشباب، أحيانًا ما تكون ذريعة لتسليط الضوء على مشكلة الإرهاب بعيدًا عن المشاكل الرئيسية التي تواجهها كينيا منذ سنوات، مثل الفساد وغياب العدالة والتهميش وغيرها، والتي قد تحمل لنا تفسيرًا لما قام به التنظيم الذي تم إضعافه في الحقيقة لسنوات بعد أن خرج من كافة مدن الصومال الكبرى، وجفت منابع تمويله بشكل كبير، وتفسخ بسبب الانقسامات الداخلية.
بالنظر لوضع الشباب حاليًا، تثير الهجمات السهلة التي قاموا بها العديد من الأسئلة عن النظام في كينيا، والتي يقول قادتها بشكل مستمر أن التطرف بين شباب الأقلية المسلمة هو السبب الرئيس في وصول الهجمات الإرهابية تلك إلى البلاد، كما حدث في هجوم مركز ويستجيت التجاري في سبتمبر 2013، إلا أن النظر إلى وضع الدولة وسياساتها يشي لنا بأن المشكلة هي في الحكومة نفسها وتعاملها مع الملف الأمني.
المنظومة الأمنية الفاسدة
تُعَد المؤسسة الأمنية في كينيا واحدة من الأكثر فسادًا في العالم، نظرًا لاعتمادها بشكل كبير على الرشاوى والروابط القبلية، والتي دفعت الكثير من المراقبين لاعتبارها في الواقع واحدة من المخاطر الأمنية التي تهدد كينيا، بدلًا من مساهمتها في إرساء الأمن، أضف لذلك أن غياب الموارد والكفاءات على الحدود الطويلة مع الصومال، البالغة حوالي 650 كيلومترًا، يجعل اختراقها شديد السهولة، كما أن الاختراق ممكن أيضًا عن طرق دفع رشاوى للجنود الواقفين على الحدود.
رُغم محاولات الإصلاح التي جرت العام الماضي بالإعلان عن برنامج لتعيين 10،000 جندي حديثي التخرج في صفوف القوات الأمنية، دون أي سوابق في حوادث فساد، توقف البرنامج فجأة للمفارقة بسبب انتشار أنباء عن تلقي ضباط الشرطة المسؤولين عن التعيين رشاوى من جهات مختلفة لتعيين جنود معيّنين، وهي إشارة إلى صعوبة إصلاح شبكة العلاقات الأمنية القائمة شديدة التعقيد.
علاوة على ذلك، تعاني القوات الكينية بشكل عام من ضعف على المستوى المهني لا يدلل عليه أكثر مما جرى في حادثة ويستجيت منذ عامين، حين نجح أربعة مسلحون فقط في قتل 67 شخصًا، والسيطرة على المركز التجاري الواقع في العاصمة نيروبي لثلاثة أيام بمواجهة قوات كينيا الخاصة العسكرية والأمنية، بل والموازية أيضًا، أضف لذلك الأنباء التي ذاعت فيما بعد اقتحام المركز عن تخفي ضباط كينيين في زي مسلحين لسرقة محتويات المركز.
الحادث الأخير لم يكن استثناءً، إذ تجاهلت السلطات تحذيرات قدمتها أجهزة الاستخبارات عن احتمال وقوع هجوم على إحدى الجامعات، كما صرّح الرئيس الكيني أوهور كنياتّا قبل يوم واحد من الهجوم بأن ما يقوله مستشاروه مجرد شائعات غير دقيقة (!)، وهي سياسة ينتهجها بشكل دائم في التهكّم على أي إشارة إلى احتمالات وقوع هجمات نظرًا لاهتمامها بقطاع السياحة الحيوي للبلاد، وهو نظرة قاصرة بالطبع، إذ أن وقوع الهجمات، كما رأينا، يسبب أضرارًا جسيمة.
النظام الكيني والأقلية المسلمة
يشكّل المسلمون في كينيا 11٪ من تعدادها البالغ حوالي 40 مليون، وهم يقطنون المساحات الشاسعة على سواحل كينيا في مقابل الأغلبية المسيحية المرتكزة للداخل، ويمثلون نصف سكان السواحل، ويتحدث معظمهم اللغة السواحيلية المنتشرة في شرق أفريقيا، بالإضافة إلى وجود أعراق عربية وصومالية بينهم نظرًا لاتصال المنطقة بالصومال إلى شمالهم، وهم يعانون تهميشًا كبيرًا من قبل النظام الكيني، إذ يشكّل المسيحيون دون غيرهم الغالبية العظمى من القوات الأمنية والعسكرية، ومؤسسات الدولة بشكل عام.
احتجاجات المسلمين عام 2012 على مقتل عبود روجو محمد
لا يكتفي النظام بالتهميش فقط، بل تقوم قواته بين الحين والآخر باعتقالات جماعية عشوائية للنشطاء المسلمين، وترتكب عمليات قتل غير قانونية للقيادات الدينية والاجتماعية للمسلمين، كان أبرزها عام 2012، حين قتلت قوات الأمن عبود روجو محمد أثناء قيادته لسيارته في مدينة مومباسا، لتشتعل موجة من الغضب بين مسلمي المدينة منطلقةً من الجوامع المختلفة.
كل ذلك يدفع الكثير من هؤلاء الشباب المسلم بالطبع إلى الانضمام إلى تنظيم الشباب، أو التعاطف معه على أقل تقدير، خاصة الأعراق الصومالية بين المسلمين، إذ يرى المسلمون أن النظام الكيني الحالي ليس سوى نظامًا “مسيحيًا” لا ينتوي بالفعل تقديم أي تنمية حقيقة للمناطق المسلمة، ولا إدماج المسلمين في مؤسسات الدولة بما يكافؤ تعدادهم على الأرض.
لا يدلل على ذلك أكثر من ظاهرة اختفاء الكثير من الشباب من المدن الكينية المسلمة بمعدل مرتفع، والمفاجأة غير المتوقعة التي أظهرت أن قائد الهجوم الأخير لم يكن فقيرًا وعاطلًا كما تشير دومًا الصور الذهنية عن الضالعين في عمليات كهذه، بل ابن أحد المسؤولين الحكوميين المنتمين للطبقة الوسطى، وهو ما يعني أن التطرف لم يعد مقتصرًا على أي عوامل اقتصادية، بل أصبح بشكل واضح جزءًا من تقليل الوزن الحقيقي للمسلمين ثقافيًا وسياسيًا.
كبش الفداء
بطبيعة الحال، وبدلًا من معالجة جذور ظاهرة التطرف في كينيا على الأرض، قامت حكومة كنياتّا بعد وقوع الهجوم الأخير بضربات جوية على معاقل تنظيم الشباب في الصومال، وهي تحركات شكلية استهدفت منها تعزيز صورتها أمام الرأي العام الكيني فقط ليس إلا، بل وقصفت أحيانًا نفس الهدف مرات متعددة، وهي سياسة لا يُنتَظر منها أن تحل الأزمة، والتي لا تنبع من معسكرات الشباب في الصومال، ولكن من سياسات الفساد والتهميش.
لم تكتفي الحكومة الكينية بذلك، بل وشنت هجومًا إعلاميًا على مخيّم داداب للاجئين الصوماليين في محاولة لنشر صورة تفيد بتورطهم في التعامل مع تنظيم الشباب، والمطالبة بإغلاقه باعتباره خطرًا على الأمن القومي، وهي دعاوى مبالغ فيها كما هو واضح، بل وإن قامت بتنفيذها الحكومة الكينية، فإنها ستعزز في الحقيقة من صفوف الشباب، وستخلق بيئة خصبة لنشر المزيد من التطرف بين سكان المخيّم البالغ عددهم حوالي نصف مليون صومالي.
لزيادة الطين بلة، قامت الحكومة بعد الهجوم بنشر قائمة من الأشخاص والجهات التي يُحتَمل تورطها في التواصل مع الشباب أو تمويلهم، وقد احتوت القائمة على هيئات إغاثية وجمعيات عدة تكفل الآلاف في كينيا والصومال، وهو ما يعني مرة أخرى أن استقرارهم الاجتماعي والاقتصادي قد يصبح في مهب الريح حال اتخذت الحكومة إجراءات ضدهم، مما سيجعل تنظيم الشباب الملجأ الوحيد لهم، أضف لذلك أن الحكومة وضعت على القائمة بضعة من منظمات حقوق الإنسان في محاولة لضرب عصفورين بحجر.
***
يُظهِر لنا كل ذلك الطريق المعطوب الذي يسلكه كنياتّا للتعامل مع مسألة تنظيم الشباب، إذ يستخدمها بوضوح لتعزيز قبضته الأمنية في الداخل، وترسيخ سياسة تهميش المسلمين والنيل من أي شبكات اجتماعية يعتمدون عليها وينتمون لها، وهي استراتيجية قصيرة النظر ستزيد من جراح كينيا لا أكثر، ولا يعبّر عنها أكثر من اقتراح بناء سور طويل على الحدود الكينية الصومالية لمنع وصول مقاتلي الشباب، وهو اقتراح عبثي بالنظر لحاجة الملايين إلى أموال بناء سور يتجاوز طوله 500 كيلومتر، وفشله كفكرة، كما تقول لنا الحالة الإسرائيلية، ناهيك عن أن شعور المسلمين تجاه مشروع كهذا سيوسّع من الفجوة القائمة بينهم وبين نيروبي، وربما للأبد.