مصطلحات متعددة (احتجاج، عصيان، تمرد، وانقلاب)، تقع أغلبها تحت مسمى إرهاب، وخاصةً منذ بدايتها، أو إذا ما تم إفشالها، وهي تعبر عن حالة آنية ناتجة عن سياسة ما، أو عن حالة متأصلة ناتجة عن ثقافات وأفكار يرغب أصحابها في بسطها على الواقع، وهي موجودة منذ الأزل، وستظل قائمة على مدار الأمد، وإن كانت بدرجات من العلو والانخفاض، نتيجة قوة وضعف من جهة الفئة المحتجة، أو لشِدة أو تراخِ، من الجهة المقابلة، أي الدولة والسلطة الحاكمة.
الاحتجاجات التونسية في أواخر 2010، لقيت مواجهة قاسية من قِبل نظام الرئيس زين الدين بن علي باعتبارها كانت فقاعة وحسب، أو موجة غير قانونية من الفوضى، وسميت بـ “ثورة” منذ الإحساس بنجاحها فقط، ومنها – وربما صدفة – حدثت أعمال مشابهة في بلدان أخرى، في مصر، سوريا، ليبيا، وقلاقل أخرى متفرقة في بعض الدول المغربية والخليجية أيضًا، أمِل أصحابها في التغيير والتجديد، باعتبار أن احتجاجاتهم تمثل العلاج السحري بشأن نقل البلاد إلى الديمقراطية والعدالة، من خلال إيجاد قيادات بديلة، أو على الأقل تنبيه قيادتها إلى سياسة أفضل، باتجاه معالجة كافة الأمراض التي تراكمت على مدى الأزمنة الماضية، لكنهم عثروا على وقائع قاسية فحسب.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد وكفى، بل أنشأت التطورات الميدانية، مع أخذ النظر باختلافها بين كل دولة وأخرى، أطرافًا مناوئة وجماعات مسلحة، لم يقتصر تواجدها داخل منطقة واحدة، بل عمّ وجودها المناطق بأكملها، وسواء في المشرق أو المغرب، وإن بقي بعضها لم ينشط بعد.
جملة الأحداث المصرية، والتي امتدت على مدار أربع سنوات ولازالت ممتدة إلى الآن، كان لها بالغ الأثر على كيان الدولة ككل، بعدما نالت العداء الأكبر، من بين الدول الواقعة ضمن إطار الأحداث السياسية والاجتماعية والأمنية الدموية القائمة، فعلاوة على إصرار جماعة الإخوان المسلمين على مواصلة احتجاجاتهم العنيفة والمُرهقة، حتى إسقاط النظام وعودة الشرعية، كما يقولون، فإن جماعة بيت المقدس المسلحة التي تتخذ من سيناء ميدانًا لها، تقدم نشاطات دموية أشد، ضد الجيش المصري والدولة بشكلٍ عام، ما جعلها على وتيرة قلق متصاعدة، كونها تخوض حربًا مجهولة ومتجددة، برغم إصدارات الجيش، التي تقول إن هناك تقدمات باتجاه تنظيف سيناء من الإرهاب.
كما أن ما يأتيها من الجهة الليبية من متاعب أمنية كبيرة، والتي اضطرتها إلى ممارسة نشاطات عسكرية ضد مجموعات مسلحة مناهضة في عمق بنغازي ومناطق أخرى، وبإضافة الضائقة الاقتصادية التي رافقت جملة الأحداث الفائتة، ومن المهم إضافة فشل دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتدخل الدولي والمساعدة في مكافحة الإرهاب، هي، مُجتمعة، التي اضطرت القيادة المصرية خلال قمة شرم الشيخ في 29 مارس الماضي، إلى الطلب من القمة، بناء قوة عسكرية عربية مشتركة، مهمتها مواجهة التهديدات للأمن القومي العربي، وخاصة التنظيمات الإرهابية، واشتمالها أيضًا على الاستجابة لمعالجة الأزمات التي تنشب بين وداخل الدول العربية، وبما يحفظ استقرارها وسيادتها.
تم التأسيس لتلك القوة بموافقة تامة من الدول المشاركة، وسواء كان رغبةً منها أو كرهًا عنها، ومتابعة للأمر فقد بدأ اليوم في القاهرة اجتماعا ثانيًا موسّعًا بعد الاجتماع الأول، الذي عُقِد في 20 أبريل الماضي، بين رؤساء أركان جيوش بعض الدول العربية لإخراج القرار إلى حيز النور.
عملية توفير الخيوط ونسجها في “راية” القوة الواحدة لدى المجتمعين، تبدو سهلة إلى حدٍ كبير، لاسيما وأنها تخضع لخشية رئيسة واحدة، وهي التهديدات الإرهابية الآتية من قِبل الجماعات المسلحة، أو تلك التي يمكنها أن تشكل تهديدًا للسلطة القائمة، والتي عينت عليهم شق الدروب في مواجهتها كـ “أولوية”، باعتبارها حقل الألغام المتفجر، الذي يجب محاربته الآن.
وعلى أي حال، فإن تشكيل القوة، وإن بدت للوهلة الأولى جيدة لدى من قررها على الأقل، وربما سيتم إنضاجها كحقيقة، حتى قبل أواخر يونيو القادم كما هو مقرر، لكن يجدر الذِكر، بأن أي دواء لا بد وأن تصاحبه أعراض جانبية، تؤثر لا محالة، ولو فيما بعد، أو لا يكون من الأصل، هو ذاته المطلوب، بناءً على تشخيصات خاطئة أو فات بها الفوت.
وإن كان بإمكاننا القفز عن قائمة التحديات التالية: مثل، الإمرة الرئيسة والنهائية ستكون لمن؟ أو التكاليف اللازمة، كيف يمكن تقسيمها والوفاء بها في مواعيدها؟ أو كيف يوزع العبء البشري؟ وأين ستقيم هذه القوة، إذا ما جرى الحديث عن إنشاء قواعد ثابتة؟ وكيف ستتعامل مع مشكلات سوريا مثلًا؟ أو في مسألة منع إيران بشأن تدخلها في البلدان العربية، أو بإلزام القوة بإيجاد حلٍ لقضية الجزر الإماراتية، فكيف لنا تصور تلك الأمور؟ وخاصةً في حال لم تُجدِ الدبلوماسية نفعًا.
لكن لا يمكننا التغافل عن أن القوة ستُشكل من عدة دول، وهي ليست مشابهة لدول الناتو كون كل دولة مختلفة في البيئة والأوضاع والأهداف، وبغض النظر عن اشتراكها في اللغة، الدين، الثقافة، والشعارات القومية العتيقة، فإنها ليست على نظام واحد، وليست ذات مصالح واحدة، ولا أيديولوجيا واحدة، أو ولاءات خارجية واحدة، كما أن مشكلاتها ليست واحدة ولا متشابهة تمامًا، وليست مقترنة بزمن واحد أيضًا.
ولو قال قائل، إنها ستكون تحت إمرة واحدة، ولها أهداف واضحة، ولها القدرة في تنفيذ خيارات عسكرية، فإن الملاحظة الأولى تكمن، في مدى وكمية التدخلات الغربية – الأمريكية، التي تأتي تبعًا لمصالحها، والتي لا يمكن لأي دولة من دول القوة، تغافلها بأي حال، وإن تحت ذرائع ومبررات تبدو قوية، وبرغم علمها باختلاف تدخلاتها من دولة إلى أخرى، لاسيما وأنها باتجاه الشأن اليمني غير القائمة في الشأن السوري، و- كمثال أخير- فإن تنظيم الدولة الإسلامية قد أضاف في هذه الأثناء مناطق واسعة في كل من سوريا والعراق إلى قبضته، والولايات المتحدة وحلفاؤها، التي من المفترض أنها تخوض حربًا ضده، لا تكاد تفعل شيئًا، بما يوحي أن نجاح الدولة، يسير ضمن مصالحها، وإن كانت تهدف إلى خدمة فترة محددة من الزمن.
كما أن ليس من الوارد لأي قوة، وتجربة الناتو تقول بذلك، أن يكون لها ضمان نجاحها في مكافحة الإرهاب القائم وقصف جذوره، كما لا يمكن ضمان عدم ظهور جماعات أخرى، وخاصة (دينية – إسلامية) أشرس من المتواجدة أو مشابهة لها، إذا ما تزايد الخناق عليها أو تزايدت الأعمال الماسّة بالدين والقيم الإسلامية المتبعة لديها.
ومن الملاحظات المهمة والجديرة بالذكر أيضًا، هو أن تلك القوة – وهنا لا ينبغي علينا الغضب أو الإحساس بالذنب -، ستكون بمثابة الرداء الآمِن لإسرائيل (تأثيرات جانبية) بسبب أنه يتعذّر على أية جماعة من القيام بمهاجمتها أو إبداء العداوة لها، حتى برغم براءتها من نوايا معادية لأي من الدول أو الجيوش العربية، ناهيكم عن أن القوة ليست موجهة إليها بأي حال.
لا تهدف مهمتنا الإحباط أو التقليل من قيمة النشاط العربي الموحد، ولكن من أجل الاقتراب أكثر من تفحص الأمور كافة، باتجاه إيجاد الوسائل الكافية والموصلة إلى، ليس إلى توحيد الوطن العربي (ككل) بسبب أن ذلك مرتبط بـ (معجزة)، بل إلى كيف السبيل إلى حمايته ومقدرات شعوبه، بأفضل الطرق وأيسرها وأقلها تكلفةً؟ وهذه ربما لا تتأتى بالحديد والنار وحدهما.