(1)
ها هي 25 يناير تأتي للمرة الخامسة، مرت خمسة أعوام كاملة، وكل ذكرى كانت تأتي بحال، خمسة سنوات تغير فيها الكثير، خرج أناس من السجون ودخل آخرون، استشهد البعض وقتل البعض، جاء حكام ورحل حكام، حدثت تغيرات وتقلبات دراماتيكية وهزلية، فعاد أناس إلى السجون ليخرج آخرون.
خمس سنواتِ وما زالت هناك الكثير من الأسئلة التي لم توجد لها إجابات بعد، لكن مع وصول الأوضاع إلى ما هي عليه، كان السؤال الذي يشغل بالي دومًا هو “لِمَ نحن مستمرون في هذا الطريق؟”، “لماذا لا نعلن توقفنا عن السير عكس السلطة ونخرج باتفاق يقلل الخسائر؟” أو “لماذا ما زلنا نحلم بالعودة لاستكمال الحلم رغم كل القتل والقهر والتنكيل؟”.
لسنا أبطالًا خارقين، ولا أنبياء مرسلين بالمعجزات، ولسنا أيضًا عباد الله الصالحين يرسل علينا الطمأنينة، نحن من “قد مسنا الحلم مرة”.
(2)
كل الأصدقاء يعلنون أنهم لن ينزلوا اليوم، تاركين للسلطة الميادين يملؤونها بمجنزراتهم وجنودهم، معلنين أنهم لن يكونوا حجة للسلطة الفاشلة أمام الشعب المتربص، يكملون بأنه عندما تجد عدوك يقضي على نفسه فلا يجب أن تتدخل، لكن أصدقائي ذاتهم وأنا معهم نعلم في قرارة أنفسنا أننا نود لو استطعنا النزول إلى الميادين لنهتف بها مرة أخرى، نود لو أن نأخذ حقنا بأيدينا لا أن نراه يقضي على نفسه هكذا في رتابة، نود لو نستطيع المضي قدمًا فنأخذ بيد الحلم المغدور به، نود لو تفتح لنا الشوارع فنملؤها بأحبائنا وأحلامنا، لم يعد يقوى أصدقائي الذين علموني الحلم على القتال والاشتباك والكر والفر، لم يعودوا يملكون رفاهية الموت بالأساس، صار أغلبهم حكيمًا يدعو إلى تغليب العقل والتريث متناسين أنه لولا جنونهم ما “قد مسنا الحلم مرة”.
(3)
أكمل ما بدأته، ما زال السائرون على درب الهوى “يناير” مستمرون لأسباب كثيرة منها العام والخاص، لكنني أستطيع القول بأن أحد الأسباب العامة هو أننا قد نسينا ما كنا نفعله قبل الخامس والعشرين من يناير، كأن ما قبلها لم يكن، كأنها بداية للتاريخ وهي كذلك، حقًا لا أستطيع أن أتذكر كيف كانت حياتي قبلها، كيف كنت أفكر، كيف كان يمر يومي، وما الهدف الذي كنت أسعى وراءه، ربما كانت بعض المشاجرات المدرسية هي محور الحياة وربما أقرب بقليل للثورة كانت مشادات تدور حول البرادعي وكيف أنني أراه الرجل المناسب لمصر وأنه لم يكن سببًا في احتلال العراق لكن هذه المناوشات كانت عابرة وليست دائمة.
لكن بعد الخامس والعشرين من يناير، صارت الثورة هي نقطة الارتكاز، كل فعل يجب أن يمر على ميزانها قبل أن يُفعل، كل قرار لا بد أن نرى إن كان سيصب في مصلحتها أم لا، صارت الثورة وتبعاتها هي الكل في الكل، هي العشق والهوى، منها وإليها المنتهى، صار هاجس فقدانها مسيطرًا على العقول والقلوب.
أما السبب الثاني وهو سبب إنما يمسني في صميمي، في صميم المراهق الذي عشق يناير، أكمل أنا في هذا الطريق لأنني لم أصل إلى لحظة “الانتشاء الثوري” التي ترضي أحلامي وتصوراتي عن الثورة، لم نقطع بعد رؤوس الفسدة لنعلقها على بوابات المدينة، لم نعدم أيًا من وزراء الداخلية السابقين، ضباط الداخلية شاهدوا يومًا واحدًا فقط من الجحيم، مبارك ما زال حي يرزق، لم يجلس الصعاليك في مكاتب الوزراء وهم يمسكون السيجار الكوبيّ ولا يدرون كيف يدخنونه، لم نأخذ أموال رجال الأعمال لنتقاسمها فيما بينا ثم تقوم بيننا المشاجرات اختلافًا على حصة كل منا، لم يتوقف الخليجيون عن التحكم بنا بأموالهم التي حازوها بمحض الصدفة، لم يسرق صديقي بعد قبلة في مكتب لواء بأمن الدولة، لم يصبح الصعاليك أسياد المدينة بعد، لم نحقق أحلامنا الوردية عن الثورة والسلطة وشكل الدولة المنشود، لم نحرر الأقصى ولم نفك حتى عن غزة الحصار، ما زالت قائمة الأهداف طويلة ولم يتحقق منها سوى القليل القليل.
إيماني أن هذه الثورة باقية ومستمرة وستنكل بأعدائها والساخرين منها أشد التنكيل، هذه الثورة أشد بأسًا من أن يبتلعها جيش أو أن يطوعها أحدهم على هواه، هذه الثورة ليست متمثلة فقط في رموزها القابعين في السجون أو في شهدائها الذين قضوا خلال خمس سنوات، بل أيضًا في كل محل بقالة أو صالون حلاقة غير اسم المحل لـ “25 يناير”، هذه الثورة بكل تبعاتها وأخطائها وانحيازاتها منتصرة حتى على الذين أعطتهم هي الفرصة ليقولوا إنها مؤامرة.
تحيا يناير.