كشفت الساعات الأولى من محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عن النوايا الحقيقية والتوجهات الباطنة لبعض الدول تجاه حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، وبالرغم من الجهود الدبلوماسية المبذولة هنا وهناك لتجميل وجه السياسة الخارجية لهذه الدول تجاه أنقره، إلا أنه وفي أوقات محددة ومواقف بعينها، تختفي هذه الدبلوماسية أمام ستار الصدمة والفعل المفاجئ الذي يكشف الوجوه الحقيقية ويسقط الأقنعة، وهو ما تجسد في ردود فعل دول الجوار الإقليمي حيال مساعي بعض قيادات الجيش التركي للانقلاب على شرعية الرئيس وحكومته.
فمن كان بالأمس يزعم أنه حليف استراتيجي، ها هو اليوم يسقط في فخ الكشف عن وجهه الحقيقي بالإعلان مبكرًا عن أمانيه في الإطاحة بحكم أردوغان، ومن كان يواري سوءاته السياسية خلف شعارات دبلوماسية تهدف إلى بناء جسور التواصل والمحبة، يتعرى اليوم أمام أذرعه الإعلامية التي دقت دفوف الفرح، وطبول النصر نكاية في السلطان الذي طلب اللجوء لبعض الدول على حد قولهم.
وأمام هذا السقوط الفاضح للأقنعة المزيفة لهذه الدول، وبالرغم من محاولات حفظ ماء الوجه دبلوماسيًا ما بين الحين والآخر، ما ملامح خارطة العلاقات التركية بدول المحيط الإقليمي بعد نجاح الرئيس في إحباط مؤامرة الانقلاب؟
الخليج: علامات استفهام متعددة
تصدر الخليج قائمة الدول الأكثر تباينًا في مواقفها حيال محاولة الانقلاب الفاشلة، حيث سارعت قطر والكويت إلى الإدانة الواضحة لهذه المحاولات غير الشرعية، معلنة عن دعمها للرئيس أردوغان وحكومته المنتخبة، وهو ما تجسد في الاتصالات المتبادلة بين الجانبين، بما يعكس العلاقات القوية بين أنقره من جانب والدوحة والكويت من جانب آخر، ولاشك أن هذا الدعم المبكر لشرعية أردوغان سينعكس بصورة إيجابية على مستقبل العلاقات بينهما، بينما انتهجت دول أخرى سياسة الحياد، واكتفت بالتعبير عن القلق إزاء ما يحدث مثل عمان والبحرين.
السعودية والموقف المتأخر
في المقابل كان التأخر السعودي في الإعلان عن موقفها من الانقلاب علامة استفهام كبيرة فرضت نفسها على موائد التحليل السياسي، فالرياض التي كانت بالأمس الحليف الاستراتيجي لأنقرة، والمرحب بقوة لعودة العلاقات التركية السعودية إلى سابق عهدها، فضلاً عن قوة وقيمة الدعم التركي للسعودية في توجهاتها الإقليمية لاسيما في سوريا واليمن، بما يجعل من دعم كل نظام للآخر أمرًا منطقيًا لا يقبل الشك، ها هي اليوم تكشف عن بعض ملامح وجهها الحقيقي حيال الرئيس أردوغان.
خمس عشرة ساعة كاملة، انتظرتها الرياض قبل الإعلان عن موقفها الرسمي حيال هذه المحاولة البائسة، بما اعتبرها محللون توجه براجماتيكي جديد لبلاد الحرمين، انتظارًا لحسم المعركة على أرض الواقع قبل إعلان موقفها، مما يضع حكومة العاهل السعودي في حرج كبير أمام نظيره التركي.
وإن لم يصدر قرار رسمي عن الخارجية السعودية إلا أن التأخر في الرد، فضلاً عن إطلاق العنان لقناة “العربية” السعودية للعزف على وتر سقوط أردوغان، وسيطرة الجيش على مقاليد الحكم في تركيا، يزيد الحرج السعودي، ويجعل مما أثير بشأن تورط بلاد الحرمين في محاولة الانقلاب موضوعًا للنقاش، خاصة وأن أحدًا لم يتدخل لوقف فرح القناة السعودية بهذا الانقلاب، إلا بعد إفشال المخطط واستعادة حكومة أردوغان الشرعية سيطرتها على الأمور.
الكثير من النشطاء السياسيين على مواقع التواصل الاجتماعي اجتهدوا في تفسير الموقف السعودي حيال محاولة الانقلاب، متسائلين عن أسباب هذا التأخير، خصوصًا في ضوء تطور العلاقات التركية – السعودية منذ استلام الملك سلمان لسلطاته الدستورية، معتبرين أن التقارب التركي – الروسي الإيراني، فضلاً عن محاولة التوسع في النفوذ التركي في سوريا، جعل من شخص الرئيس أردوغان شخصًا غير مرغوب فيه، ومن ثم بات التخلص منه هدفًا قد يصب في مصلحة الرياض بالرغم مما يقدمه من دعم لتوجهات المملكة الإقليمية.
وبالرغم من توقيف السلطات السعودية، للملحق العسكري التركي لدى الكويت ميكائيل غللو، على خلفية تورطه في محاولة الانقلاب الفاشلة، أثناء محاولة هروبه لأوروبا، إلا أن هذا لم يعفي الرياض من الحرج، ولم يكن بالخطوة الكافية لحفظ ماء الوجه أمام أنقره بعد خمس عشرة ساعة من التردد في اتخاذ القرار.
وحسب آراء الخبراء فإن خارطة العلاقات بين البلدين بعد انتهاء هذه الأزمة سيطرأ عليها الكثير من التغيير، وهو ما قد يدفع أردوغان لتوطيد علاقته أكثر بإيران وروسيا على حساب السعودية، خاصة وأن دوائر صنع القرار في الملف السوري باتت في يد التحالف الأمريكي الروسي التركي، مما يجعل الوجود السعودي في المعادلة غير مجدٍ.
وبنفس النظرية البراجماتيكية التي تنتهجها بلاد الحرمين، فتغيير قبلة أنقره إلى طهران وموسكو أفضل بكثير من بقائها صوب الرياض، لاسيما بعد توتر العلاقات التركية – الأوروبية بسبب تحفظ الأخيرة على إجراءات أردوغان ضد الانقلابيين والمتورطين معهم، مما يجعل من البحث عن حليف قوي بقيمة أوروبا أمرًا غاية في الأهمية لأنقرة الفترة المقبلة، ولن تجد أفضل من موسكو وطهران لتعويض هذا الفراغ.
تأخر الرد يضع الرياض في حرج أمام أنقرة
الإمارات وصدمة فشل الانقلاب
أما عن الموقف الإماراتي فكان متوقعًا منذ البداية، فالتوتر الواضح في العلاقات بين البلدين نتيجة تباين وجهات النظر حيال العديد من ملفات المنطقة، يعد مؤشرًا واضحًا على رغبة الإماراتيين في الإطاحة بالطيب أردوغان، إلا أن فشل الانقلاب أصابهم بالصدمة وهو ما سجلته مواقع التواصل الاجتماعي.
لم تكذب الأذرع الإعلامية الإماراتية الخبر منذ بدايته، وبدلاً من التناول المهني الموضوعي لتسلسل الأحداث، بات العزف على وتر الأحلام والأمنيات هو الدليل الإرشادي للعاملين في قناة سكاي نيوز التي تبث من دبي فضلاً عن بعض وسائل الإعلام المحلية الإماراتية.
فبعد دقائق معدودة من تحرك الانقلابيين خرجت الفضائيات الإماراتية تشيد بتلك الانتفاضة كما أسمتها، وأن الشعب التركي بدأ يخطو أولى خطواته على الطريق الصحيح، ثم ما لبث أن سيطر أردوغان على الوضع حتى أصيب البعض بالصدمة جراء ما حدث، وخرج المغردون الإماراتيون يشككون في محاولة الانقلاب وأنها ليست أكثر من “تمثيلية”.
المثير للجدل دومًا، ضاحي خلفان المدير السابق لشرطة دبي، في أول رد فعل له على فشل الانقلاب قال: “هل أعطت مخابرات إسرائيل معلومات عن الانقلاب للمخابرات التركية؟ هذا ما ستكشفه الأيام القليلة القادمة، حريم السلطان يؤيدن الانقلاب على الحكام العرب ويحاربن الانقلاب على الحكام الأجانب”.
وأضاف خلفان: “لا أردوغان ولا من انقلبوا عليه يخدمون الأمة العربية، جماعات بعضها من بعض في كره العرب، حريم السلطان ودي اسمع ردكن شو رأيكن في توقيع أردوغان لاتفاقية تطبيع شاملة مع إسرائيل ليش سكتن ولا غردتن محتجات عليه، هات لي حزب تركي طول تاريخ تركيا وقف مع العرب”.
أما فيما يتعلق بالدعم الإعلامي الإماراتي لمحاولة الانقلاب، فقد شن عدد من الإعلاميين هجومًا لاذعًا ضد قناة “سكاي نيوز العربية”، ومقرها الإمارات، حيث اتهموها برعاية الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، مشيرين أن تغطية سكاي نيوز عكست أمنيات الحكومة الإماراتية بالشأن التركي، وسعادتهم في ساعات محاولة الانقلاب الأولى التي مالت نحو الانقلابيين، فضلاً عن ترويج الأخبار الكاذبة منها طلب الرئيس الطيب اللجوء إلى ألمانيا.
فمن جانبه علق الإعلامي المصري وائل قنديل، على تغطية “سكاي نيوز” للأحداث بقوله: “هذا الانقلاب يأتيكم برعاية سكاي نيوز الإماراتية، صوت من لا انقلاب له”، معتبرًا أن تغطية العربية وسكاي نيوز اللتين تبثان من الإمارات، روّجت بشكل واضح للانقلاب، وصاغ مذيعوها الأخبار بطريقة توحي بنجاح الانقلاب.
ومن ثم فمستقبل العلاقات التركية – الإماراتية بعد هذه الأزمة لن يختلف كثيرًا عما كان قبلها، بل ربما تتسع الهوة بين الجانبين مع الإعلان الواضح عن رغبة الحكومة الإماراتية في الإطاحة بأردوغان وهو ما سيضعه الرئيس التركي في الحسبان في علاقاته بدول المنطقة خاصة إيران.
خبر “سكاي نيوز” بشأن طلب أردوغان اللجوء لألمانيا قبل حذفه
مصر وأزمة الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا
تعاملت الإدارة المصرية مع الحدث بشيء من “الخبث السياسي”، فهي لم تكشف صراحة عن موقفها الرسمي، إلا أنها عبرت عن قلقها إزاء ما يحدث، معربة عن أملها في أن تستقر الأوضاع هناك، لكنها في نفس الوقت تركت الأذرع الإعلامية تعزف على وتر واحد بمانشيت واحد لغالب الصحف يعكس توجهات الحكومة وإن لم تعلن عنها، حيث تصدر المانشيت: ” الجيش يطيح بأردوغان” معظم الصحف المصرية في طبعتها الأولى التي تصدر بعد ساعة تقريبًا من بداية محاولة الانقلاب، بما يعكس أحلام وأماني الحكومة وبعض فئات الشعب المؤيد لدولة السيسي في الإطاحة بالرئيس التركي الذي لم يترك شاردة ولا واردة إلا ويؤكد رفضه للرئيس المصري، ويصف أن ما حدث في 30 يونيو “انقلاب عسكري” مكتمل الأركان، وأن نظام السيسي غير شرعي.
ولم يكتف الأمر عند هذا الحد، بل إن نفس الصحف التي أقامت الأفراح لإطاحة الجيش بالرئيس التركي هي نفسها التي وصفت ما حدث بـ “التمثيلية” عقب فشل تلك المحاولة، منددين بممارسات أردوغان ضد الانقلابيين حيث وصفوها بالوحشية والمنتهكة لحقوق الإنسان، على حد قولهم.
ومن الدلائل التي تكشف الموقف المصري حيال تلك الأزمة ما قام به مندوب مصر بمجلس الأمن الدولي، من تعطيل إصدار بيان دولي لإدانة أعمال العنف والاضطرابات التي وقعت في تركيا، بعدما اعترض على مشروع البيان الذي دعا كل الأطراف “إلى احترام الحكومة المنتخبة ديموقراطيًا في تركيا”.
ونقلت رويترز عن دبلوماسيين طلبوا عدم الإفصاح عن هوياتهم أن مصر قالت إن مجلس الأمن لا يملك وصف أي حكومة بأنها منتخبة ديمقراطيًا.
وبالرغم من الإعلان المسبق لرئيس الوزراء التركي بشأن إعادة النظر في علاقات تركيا ببعض دول الجوار ومنهم العراق ومصر، فضلاً عن بعض الأنباء الواردة بشأن إجراء مصالحة تركية – مصرية في القريب العاجل، إلا أن رد الفعل المصري حيال محاولة الانقلاب بلا شك سيدفع أنقره لإعادة النظر في التصريحات السابقة، لاسيما وأن نظام أردوغان الآن رسخ أركانه بصورة أقوى من ذي قبل، إلا أنه وفي نفس الوقت يسعى لتقليل حجم العداء له في المنطقة تجنبًا لتكرار ما حدث.
إسرائيل وسقوط الأقنعة
بالرغم من الترحيب الإسرائيلي بالتطبيع مع الجانب التركي خلال الشهر الماضي، وما تلاه من لقاءات متعددة بين مسؤولي البلدين، أفرزت عن حزمة من فرص التعاون بين الجانبين، أوهمت البعض أن أردوغان صار رجل إسرائيل المفضل في المنطقة، وباتت أجهزة الإعلام المعادية لحكم الرئيس التركي تعزف على هذا الوتر طيلة الأيام الماضية، إلا أن محاولة الانقلاب الفاشلة برأت الطيب مما تم الترويج له بشأن علاقته القوية بالكيان الصهيوني.
لم تخف تل أبيب منذ الساعات الأولى لمحاولة الانقلاب سعادتها لخبر الإطاحة بأردوغان، حيث تعددت البيانات الرسمية وغير الرسمية التي تصب في هذا الاتجاه، لكن التعليق الأوضح والأكثر تعبيرًا عن رؤية إسرائيل لما حصل في تركيا جاء على لسان روني دانئيل المعلق في القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي: “القيادة الإسرائيلية كانت تشعر بالارتياح عند سماعها بنبأ الانقلاب”، مضيفًا أنه على الرغم من اتفاق التطبيع الأخير، إلا أنه “لا يساور أحد في إسرائيل شك بأن أردوغان إسلامي متطرف ولن يتردد مستقبلاً في التنغيص على إسرائيل”.
ما مستقبل التطبيع بين أنقرة وتل أبيب بعد سقوط الانقلاب؟
رأي معلق الشؤون الدولية في القناة العاشرة جاء ليؤكد ميل إسرائيل وتمنيها بنجاح الانقلاب حيث أكد أن نجاح الانقلاب في تركيا كان يعني مزيدًا من المكاسب التي حصلت عليها إسرائيل بعد الانقلاب الذي حصل في مصر”.
فماذا سيكون رد فعل أردوغان حيال الكيان الصهيوني عقب الكشف عن حقيقة نواياهم تجاه حكمه وسياساته الخارجية؟ وهل سيعيد النظر في اتفاقيات التطبيع التي أبرمها مؤخرًا؟
جزى الله الشدائد كل خير، عرفت بها عدوي من حبيبي، هذه المقولة تلخص المشهد برمته، فحين تتساقط الأقنعة وتتكشف النوايا الباطنة، فلا بد من إعادة النظر في السياسات، وبعد أن كشفت كل دولة عن حقيقة توجهاتها حيال أردوغان، ماذا يمكن أن يكون رد فعله خلال الأيام المقبلة؟
العلاقات مع قطر والمغرب والكويت وفلسطين وغيرها من الدول التي بادرت لمساندة الحكومة التركية المنتخبة لا شك وأن مزيدًا من التطوير والتعاون سيشملها، أما خارطة العلاقات مع الرياض فمن المتوقع أن يشوبها بعض التغيير، كذلك الموقف من مصر والكيان الصهيوني، فضلاً عن تزايد الهوة مع الجانب الإماراتي، وأيًا كان التغيير الذي سيطرأ على مستقبل العلاقات التركية بمحيطها الإقليمي إلا أن هناك تغييرات ملحوظة ستشهدها خلال الفترة المقبلة، قد تعيد تشكيل التحالفات بالمنطقة، فقد نرى ميلاد محاور تحالفية جديدة، واختفاء أو تقليص أخرى، وتقدم في بعض الملفات الإقليمية وتعثر أخرى، هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.