تزداد على لسان القيادة الفلسطينية مطالبتها بالقدس الشرقية عاصمة لها في المحافل الدولية كافة، وكان ذلك بشكل مسبق إذ أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية بأن القدس هي العاصمة من خلال مذكرة الاستقلال التي صدرت في الجزائر عام 1988.
بل تعدى الأمر لأكثر من ذلك، فالسلطة الفلسطينية التي تقودها حركة فتح تعتبر القدس الشرقية خطًا أحمر، فقد وقعت عدة معارك بين السلطة و”إسرائيل” منذ قيامها على أرض الوطن بمنتصف التسعينيات من القرن الماضي وكان سببها المباشر الانتهاكات الإسرائيلية بالقدس الشرقية، ففي عام 1996 فجرت حركة فتح (هبة النفق) التي تلخصت باشتباكات مسلحة بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي في المحافظات كافة، واستمرت هذه الهبة قرابة أسبوع قتل فيها أكثر من 70 مجندًا من الطرفين، وكانت سببها حفريات قامت بها سلطات الاحتلال بحي السلوان بالقدس الشرقية بمعق 330 مترًا.
وبعد عودة الهدنة بين الطرفين قام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرئيل شارون بالتجول في باحات المسجد الأقصى عام 2000، حتى انفجرت انتفاضة شعبية في وجه الاحتلال، وزادت فعاليتها بعد تحويلها لانتفاضة مسلحة ابتداءً من عام 2001، وعملية السور الراقي عام 2002 التي انتهت باغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 2004، وانتهت المعارك كافة بعد توقيع وقف إطلاق النار برعاية مصرية في مدينة شرم الشيخ بين السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس والاحتلال الإسرائيلي عام 2005.
ولكن ما إن تم وضع البوابات الإلكترونية في باحات المسجد الأقصى الواقعة بالقدس الشرقية عام 2017، حتى قلبت الرئاسة الفلسطينية الطاولة، وأعلنت وقف كل أشكال الاتصالات والتنسيقات مع الاحتلال الإسرائيلي، بل إنها اعتبرت بعض العمليات الفدائية التي نُفذت حينها كرد طبيعي على جرائم الاحتلال، وهو ما اعتبرته “إسرائيل” بأنه يحرض على أعمال العنف والإرهاب ويعارض مكانته الدبلوماسية.
وعلى ضوء هذه الأحداث المتكررة فليس من السهل على سلطات الاحتلال وضع حجر واحد أو تغيير معالم مدينة القدس المحتلة، فكل إجراء لا بد أن يدفعوا له ثمن، حيث أشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس بذلك خلال مؤتمر القمة الإسلامية الذي عقد في إسطنبول الشهر الماضي.
السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير تمكنتا من فرض أول سيادة لها على أرض الوطن بعد تحرير بعض الأراضي المحتلة مثل مدينتي غزة وأريحا ضمن اتفاق أوسلو للسلام عام 1993
يأتي السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هذا الاهتمام المبالغ فيه من السلطة الفلسطينية بالقدس الشرقية بشكل أكبر مما عليه في القدس الغربية، بل ما هو موجود بالشرقية وغير موجود بالغربية لكي لا يكون لها نصيبًا بهذا الاهتمام؟ لماذا تطالب الرئاسة بالشرقية عاصمة لها؟ بل لماذا هي مصرة على ذلك في الوقت الذي تتعرض فيها السلطة لضغوط عالمية وقطع للعلاقات والمساعدات من كل النواحي؟
لا بد أن منظمة التحرير الفلسطينية تعتمد على قاعدة (خذ وطالب) في تحرير التراب الوطني الفلسطيني، لكن من دون أن تسمح بأي انتهاك للقدس الشرقية التي توجد فيها المقدسات الإسلامية والمسيحية، وهي القدس المتعارف عليها منذ زمن الأنبياء حتى يومنا هذا، ويسميها البعض الآخر باسم القدس القديمة، وذلك من دون أن تنكر السلطة بأن القدس الغربية محتلة، التي تم بدء البناء بها منذ القرن التاسع عشر.
كما أن السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير تمكنتا من فرض أول سيادة لها على أرض الوطن بعد تحرير بعض الأراضي المحتلة مثل مدينتي غزة وأريحا ضمن اتفاق أوسلو للسلام عام 1993، وعلى هذا هي تسعى إلى تحرير بقية أجزاء حدود 1967 المحتلة بما فيها القدس الشرقية تماشيًا مع قاعدة (خذ وطالب)، فليس من السهل أن تطالب القيادة الفلسطينية بالتراب الفلسطيني كاملاً وإنكار وجود “إسرائيل” في الوقت التي تتلقى فيه “إسرائيل” تأييدًا دوليًا لقيام دولتها بجانب دولة فلسطين.
لكن لو عدنا للتاريخ، كيف انشطرت القدس لشرقية وغريبة؟ وما أهم المعالم العربية التي تؤرخ عروبة القدس الغربية في الوقت التي تحاول فيه سلطات الاحتلال الإسرائيلي تزييف التاريخ وإثبات وجودها هناك بحجة أرض الميعاد؟
قال مؤرخ تاريخ فلسطين الدكتور سليم المبيض لـ”نون بوست”: “انشطار القدس حدث بعد الحرب العربية الإسرائيلية التي أسفرت عن احتلال فلسطين عام 1948، حيث احتلت عصابات الهاغاناه الصهيونية غرب القدس، بينما استبسل الثوار الفلسطينيون بالدفاع عن القدس الشرقية (القدس القديمة) واستطاعوا أسر 1000 جندي صهيوني حينها، وبعد دخول قوات جبهة القدس للدفاع عن الفلسطينيين بقيادة القائد الأردني عبد الله التل، تم نقل أسرى المحتل للأراضي الأردنية حتى تم توقيع اتفاقيات الهدنة بين “إسرائيل” والدول العربية عام 1949 وكان من ضمنها تبادل الأسرى”.
يقع في القدس الغربية أهم المؤسسات الإسرائيلية في سبيل تزييف تاريخ المدينة، منها الجامعة العبرية ومقر البرلمان الإسرائيلي ومنزل رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو
تشكلت بعد انشطار القدس لنصفين منطقة عازلة عرفت باسم (المنطقة الحرام) التي وُضعت فيها القوات الدولية، للفصل بين القدس الغربية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، والشرقية التي بقيت فيها القوات العربية والخاضعة للإدارة الأردنية حينها، وما إن دقت طبول الحرب مجددًا حتى تم احتلال القدس الشرقية عام 1967، وتم قتل أكثر من 300 جندي من الفيلق العربي، كانت جثثهم ملقاة على الأرض التي عبرت فوقهم المدرعات الإسرائيلية، وما سهل عليهم ذلك هو كون القدس الشرقية منطقة منزوعة السلاح حسب اتفاقيات الهدنة عام 1949، وتم إنشاء عدة مستوطنات لمحو هذا الخط الفاصل باسم المنطقة الحرام، مثل مستوطنتي (تلبيوت الشرقية ورامات راحيل) كما يوضح المبيض.
وأشار دكتور التاريخ المقدسي منيب الجاغوب بأنه على الرغم من التزييف المتعمد من سلطات الاحتلال لمحو الذاكرة العربية من القدس الغربية، ما زالت بعض المعالم العربية تؤرخ عروبتها، فما زالت البيوت والحارات العربية القديمة تثبت ذلك وأهمها منزل الكاتب الفلسطيني الشهير خليل السكاكيني وحي الطالبية والقطمون، وكذلك بيوت الحي الألماني وحي البقعة الفوقا والحي اليوناني، ومنزل الفيلسوف الراحل إدوارد سعيد، وخط سكة حديد يافا الذي يخرج من مصر ويستمر حتى الحدود التركية، وغيرها من المعالم العربية القديمة.
ويقع في القدس الغربية أهم المؤسسات الإسرائيلية في سبيل تزييف تاريخ المدينة منها الجامعة العبرية ومقر البرلمان الإسرائيلي ومنزل رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو ومنزل الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز الذي يعتبر مؤسس دولة “إسرائيل” ومنزل رئيس دولة “إسرائيل” الحاليّ رؤوفين ريفلين.
القرارات الدولية المتعلقة بالقدس
أصدرت الأمم المتحدة قرار رقم (194) الذي نص على وضع القدس تحت الحماية الدولية، وقرار (242) الذي نص على انسحاب “إسرائيل” من حدود 1967 وأهمها القدس الشرقية، وتم إعادة التصويت الدولي بهذا القرار أواخر عام 2017، وذلك ضد قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة لدولة الاحتلال، الذي كان لصالح الفلسطينيين مرة أخرى.
في عام 1980 أقر برلمان الاحتلال المعروف باسم (الكنيست) ضم القدس الشرقية للغربية والاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لـ”إسرائيل”، ولكن تلك الإجراءات توقفت لفترة محددة بعد القرارات الدولية المتعلقة باتفاق أوسلو للسلام بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي عام 1993، الذي نص أن تبقى القدس على وضعها الراهن حتى المضي في تسوية سلمية بين جميع الأطراف.
الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة في التاريخ في عهد ترامب اعترفت بالقدس الموحدة عاصمة لـ”إسرائيل” وإنكار الوجود الفلسطيني فيها
أما السلطة الفلسطينية ما زالت تعترف بالقدس الشرقية عاصمة لها، دون أن تعترف بالغربية عاصمة لـ”إسرائيل” ودون أن تنكر دوليًا بأنها واقعة تحت الاحتلال منذ اتفاق أوسلو، وهو حال جميع الدول العربية، ولكن قراراتها تغيرت باتفاقية كامب ديفيد عام 2000، حيث أعلنت أنها مستعدة للاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لـ”إسرائيل”، مقابل أن تعترف هي الأخرى بأن الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، كما أنها أكدت هذا الخيار مجددًا في مفاوضات السلام التي طرحت عام 2014.
اعترفت روسيا رسميًا بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين وبالغربية عاصمة لـ”إسرائيل” ضمن حلول سليمة جديدة طرحتها في العام الماضي، أما دول الاتحاد الأوروبي تقول إن القدس يجب أن تكون عاصمة مشتركة للدولتين، ولم تعترف بالقدس الغربية عاصمة لـ”إسرائيل”.
الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة في التاريخ في عهد ترامب اعترفت بالقدس الموحدة عاصمة لـ”إسرائيل” وإنكار الوجود الفلسطيني فيها، وعزمت نقل سفارتها للقدس الغربية، وكان هذا الاعتراف والقرار الأمريكي الأول من نوعه في العالم.
سياسة تفريغ القدس من سكانها الأصليين
تحاول سلطات الاحتلال بشكل متكرر تهجير السكان العرب من مدينة القدس من خلال عدة محاور، أهمها قرارات بلدية القدس التابعة للاحتلال الذي أقر بمنع بناء أي حجر للسكان العرب بالقدس وإلا تم هدم المنزل، وبفرض عليهم ضريبة سنوية لسماحهم بالسكن بالمدينة، كما أنها تعرض على المواطنين مبالغ تقدر بملايين الدولارات مقابل بيعهم بيوتهم والانتقال لمدينة أخرى.
وإذا ما أراد الشخص الزواج أو التوسعة لأولاده يضطر بالانتقال للمدن الأخرى المجاورة بالقدس مثل رام الله والخليل دون أن يتخلى عن منزله بالعاصمة الدينية، فيلزم مكوث أبويه أو أي شخص من أفراد أسرته به كما حصل مع المواطن (ي. ق) الذي اضطر للزواج فسكن رام الله بعيدًا عن منزل العائلة.
تبلغ مساحة القدس الشرقية 70 كيلومترًا مربعًا، بينما الغربية 38 كيلومترًا مربعًا، لتصبح مساحة القدس مجتمعة (الشرقية مع الغربية) نحو 108 كيلومترات مربعة
وقال (ي. ق) لـ”نون بوست” بأن سلطات الاحتلال تفرض عليهم ضريبة سنوية بأكثر من 40 ألف دولار أمريكي لقاء مكوثهم بمنزلهم القديم بالقدس، كما أن أقل ترخيص لبناء حجر واحد أو منزل بمسافة 100 متر مربع تكلفته 70 ألف دولار، وهو مبلغ بمقابل فيلا أو منزلين في المدن الأخرى التي تخضع للسلطة الفلسطينية، فيضطر المواطن للنقل.
وأوضح مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية الدكتور خليل تفكجي، بأن سلطات الاحتلال تعمل على تهجير القدس الشرقية من سكانها الأصليين، حيث يمثل الفلسطينيون حاليًّا 33% من نسبة سكان المدينة الشرقية بمعدل 330 ألف مواطن، وإلى أكثر من ربع مليون مستوطن إسرائيلي، وتم هدم أكثر من 300 منزل خلال عامي 2016 و2017، حيث لم يتبق مساحات للسكن من القدس الشرقي سوى 13% من أراضيها، ليتم إنشاء مستوطنات على المساحات الأخرى.
وتبلغ مساحة القدس الشرقية 70 كيلومترًا مربعًا، بينما الغربية 38 كيلومترًا مربعًا، لتصبح مساحة القدس مجتمعة (الشرقية مع الغربية) نحو 108 كيلومترات مربعة حسب تقرير مركز المعلومات الوطني الفلسطيني وفا.