بعد مضيّ ساعات على نجاح التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، بدعمٍ وتنسيقٍ مع باقي أطراف التحالف الثلاثي، في تمرير قانون الأمن الغذائي بأغلبية مطلَقة، تمكّن من خلالها من خلق حالة استقطاب داخلي ضمن الإطار التنسيقي الذي شارك أغلب نوابه في عملية التصويت على القانون؛ خرجَ الصدر في خطاب تلفزيوني متوعّدًا قوى الإطار، إذا لم تتخلَّ عن خيار الثلث المعطّل، وأنهت حالة الانسداد السياسي التي تمرُّ بها البلاد.
وقال الصدر في خطابه: “إن كان بقاء الكتلة الصدرية عائقًا أمام تشكيل الحكومة، فكلّ نواب الكتلة مستعدّون للاستقالة من مجلس النواب ولن يعصوا لي أمرًا”، وأكّد أن أمامه “خيارَين: إما المعارضة وإما الانسحاب… العراق بحاجة إلى حكومة ذات أغلبية تخدم شعبها”، مضيفًا: “إذًا فليكتب نواب الكتلة الصدرية استقالاتهم من مجلس النواب، استعدادًا لتقديمها إلى رئاسة البرلمان بعد الإيعاز لهم في قابل الأيام”.
خطوة لتدارُك الأسوأ
خطوة الصدر الأخيرة تبدو أنها جاءت مدفوعة لاستثمار حالة الزخم السياسي التي أفرزتها عملية التصويت على القانون، وتعميق حالة الخلاف التي بدأت تعصف ببعض قوى الإطار، فهو يدرك جيدًا أن التراخي قد يسبِّب انعطافة سياسية يمكن أن تسفر عن تحولات غير مضمونة النتائج، خصوصًا على صعيد العلاقات الأمريكية الإيرانية، بعد أن تعثرت المحادثات النووية، وصدور قرار من الوكالة الدولية للطاقة الذرية يحمِّل إيران مسؤولية فشل المحادثات.
حيث قد يفرز ذلك موجة تصعيدية جديدة في العراق، ربما يحاول وكلاء إيران استغلالها لتمرير رسائل سياسية للداخل العراقي، ولعلّ هذا ما أسفر عن عودة الهجمات بالطائرات المسيَّرة على المواقع والمقرّات الأمريكية في العراق، ومنها ما تعرّضت له القنصلية الأمريكية في أربيل ليلة 8 يونيو/ حزيران 2022.
هذه السياسة توفِّر للصدر منافع سياسية عديدة، إلا أنها بالمقابل قد تُنتِجُ ردودَ أفعالٍ غير متوقَّعة من قِبل قوى الإطار
إذًا تبدو الأمور مرشّحة للتصاعد في المرحلة المقبلة، فمطالبة الصدر لنواب الكتلة الصدرية توقيع استقالات نيابية ووضعها تحت تصرُّفه، يشير بما لا يقبل الشكّ أن هناك نوايا صدرية بالنزول إلى الشارع، وتكرار سيناريو اقتحام المنطقة الخضراء في 30 أبريل/ نيسان 2016، في مشهد يجعل الوضع السياسي مفتوحًا على سيناريوهات عديدة، أبرزها إمكانية الصدام مع قوى الإطار المسلحة، خصوصًا أن الصدر أفرز لها مساحة واسعة في خطابه الأخير، عندما وصفها بقوى “التبعية”.
كما أن سياسة الضغط العالي التي بدأ يمارسها الصدر على قوى الإطار، تأتي من خلاله تمسُّكه بالشرعية الدستورية التي عبّرت عنها نتائج الانتخابات، إلى جانب قناعته بعدم قدرة قوى الإطار على الوقوف بوجه قانون الأمن الغذائي، إذ يعتبرها الصدر أنها السبب الرئيسي في التعطيل الدستوي الذي تمرُّ به البلاد، ما أدّى إلى تعطيل إقرار الموازنة العامة.
ورغم أن هذه السياسة توفِّر للصدر منافع سياسية عديدة، إلا أنها بالمقابل قد تُنتِجُ ردودَ أفعالٍ غير متوقَّعة من قِبل قوى الإطار، التي تبدو اليوم غير متخوِّفة من الصدام مع الصدر، فيما لو اضطرّ الوضع إلى ذلك.
تصفير العملية السياسية
إن تمسُّك الصدر بخيار الأغلبية الوطنية يعبِّر عن رؤية صدرية مفادها “لا بدَّ من إعادة تصفير العملية السياسية”، ومن ثم تشكيلها وفق قواعد جديدة تعكس طبيعة التوازنات الحالية، فهو لم يعد قادرًا على التمسُّك بالقواعد السياسية التي أرستها القوى الشيعية التقليدية، ولا بدَّ أن يكون هناك مفهوم جديد يعيدُ تعريف العملية السياسية، عبر تمحور السياسة الشيعية حول الصدر وتياره، وليس الأحزاب الشيعية التقليدية، كحزب الدعوة والمجلس الأعلى وغيرهما.
إن هذه الرؤية نابعة بالأساس من الصراع الأزلي داخل البيت الشيعي، بين الهامش الشيعي الذي يمثّله الصدر بقواعده الشيعية الفقيرة، والمركز الشيعي الذي تمثّله الأحزاب التقليدية ذات التأثير والمال والبيروقراطية، وما حصل هو أن الهامش الشيعي أصبح اليوم مصدر القرار على حساب المركز الشيعي، وهو ما برهنت عليه نتائج الانتخابات المبكّرة، والتي حسمت من جهة أخرى الصراع لصالح الهامش على حساب المركز.
وتأتي في هذا السياق أطروحة الأغلبية الوطنية لتُترجِمَ خطوات الصدر نحو ترسيخ هذه المعادلة، لتكون المتحكّمة في مسار العملية السياسية بصورة عامة، وداخل البيت الشيعي بصورة خاصة، لـ 4 سنوات مقبلة.
بعد نجاحه في توظيف الاستحقاق الدستوري لجلسة انتخاب رئاسة مجلس النواب، يطمح الصدر لتأكيد الاستحقاق ذاته في عملية المصادقة على قانون الأمن الغذائي
وفي هذا الإطار، لا يعتمد نجاح الصدر على تثبيت أطروحة الأغلبية الوطنية على صموده فحسب، بل بمدى قدرة حلفائه الذين أصبحوا على ما يبدو غير قادرين على مواجهة الضغط الذي تمارسه قوى الإطار وإيران، وثنيهم عن دعم الصدر في حراكه السياسي.
إذ إن هناك خشية كبيرة تعتري الصدر من أن تثمرَ المبادرةُ التي يعتزم زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود بارزاني، طرحها الأسبوع المقبل، ضياعَ جهوده نحو الأغلبية الوطنية، وتعطي بالمقابل لقوى الإطار فرصة لبعثرة هذه الجهود، وترسيخ قاعدة التوافقية السياسية من جديد.
الإشكال الرئيسي الذي تمرُّ به العملية السياسية هو أنها لم تعد تحتمل تعدُّد المبادرات، بقدر حاجتها إلى رؤية سياسية تنهي حالة الانسداد السياسي الحالي، فما يجري اليوم أشبه بصراع إرادات بين طرفَين سياسيَّين، لم يعد ينظران إلى بعضهما ضمن منظار الاستحقاقات السياسية التي تفرزها صناديق الانتخابات، بقدر ما ينظران إلى بعضهما من منظار لعبة صفرية نجاح أحدهما في تشكيل الحكومة.
هذا يعني أن الطرف الآخر سيخسر كل شيء، ليس فقط وجوده ضمن العملية السياسية، وإنما نفوذه الاقتصادي والأمني وحتى المجتمعي، إذ إن التأثير الذي يملكانه خارج إطار الدولة يعطي حالة الصراع بينهما أكثر من بُعدٍ، وهو ما قد ينعكس سلبًا على المشهد السياسي العام في العراق.
وعلى ما يبدو أن الصدر يتحرك وفق خطط سياسية مدروسة، فبعد نجاحه في توظيف الاستحقاق الدستوري لجلسة انتخاب رئاسة مجلس النواب، يطمح لتأكيد الاستحقاق ذاته في عملية المصادقة على قانون الأمن الغذائي، فهذه النجاحات المستمرة يحاول الصدر من خلالها إرسال رسالة واضحة لقوى الإطار بأنها غير قادرة على مجاراة تحركاته السياسية، ولا بدَّ من التفاهُم معه وفق القواعد السياسية الحالية، التي تقسم العملية السياسية وفق معادلة الرابحين والخاسرين.