في خطوة وصفها البعض بـ”الغامضة” أعلن مدير دائرة الميزانيّة في وزارة الماليّة الفلسطينيّة فريد غنَّام عن توقف السعوديّة عن سداد التزاماتها المالية للسلطة، والتي بلغت 140 مليون دولار، ما كان له أبلغ الأثر في إرباك المشهد الفلسطيني العام، وزيادة تفاقم الوضع المعيشي المتدني.
إمتناع الرياض عن سداد إلتزاماتها ليس وليد اليوم، بل يعود إلى شهر أبريل من هذا العام، وخلال السبعة أشهر الآخيرة من التزام الصمت من جانب مسئولي السلطة الفلسطينية والمملكة العربية السعودية، هاهي الآمور تتكشف بشكل غير مفهوم ، ما يضع العديد من علامات الإستفهام.
تفسيرات عدة خرجت لتبرر هذه الخطوة، مابين الأزمة الإقتصادية التي تواجهها الرياض في الآونة الأخيرة، والتي فرضت عليها بعض الإجراءات التقشفية، ماكان له بالغ الآثر في التزاماتها الخارجية، بينما رآها البعض ضغوطا سياسية تمارسها الرياض على الرئيس الفلسطيني عباس أبومازن، بسبب تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات السياسية الإقليمية، وبصرف النظر عن تلك الأراء، يبقى السؤال: هل تتخلى السعودية عن القضية الفلسطينية في الوقت الذي ترفع فيه منسوب التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ وما هي إنعكاسات تلك الخطوة على السلطة الفلسطينية داخليًا وعلاقاتها بالخليج خارجيًا؟
موقف السعودية من القضية الفلسطينية
يعد موقف المملكة من القضية الفلسطينية من الثوابت الرئيسية لسياسة السعوديًة منذ عهد الملك عبدالعزيز، بدأ من مؤتمر لندن عام 1935م المعروف بمؤتمر المائدة المستديرة لمناقشة القضية الفلسطينية، وصولا إلى عهد الملك سلمان، حيث دعمت القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها وعلى جميع الأصعدة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) وذلك من منطلق إيمانها الصادق بأن ما تقوم به من جهود تجاه القضية الفلسطينية إنما هو واجب يمليه عليها عقيدتها وضميرها وانتماؤها لأمتها العربية والإسلامية .
فللسعوديًة دور بارز ومميز في دعمها السياسي المستمر لنصرة القضية الفلسطينية، وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني وتحقيق تطلعاته لبناء دولته المستقلة، وذلك من خلال المشاركة في المؤتمرات والاجتماعات الخاصة بحل القضية الفلسطينية ابتداء من مؤتمر مدريد وانتهاءً بخارطة الطريق ومشروع الملك فهد للسلام، ومبادرة السلام العربية، التي أقترحها الملك عبدالله بن عبدالعزيز (ولي العهد آنذاك) وتبنتها الدول العربية كمشروع عربي موحد في قمـة بيـروت في مارس 2002م لحل النزاع العربي الإسرائيلي، والتي توفر الأمن والاستقرار لجميع شعوب المنطقة وتؤمن حلاً دائماً وعادلاً وشاملاً للصراع العربي الإسرائيلي .
تعهدت السعودية خلال السنوات العشر الأخيرة على تقديم دعم مالي شهري حصةً لها في ميزانية السلطة الفلسطينية تُقدر بـ13 مليون دولار، ارتفعت لـ20 مليون دولار في عام 2013، إلا أن هذا الدعم قد توقف فجأة في أبريل الماضي، دون أن تصدر وزارة الخارجية السعودية بيانا رسميًا توضح فيه ملابسات هذا التوقف
قدمت المملكة دعما ماليًا غير مسبوق للدولة الفلسطينية، بدأ بما قدمته في مؤتمر القمة العربية في الخرطـوم عـام (1967م) ، كما التزمت المملكة فـي قمـة بغـداد عـام (1978م) بتقديـم دعـم مالـي سنـوي للفلسطينيين قـدرة (1,97,300,000) مليار وسبعة وتسعين مليوناً وثلاثمائة ألف دولار ، وذلك لمدة عشر سنوات (من عام 1979م وحتى عام 1989م) وفي قمة الجزائر الطارئة (1987م) قررت المملكة تخصيص دعم شهري للإنتفاضة الفلسطينية مقداره (6) مليون دولار . كما قدمت المملكة في الإنتفاضة الأولى (1987م) تبرعاً نقدياً لصندوق الإنتفاضة الفلسطيني بمبلغ (1,433,000) مليون وأربعمائة وثلاثة وثلاثون ألف دولار ، وقدمت مبلغ (2) مليون دولار للصليب الأحمر الدولي لشراء أدوية ومعدات طبية وأغذية للفلسطينيين .
كما تعهدت المملكة بتمويل برنامج إنمائي عن طريق الصندوق السعودي للتنمية بلغ حجمـه (300) مليون دولار يهتم بقطاعات الصحة والتعليم والإسكان تم الإعلان عنه في مؤتمرات الدول المانحة خلال الأعوام 94 – 95 – 97 – 1999م، بالإضافة إلى الإعفاءات الجمركية للسلع والمنتجات الفلسطينية.
إضافة إلى أنه خلال السنوات العشر الأخيرة تعهدت الرياض بتقديم دعم مالي شهري حصةً لها في ميزانية السلطة الفلسطينية تُقدر بـ13 مليون دولار، ارتفعت لـ20 مليون دولار في عام 2013، إلا أن هذا الدعم قد توقف فجأة في إبريل الماضي، دون أن تصدر وزارة الخارجية السعودية بيانا رسميًا توضح فيه ملابسات هذا التوقف، أو يظهر مسؤول سعودي يكشف أسباب هذا التوقف الذي لم يصدر به قرارٌ ملكي، أو توضيحٌ رسمي، ليبقى السؤال: لماذا أوقفت المملكة حصتها الشهرية للسلطة الفلسطينية؟
العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله ورئيس السلطة الفلسطينية أبومازن
حماس – دحلان.. وزيادة التوتر
تباين واضح في السياسة الخارجية للسعودية وفلسطين حيال بعض الملفات الإقليمية وصل إلى حد التلاسن الإعلامي، بصورة زادت من حدة التوتر بين الجانبين، وهو ما كشف عنه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبومازن خلال تصريحاته التي حذر فيها العواصم التي تحاول التدخل في الشأن الفلسطيني، مهددًا بقطع الأيدي التي تحاول التدخل لمصالحها في مؤسسات وإرادة الشعب الفلسطيني، متطابقة مع ما قاله عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد، إذ استنكر ما وصفه «بالتدخلات العربية» في الشأن الفلسطيني.
اولى الملفات التي ساهمت في تعكير الأجواء بين الرياض والحكومة الفلسطينية تتعلق بالمصالحة مع حركة المقاومة الإسلامية “حماس” والتي كانت برعاية سعودية، حيث عرقلت حكومة أبومازن جهود المملكة نحو تقريب وجهات النظر مع الحركة، ما وضع السعودية في موقف حرج أمام حماس من جانب، والشعوب العربية التي تعهدت أمامها بحل هذه الأزمة من جانب آخر.
الضغط السعودي على أبومازن وحركة فتح بشأن المصالحة مع حماس، اعتبرته الحكومة الفلسطينية نوعا من التدخل المرفوض في شئونها الداخلية، وهو ماعكسته التصريحات المختلفة هنا وهناك، سواء الصادرة عن رئيس السلطة نفسه أو أعضاء حركته، ما تسبب في فجوة كبيرة بين الرياض ورام الله.
ففي فيديو نشر مؤخرا تضمن كلمة “ساخنة” للرئيس محمود عباس حذر فيها الذين يستهينون بإستقلالية القرار الفلسطيني من مغبة التدخل في القرار الفلسطيني، والتلاعب بحق تقرير المصير، وإن لم ذكر أبومازن العواصم، وإذا كانت عربية أم غير عربية، لكنه بدا غاضباً ما يدل على أن هناك أزمة حقيقية، وأن جهات تحاول التدخل بالقرار الفلسطيني الداخلي.
الضغط السعودي على أبومازن وحركة فتح بشأن المصالحة مع حماس، اعتبرته الحكومة الفلسطينية نوعا من التدخل المرفوض في شئونها الداخلية
ثاني الملفات الشائكة التي ألقت بظلالها القاتمة على أجواء العلاقات السعودية الفلسطينية، تلك المتعلقة بالمصالحة بين القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، والرئيس ابومازن، حيث سعت الرياض من خلال لجنة رباعية ضمت معها مصر والإمارات والأردن، إلى تقريب وجهات النظر بين الخصمين، عباس ودحلان، وإعادة الأخير لفلسطين وحركة فتح مرة أخرى وذلك بعد فصله في 2011.
الخبراء والمحللون الفلسطينيون رأوا أن هذه المصالحة مفروضة على السلطة الفلسطينية بصورة غير مقبولة، وهو مانشرته التقارير الإسرائيلية والعربية على حد سواء، والتي تحدثت عن فقدان «أبو مازن» القدرة على مقاومة ضغوط كل من النظام المصري ودولة الإمارات، من أجل إنجاز مصالحة مع دحلان، وهو ما لمّح إليه رئيس حكومة التوافق، رامي الحمدالله، حينما اشتكى، في تصريحات قبل أيام، من غياب وفاء الإمارات بإلتزاماتها المالية تجاه السلطة منذ أكثر من خمس سنوات هي عمر خصومة الرجلين.
وبالرغم من إتساع قائمة أعضاء حركة “فتح” النافين لإحتمالية إجراء مصالحة مع دحلان، والتي ضمت كلّ من الطيب عبد الرحيم وحسين الشيخ وسلطان أبو العينين وماجد فرج وجبريل الرجوب، وكل منهم له حساباته الخاصة مع دحلان من موقعه السابق أو الحالي في السلطة، إلا أن هناك بعض الشواهد تشير إلى استجابة أبومازن للضغوط المصرية السعودية، وهو ما أكدته مصادر خاصة في الحركة حول تراجع عباس و”المركزية” عن الإجراءت التي اتخذوها بحق عدد من القيادات المحسوبة على دحلان، وأن هذه الخطوة “استجابة للمبادرة العربية لرأب الصدع داخل فتح، وإنجاز مصالحة شاملة”.
القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان
التقشف لمواجهة الأزمة الإقتصادية
تعاني المملكة في الأونة الآخيرة من أزمة إقتصادية حادة، جرّاء تراجع أسعار النفط العالمية ماتسبب في هزة عنيفة خاصة وأن مايزيد عن 85% من الإقتصاد السعودي قائم على عائدات النفط، مادفع الرياض إلى إتخاذ حزمة من الإجراءات التقشفية الحادة.
هدفت الحكومة السعودية من وراء إجراءاتها التقشفية إلى محاولة سعد العجز في الميزانية العامة للدولة والذي تجاوز الـ20%، حيث عمدت إلى تخفيض الدعم للمحروقات والكهرباء والماء وبعض السلع الأساسية الأخرى، إضافة إلى دراسة إمكانية فرض ضرائب على الدخل والتحويلات الخارجية بالنسبة الى الأجانب، وزيادة بعض الرسوم على تجديد الإقامات ورخص القيادة والخدمات البيروقراطية الرسمية الأخرى، كما تضمنت أيضا تقليل مرتبات الوزراء وموظفين حكوميين والميزات المخصصة لهم، وبحسب مرسوم ملكي، فقد تقرر خفض مرتبات الوزراء بنسبة 20 في المئة ووضع حد أقصى على العطلات والخدمات الأخرى للموظفين.
تعاني المملكة في الأونة الآخيرة من أزمة إقتصادية حادة، جرّاء تراجع أسعار النفط العالمية ماتسبب في هزة عنيفة خاصة وأن مايزيد عن 85% من الإقتصاد السعودي قائم على عائدات النفط، مادفع الرياض إلى إتخاذ حزمة من الإجراءات التقشفية الحادة.
تأتي هذه الإجراءات التقشفية ضمن الخطة التي أعلن عنها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والتي كانت تحت عنوان رؤية “2030” بهدف تنويع الإقتصاد السعودي، وتهدف إلى التأسيس لقدر أكبر من المسؤولية، ومضاعفة حجم الإقتصاد وخلق 6 مليون وظيفة في السعودية خلال الخمس عشرة سنة القادمة، حيث يتطلب هذا قدرا هائلا من الإستثمارات الأجنبية، فضلا عن تقليل النفقات، وإعادة النظر في إلتزامات المملكة داخليا وخارجيا، وهو ما انعكس بصورة سلبية على الدعم المقدم للدول العربية والإسلامية ومنها فلسطين.
حزمة من الإجراءات التقشفية السعودية لمواجهة الأزمة الإقتصادية الطاحنة
ضغط سياسي أم أزمة إقتصادية؟
هناك أراء تقول أن الخطوة السعودية الخاصة بوقف حصتها الشهرية للسلطة الفلسطينية، جاءت نتيجة الضغوط الإقتصادية التي تواجهها المملكة في الفترة الآخيرة، والتي انعكست بصورة واضحة على التعهدات التي قطعتها الرياض على نفسها حيال بعض الجهات والكيانات المسلمة، علما بأن فلسطين ليست الجهة الوحيدة التي أوقفت السعودية دعمها لها.
إضافة إلى زيادة أعباء المملكة المادية جراء التكلفة الباهظة لجهودها العسكرية في اليمن وسوريا والتي لايمكن أن تتراجع عنها مهما دفعها ذلك لمزيد من إجراءات التقشف الصعبة، والتنصل من أي إلتزامات خارجية أخرى.
وفي المقابل هناك من يرى أن وقف المساعدات السعودية للسلطة الفلسطينية جزءا من خطة الضغط والإبتزاز السياسي الممارس على حكومة أبومازن بسبب التباين في المواقف السياسية كما تم ذكره سابقا.
الرياض تسعى إلى تفعيل مبادراتها الخاصة بإجراء مصالحة بين فتح وحماس من جانب، وبين أعضاء فتح الحاليين والمفصولين وفي مقدمتهم محمد دحلان من جانب آخر، إلا أن أبومازن ارتأى أن هناك مخطط رباعي سعودي مصري إماراتي اردني يهدف إلى إعداد دحلان ليكون بديلا لعباس في الفترة القادمة، وهو مادفعه إلى عدم التجاوب بالشكل الكامل مع هذه الضغوط، وماكان أمام الرياض سوى الضغط بالمال والدعم.
السعودية بضغطها أو إن شئت قل بخنقها للسلطة الفلسطينية من خلال وقف المساعدات لا تستهدف أبومازن فقط، بل ملايين الشعب الفلسطيني بالكامل، وهو ما انعكس على حجم العجز في الموازنة التي أقرتها الحكومة الفلسطينية للعام الحالي، حيث إرتفع حجم العجز إلى 386 مليون دولار، وهو ما دفع الحكومة لإتخاذ عدد من الإجراءات التقشفية فيما يخص الرواتب.
وكانت الحكومة الفلسطينية قد أقرت مشروع الموازنة العامة للعام 2016، بقيمة بلغت 4.25 مليارات دولار، تضمنت 3.9 مليار دولار للنفقات الجارية، و350 مليون دولار للنفقات التطويرية، فيما شكل العجز 386 مليون دولار بمعدل شهري 32 مليون دولار.
سواء كان القرار السعودي بوقف الدعم المقدم للسلطة الفلسطينية ضغطًا سياسيًا على أبومازن لقبول المصالحة مع حماس وإعادة محمد دحلان مرة أخرى، أو كان خضوعًا لحزمة الإجراءات التقشفية التي أتخذتها المملكة مؤخرا في الداخل والخارج للخروج من الأزمة الإقتصادية الطاحنة، إلا أن القضية الفلسطينية لايمكن أبدا أن تكون محل إبتزاز أو مساومة لمصالح دولية هنا وهناك، خاصة وأن فلسطين هي قضية العرب الأولى، وترمومتر القوة العربية والقرار العربي في مواجهة غطرسة الكيان الصهيوني والمجتمع الدولي.